وثائقي “أولاد عمار”… المقاومة الافتراضية
وسيم القربي- تونس
لا يزال الغموض قائما حول خبايا الثورة التونسية بقطع النظر عن مدى استفادة المواطنين من هذه التغيّرات أو التأثيرات والخيبات التي فرضتها… بقي الجدل قائما إلى اليوم حول حيثيات نشوب الثورة وإثارة غليان الشارع، وإذا كانت للعفوية الشعبوية دور كبير في إحداث التغيير الديمقراطي في تونس فإنّه غير بعيد عن ذلك كانت هناك أياد تتحرّك ما وراء الشاشة…
من بين هذه الأيادي الخفيّة نجد أيادي المدوّنين الذين كان لهم دور كبير في نقل الصورة عبر الأنترنيت وتأجيج انتفاضة شعبية وتحديد مكانها وزمانها مما أربك شرطة بن علي. في هذا السياق يتنزّل الفيلم الوثائقي التونسي “أولاد عمّار” للمخرج الشاب نصر الدين بن معطي، وهو شاب من مواليد 1990 كانت له مشاركات ضمن نوادي سينما الهواة قبل أن تُتاح له الفرصة لدخول عالم الاحتراف برعاية المنتجين عماد مرزوق ودرّة بوشوشة وقد تمكّن من إخراج هذا الشريط الذي يدوم 61 دقيقة وقد شارك به ضمن قسم “ليالي عربية” في مهرجان دبي السينمائي.

“أولاد عمار” هو رحلة في عالم المدونين التونسيين، هناك في ذلك العالم الافتراضي يناضل مجموعة من الشباب لمنع رقابة الأنترنيت ولتدعيم حرية التعبير ولتمرير مواقف سياسية ضدّ ديكتاتورية بن علي. الفيلم هو عودة لأحداث الحوض المنجمي سنة 2008 حيث كان المدوّنون هم الناقل الوحيد للأخبار من هناك عبر مدوّناتهم التي كانت تُحجب الواحدة تلو الأخرى. وعبر شهادات مجموعة من المدونين الناشطين أمثال هيثم المكي وسفيان الشورابي وعزيز عمامي وسليم عمامي ولينا بن مهني وياسين العياري… يكشف لنا الوثائقي معاناة مجموعة من المؤمنين بقضايا الحرية في زمن الصمت حيث يروون بكل لذة ومرارة سنوات القمع وما تعرّضوا له من تهديدات ومنع واعتقال في الكثير من الأحيان.
“أولاد عمار” هو تأريخ لسنوات الرقابة الإلكترونية حيث كانت الأنترنيت تخضع لرقابة تامة من بوليس نظام بن علي الذي كان يشدّد الخناق على حرية التعبير، وقد نظّم الناشطون حملة “سيّب صالح”/ “نهار على عمّار” احتجاجا لما شهدته المواقع الالكترونية من حجب وكانت من بين الانتفاضات الأولى التي عبّر فيها المدونون عن امتعاضهم من المنع الجائر منادين بتحرير الإبحار الالكتروني. وقد كان لاعتقال المدوّن زهير اليحياوي دور كبير في نشأة هذه الحركة الافتراضية التي ستساهم في ما بعد بالإطاحة بنظام بن علي.
ويعود عنوان الفيلم” أولاد عمار” إلى الكنية التي أطلقها المدوّنون على رقيب الأنترنيت في تونس الذي سمّوه بـ “عمّار 404″ وهو نوع من السخرية نظرا لكون المسؤولين عن الرقابة الالكترونية كانوا يبرّرون حجب الصفحات بكون المُبحر قد أخطأ في عنوان الموقع وهو استبلاه لجيل الشباب التونسي الذي كان واعيا بذلك وهو ما جعلهم يطلقون عليه تلك التسمية. و”أولاد عمار” هو نسبة إلى ذلك الجيل الذين قاموا الرقيب/ المقصّ “عمار” طيلة سنوات من القمع والتضييق عن الحريات بأشكالها المتعددة، وهم الذين ساهموا بنسبة كبيرة في اندلاع الثورة التونسية حيث أنّ أحد هؤلاء المدونين هو من نقل صورة “البوعزيزي” وهو يحترق كما أنّ هؤلاء المدونين كانوا يتبادلون المعلومات والتعليقات ويحيّنون الأخبار القادمة من الداخل لنقل الانتفاضة الشعبية في ما بعد إلى العاصمة. من ناحية أخرى كانت القنوات التلفزيونية الإخبارية تبثّ بدورها مما يوثقه هؤلاء المدوّنون من فيديوهات.

جيل من المدونين الشباب الذي كان سلاحهم افتراضيا ولم يكونوا منخرطين في منظمة أو غيرها بل كانت معرفتهم لبعضهم البعض لا تتخطى في غالب الأحيان سرادق العالم الافتراضي… نجحوا في تغيير صورة. يرصد الشريط الوثائقي نجاح شباب من المدونين في إشعال ثورة الكرامة من وراء الشاشة عبر الإبحار في عالم افتراضي محفوف بالمخاطر، هناك خلقوا عبر شبكة التواصل الاجتماعي تيارا من المقاومة الافتراضية.
نجح المخرج الشاب في توثيق الثورة بشكل آخر عبر تقنية بسيطة وكوميديا سوداء، غير أنّ الدفاع عن الحريات في تونس لا يزال قائما بحكم تواصل قمع الحريات بين الفينة والأخرى غير أنّ الثابت أنّ “عمّار” قد تلاشى إلى الأبد بعد أن كانت الشرطة الإلكترونية سببا في سجن العديد من الشبان الذين عبّروا عن مواقفهم السياسية عبر الانترنيت حيث كان المئات من المراقبين وراء حواسيبهم بصدد تتبع المواقف والآراء.
لا تزال الثورات ملهمة للمخرجين ومنبعا يجعلنا ننتظر مزيدا من الوثائقيات حول الثورات الديمقراطية بأشكالها المتعددة وهو ما يجعل للفيلم الوثائقي العربي مجالا للبروز ضمن سينمات العالم عبر هذه المواضيع الثورية ولعلّ ترشيح الفيلم الوثائقي المصري “الميدان” لجوائز الأوسكار يجعل من الوثائقيات المحلية فرصة لفرض الذات في ظلّ عدم قدرة الأجناس الإبداعية الأخرى مقارعة إبداعات الآخر.