إيرول موريس : عن الوثائقي والخيالي والواقع

أمير العمري

يعتبر المخرج إيرول موريس من أهم المخرجين الأمريكيين المتخصصين في إخراج الأفلام الوثائقية، ربما لا يضارعه في هذا المجال سوى مايكل مور. وقد حقق بدوره نجاحا كبيرا بأفلامه المثيرة للجدل مثل “بوابات الجنة” (1978)، “الخط الأزرق الرفيع” (1988)، “تاريخ مختصر للزمن” (1992)، “ضباب الحرب” (2003) وأخيرا “المجهول المعلوم” الذي سبق أن قدمت له عرضا نقديا في هذا الموقع عند عرضه في مهرجان فينيسيا 2013.
إيرول موريس يصنع أفلامه الوثائقية بأسلوبه الخاص الذي يراه البعض “غريبا”، أو حتى “متطرفا”، فهو يجري المقابلات مع الشخصيات التي يختارها لأفلامه بعناية تامة داخل الاستديو الخاص به، ويديرها بشكل صارم وبطريقة باردة حيث يسلط الكاميرا على المتكلم ويتركه يتحدث كما يشاء ردا على أي سؤال يوجهه له، وعادة ما يترك له المجال طويلا ثم يجري المونتاج فيما بعد بالطبع. هذه الطريقة التي يراها البعض نوعا من “التعذيب” بالنسبة للطرف الآخر، تنجح في اقتناص الكثير من الحقائق التي تتدفق من فم المتحدث ربما رغما عنه، وعادة ما تكون لها أهمية قصوى، خاصة إذا كان المتحدث شخصية مثل روبرت مكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق وقت حرب فيتنام أي في عهد إدارة الرئيس نيكسون، أو دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في إدارة الرئيس جورج بوش الإبن وقت حربي العراق وأفغانستان.
إن أمثال هذه الشخصيات لا تتحدث فقط عادة في إجابة مباشرة عن السؤال الذي يوجه إليها، بل تعكس خلال إجاباتها انفعالاتها وهواجسها وفلسفتها الشخصية، ويتسرب خلال حديثها، الكثير من الأشياء “الشخصية” التي تكشف جوانب كانت دائما غامضة في شخصية المتحدث، وتساعد في فهم دوافعه وعلاقته بما إتخذه من مسار في مجال العمل العام.
يمزج إيرول موريس هذه المقابلات مع لقطات ومشاهد أعاد تركيبها أو ابتكرها أو تعتبر إعادة تمثيل لحدث ما أولموقف ما، بما قد يعطي الانطباع أحيانا، أنه يستخدم الدراما في الوثائقي، خاصة إذا كانت المعلومات التي تتدفق أمامنا على الشاشة كلها معلومات موثقة وحقيقية.

إيرول موريس

صحيفة “الجارديان” البريطانية إعتبرت إيرول موريس سابع أهم مخرج سينمائي في العالم. ومن خلال هذا الحديث المركز نود أن يتعرف القاريء على شخصية موريس وطريقته، ليس فقط في العمل، بل أساسا، في التفكير، وذلك من خلال هذا الجزء من حوار بين المخرج الألماني الكبير فيرنر هيرتزوج وإيرول موريس:

هل تعتقد أنك تنتمي لتقليد معين في إخراج الفيلم الوثائقي أم أنك الوحيد الذي تعمل طبقا لأسلوبك الخاص؟
دعني أقول لك مباشرة: نعم أنا أصنع أفلاما وثائقية لا تشبه ما يصنعه غيري.. وربما يكون هذا نفسه شعور أي مخرج غيري، ولكني أعتقد انني ابتكرت أسلوبا مختلفا في عمل الفيلم الوثائقي. ربما لا أكون الأفضل، لندع الحكم لغيري، ولكن منذ أن أخرجت فيلم “بوابات الفردوس” قررت أن أتخذ أسلوبا مناقضا تماما لأسلوب “سينما الحقيقة”  cinema verite بمعنى أننا إذا تخيلنا كل العناصر التي تميز اسلوب سينما الحقيقة، نرى أنني قد خالفتها بل واستخدمت أسلوبا مناقضا لها، بدلا من أن أدعي الموضوعية والاختفاء راء الكاميرا بحيث لا يصبح حتى للكاميرا وجود محسوس، بل أفضل أن أبدو مقتحما ومباشرا، أضع الذين أحاورهم مباشرة أمام الكاميرا، أجعلهم ينظرون بشكل مباشر في عدسة الكاميرا وهم يجيبون عن أسئلتي.. أستخدم الإضاءة، أستخدم إعادة تمثيل الحدث أو الموقف أو المواد المصورة التي قمت باعادة بنائها وتصميمها. لقد كان جودار يقول إن “الفيلم هو الحقيقة 24 مرة في الثانية”.. وأنا أفضل القول إن “الفيلم هو الكذب 24 مرة في الثانية”!
هناك عنصر وثائقي في أفلامي، عنصر وثائقي طويل للغاية، أعني أنه عنصر خارج السيطرة، لا يمكنني التحكم فيه.. هذا العنصر هو الكلمات، اللغة التي يستخدمها الذين أجري المقابلات معهم. إنها لغة غير مكتوبة ولم يسبق لي التدرب عليها بل هي تعبير مباشر وتلقائي. الناس يتحدثون عن أفكارهم، وما يدور بخلدهم، عن الاشياء التي وقعت لهم. من الاشياء الملفتة للنظر أنني عندما عرض فيلم “الخط الأزرق الرفيع” لم يكن الناس معتادين على مشاهدة إعادة التمثيل في الفيلم الوثائقي. كان هناك من إتهمني بأنني الذي كنت المسؤول في إستخدام طريقة إعادة تمثيل الحدث ومن ثم إنتقال هذه الطريقة إلى التليفزيون. وقد كتب أحد النقاد وقت عرض الفيلم يتهمني بأنني أحاول إقناع المشاهدين بأنني قمت بتصوير جريمة القتل فعلا. هل صدق اي شخص ممن شاهدوا الفيلم أنني كنت أصور الجريمة الحقيقية؟ وأنني كنت مع فريق التصوير ومعنا كاميرا من مقاس 35 ملم هناك ليلة وقوع الجريمة؟ توقفنا عند إشارة مرور بالصدفة؟ آمل ألا يكون الأمر كذلك. لكن إذا كنا بصدد عمل فني، أو صحفي أو أيا ما كان، لا يحمل أي مخاطر من أي نوع، فلن يكون هذا عملا فنيا ولا صحفيا ولا أي شيء. من الذي يمكنه أن يعرف فيم يفكر الناس؟ لم تكن اعادة تمثيل الحدث في فيلم “الخط  الأزرق الرفيع” عرضا للحقيقة.. على العكس، كانت مصممة لكي تقودك إلى عكس الحقيقة.. إنها تجسيد لما يزعم الناس أنه وقع، لكنه لم يقع. إنها تعبير ساخر مجازي، تجعلك تفكر في العلاقة بين الصور والعالم، في مغزى المشاهدة والاعتقاد، في قدرتنا على الاعتقاد.. في سذاجتنا في الاعتقاد.. رغم وجود أدلة كثيرة تشير إلى عكس ما نعتقده. ولهذا فإن اعادة تمثيل الحدث مهمة للغاية فيما أفعله.

ربما يكون الأمر متعلقا بطريقة بناء قصة الفيلم، فالمشاهدون يرغبون في معرفة ما اذا كان ما يشاهدونه “حقيقيا” أم لا، ولا يحبون إحباط توقعاتهم..
الأمر يخضع للسؤال التالي: هل يضمن الأسلوب الحقيقة؟ هل نشر خبر ما في صحيفة “نيويورك تايمز” مثلا، يضمن أن يكون الخبر صادقا. هل يمكن أن نقول إن الخبر حقيقي لمجرد أنه ينشر في مطبوعة معينة ببنط محدد وشكل محدد؟ كثير من الناس يفكرون بهذه الطريقة. لقد أصبحوا الآن ينشرون كل المقالات والأخبار في “نيويورك تايمز” ببنط موحد على أي حال.

سمعت أنك قلت ذات مرة أنك أعلنت الحرب على “سينما الحقيقة”؟
إلى حد ما.. لا أظن انها حرب بالمعنى الشائع.. لقد سألني أحدهم مؤخرا عن تحول الفيلم الوثائقي إلى فيلم له شعبية، ولكن عندما نتحدث عن الوثائقي يجب أن يكون واضحا أننا نتحدث عن أشياء مختلفة. إننا نتحدث عن أساليب مختلفة، من سينما الحقيقة إلى أفلام “الكولاج” التي كان يصنعها كريس ماركر ودزيجا فيرتوف. حتى سينما الحقيقة نفسها ليست نوعا واحدا فقط.. بل تتباين الأنواع. فهناك الأفلام التي يحرص مصوروها على متابعة الحدث بدقة دون أن يكون وجود الكاميرا محسوسا، بكاميرا ممسوكة باليد وباستخدام ما هو متاح من الضوء،  من أول أفلام فريد وايزمان إلى كل أنواع الأفلام الإخبارية، ويمكن أن يكون الفيلم فيلما من الأفلام المصورة لتليفزيون الحقيقة، أو من أفلام اليوميات أو من الأفلام التي تكتفي بعرض شرائح مصورة مع تعليق صوتي مصاحب، وقد تشمل تحريك عدسة الزوم إلى الأمام او الخلف، أو أفلاما تعتمد على المقابلات المصورة. أنواع الأفلام الوثائقية كثيرة جدا.

إن ما لا أحبه في “سينما الحقيقة” هو إدعاؤها أنها تضمن لك أن ما تعرضه هو حقيقة ما يجري في الواقع. هذه هي المشكلة أي إدعاء أن الفيلم أكثر إخلاصا لتصوير الحقيقة لمجرد أنه مصور بطريقة معينة، بكاميرا محمولة حرة بأي إضاءة متاحة، بطريقة التصوير غير المحسوس..إلخ. إنني أجد ان الأفلام التي أخرجها لا تقل إخلاصا للواقع عن أفلام سينما الحقيقة بل ربما تفوقها في هذا الجانب.

إنني أتساءل عما إذا كان يمكن تطبيق هذا على الصحافة المكتوبة؟
لا أعتقد ان من الممكن القول ما إذا كانت صورة معينة حقيقية أم مزيفة. لا أظن أن زعما كهذا له أي معنى. يمكنك القول ما إذا كان التعليق المكتوب اسفل الصورة حقيقي أم زائف لأن هناك عنصرا لغويا. يمكنك أن تحدد ما إذا كانت الصورة لحصان أم لبقرة، ولكن الكلام الذي يصف الصورة هو الذي يحدد ما إذا كانت الصورة حقيقية أم زائفة وليس الصورة نفسها. الحقيقي والزائف مسألة تتعلق باللغة.
لقد كنت أحضر عرض فيلمي “ضباب الحرب” قبل أيام وهناك سألني أحدهم عن فيلم “راشومون” لكيروساوا، وعن التعليق الذي قلته عند عرض فيلمي “الخط الأزرق الرفيع”، حينما قلت إنني لا أعتقد أن هناك ما يسمى بالحقيقة الذاتية، أعتقد أن هناك شيئا ما لا يجعلها كذلك. إنني أجد ان أفكارا مثل: لا يوجد واقع، وأن الحقيقة نهائية ومستقرة هناك، أو أن الحقيقة ذاتية، كلها أفكارا حمقاء لا تثير الاهتمام. ولكن هناك نظرية أخرى أؤمن بها بشدة، هناك شيء يدعى الحقيقة لكننا نميل إلى عدم رؤيتها. في فيلم “الخط الأزرق الرفيع” هناك حقيقة من الذي أطلق الرصاص على الشرطي: شرطي في دالاس يوقف سيارة بسبب عدم إضاءة الأنوار الامامية، يتجه نحو نافذة السائق، فيجذب السائق مسدسا من تحت مقعده ويطلق الرصاص على الشرطي خمس مرات. هناك الكثير من الاحتمالات القليلة جدا، ولكن الذي أطلق الرصاص إما أنه راندال آدامز أو ديفيد هاريس، ولا يمكن أن يكون التساؤل عمن أطلق النار مسألة مفتوحة للتأويلات. قد لا نملك الأدلة التي تسمح لنا بمحاكمة الشخص لكن تكمن داخل السؤال حقيقة مادية. إنني واقعي بهذا المعنى. إنني أؤمن بالعالم الحقيقي. أتعرف؟ رغم أن برتراند راسل يقول في “نظرية الأوصاف”  theory of descriptions إنه لا يوجد أي شك في أن ملك فرنسا كان إما أصلع الرأس أو ليس أصلعا، فربما يتوصل الهيجيليون (معتنقو فلسفة هيجل)  في النهاية إلى أنه كان يرتدي باروكة شعر. فالهيجيليون مغرمون بالافتراضات النظرية. لا أريد أن أبدو مهتما أكثر مما ينبغي بأشياء صغيرة ولكن بالنسبة لي فإن هذه الأشياء مهمة جدا جدا جدا.
لقد شاهدت فيلم راشومون” منذ شهر تقريبا، ثم أعدت مشاهدته، ولدهشتي الكبيرة وجدت أن “راشومون” ليس “راشومون” أي أن راشومون ليس فيلما عن ذاتية الحقيقة، أو أنه لا توجد حقيقة موضوعية بل ذاتية فقط، حقيقة لك وحقيقة لي. على العكس، إنه فيلم عن كيف يرى كل منا العالم بشكل مختلف عن الآخر. ولكن ليس معنى هذا أنه لا توجد حقيقة موضوعية. إن ما أدهشني بعد أن شاهدت “راشومون” أنك تعرف ما حدث حقا في النهاية. إنه واضح جدا.
 


إعلان