التقنية الإيهامية في فيلم “مطرٌ على جيكور”

عدنان حسين أحمد
تحتاج الأفلام الروائية الثقافية إلى تركيز مضاعف كي لا يفلت موضوع الفيلم من مُشاهِده أو مُتلّقيه ويتبدّد من بين يديه تبدّد حفنة الرمل من بين أصابع الكف المفتوحة. فالفيلم الثقافي المزمع مشاهدته والاستمتاع به يحتاج إلى خلفية ثقافية تُعين المتلقي على فهم التفاصيل الكامنة في طياته. وفيلم “مطر على جيكور” للمخرج جودي الكناني هو من نمط هذه الأفلام التي تحتاج إلى معرفة بشاعر عراقي كبير من طراز بدر شاكر السيّاب، معرفة بسيرته الذاتية، وشعره، ورؤآه الفنية والسياسية والاجتماعية والروحية. فهذا الشاعر تجاوز حدود الوطن والإقليم الذي يعيش فيه إلى العالم العربي برمته. وربما لا نغالي إن قلنا بأنه قد لامسَ الفضاء العالمي بشكل من الأشكال.
لم يلجأ جودي الكناني إلى التعاطي مع موضوع الفيلم بطريقة تقليدية لأن همّه الأساسي يقع خارج الأطر التقليدية التي ملّ منها المشاهد النوعي الذي يبحث عن أشياء جديدة غير مطروقة من قبل. يا تُرى، هل أن فيلم “مطر على جيكور” هو من نمط هذه الأفلام غير المطروقة؟ وهل نجح المخرج في إيصال رسالته الفنية إلى هذا المتلقي النوعي الذي يبحث عن أشياء جديدة لم يألفها من قبل؟ لا يمكن الجزم بهذا الموضوع قبل أن نلج إلى تفاصيل الفيلم ومحطاته الرئيسة التي تجمع بين ثيمة الفيلم، ورؤاه الفنية، وخطابه البصري الذي يعتمد على الأطاريح السينمائية التي يزعم الكناني أنها غير مألوفة في الأقل.

جودي الكناني

دلالة التاريخ
في مستهل الفيلم يواجهنا التاريخ 24 ديسمبر الذي نقرأه على الشاشة ولابد أن يحضر ميلاد السيد المسيح عليه السلام في ذاكرتنا لأنه حدث كوني معروف. وما إن نفرغ من رمزية هذا التاريخ ودلالته التي ستتعزز خلال ثوانٍ قليلة بعد أن نسمع أجراس الكنائس والأب الذي يعطّر بمبخرته فضاء الكنيسة حتى نُصدم بمشهد التابوت المثبّت على سيارة أُجرة في طريق صحراوية قاحلة تحجبها بين أوانٍ وآخر الرمال المتحركة مغطّية السيارة والشارع ومدى رؤية المشاهدين. حينما تقترب السيارة أكثر تتضح ملامح الشخصيات الثلاث بداخلها ونكتشف أن السياب يريد أن يحضر موته. كما أن رقم لوحة السيارة هو “20322 / كويت” وكأن المخرج يريد منا أن ننتبه لهذا الرقم تحديداً، ثم نكتشف بعد التدقيق في ملفات موت الشاعر أن هذا الرقم هو الرقم الحقيقي للسيارة التي نقلت جثمان الشاعر من الكويت إلى البصرة.
لقد نهض السياب من موته لكي يرى شريط حياته منذ الولادة وحتى الوفاة. وسوف يرى نفسه صبياً صغيراً، وشاباً يافعاً، ورجلاً مكتمل النضج. كما سيتوقف عند أبرز المحطات الوجودية والعاطفية والثقافية في حياته التي يعتبرها طويلة جداً من وجهة نظره على الرغم من أنه لم يجتز الثامنة والثلاثين!
لابد أن تحضر القصائد بقوة في هذا الفيلم الروائي الثقافي. كما يجب أن تلتمع العبارات الفلسفية هنا وهناك سيما وأن شذرات الوجود والعدم تتلألأ بين أوان وآخر في أحاديث الشاعر وجده. فما إن يصل بدر إلى الشارع ويرى اسمه مكتوباً على شاهدة قبره حتى تتداعى في ذهنه الخطرات الفلسفية التي ألبسها لبوس النص الشعري المتوهج حيث نقرأ: ” قرأتُ اسمي على صخرة / هنا في دهشة الصحراء / على آجرّة حمراء / على قبرٍ /  فكيف يحس إنسان يرى قبره؟ /  يراه وهو يحار فيه / أحي هو أم ميت؟ ثم تنهال الأسئلة المتبادلة بين الشاعر وجدّه من قبيل: هل كنت تعلم قبل الولادة شيئاً عن الحياة؟ أو استفسار الشاعر من جده عن معنى الأبدية فيأتيه الجوب: “أن تعي موتك. مُت تعي”.

محطات رئيسة
على الرغم من أن هذا الفيلم ليس سيرة ذاتية للشاعر إلا أن المخرج وكاتب النص لم يستطع أن يتفادى الوقوف عند بعض المحطات الرئيسة في حياة السياب لعل أبرزها “بُويب” الجدول الصغير الذي يخترق بساتين جيكور حيث كان السياب”الطفل” يشاهد صورة أمه التي يشعر أنها حرمته مبكراً من حنانها حين فارقت روحها جسدها عام 1932 وهو في سنّ السادسة فلا غرابة إن كان يلوذ بقبرها كلما شدّهُ الحنين الغامض إليها. تحتشد في ذهن الطفل “السياب” حزمة من الأسئلة المؤرقة فيسأل جده: ما الذي علّمتك إياه الحياة؟ فيأتيه الجواب شعرياً مخلوطاً بشذرات فلسفية: ” إذ يتسع الأصيص يابُني لزهرتين مختلفتين لكن يضيق العالم أبداً لقاتل وقتيل”.

يقوم الفيلم برمته على الاستذكارات الذهنية المُستعادة عن قصد مسبق من قبل المخرج فهو الذي يريدنا أن نرى هذه الجوانب على وجه التحديد مثل ذهاب السياب إلى المدرسة، واللعب مع الأطفال، وتأمل صورة وجه أمه المتراقص على سطح الماء، ومقتل الفلاح في البستان، وشبّاك وفيقة، والباب الأزرق في أبي الخصيب وما إلى ذلك من أحداث وأمكنة مُؤسسة لمتن الفيلم على الصعيدين الظاهري والباطني. ثمة أحداث مهيمنة لابد من الوقوف عندها طويلاً مثل “المومس العمياء” التي كان اسمها رجاء لكن حينما اغتصبها الجنود العراقيون أبدلوا اسمها إلى صباح فقال فيها هذه الأبيات المؤثرة: “الله عز وجل شاء / أن لا يكنَّ سوى بغايا أو حواضن أو إماء / أو خادمات يستبيح عفافهن المترفون”.

علاقاته الشخصية
للسياب علاقات واسعة خلال مرحلة دراسته في معهد المعلمين العالي وقد وردت الإشارة ضمن سياق الفيلم إلى البياتي وحسين مردان والجواهري لكن اختيار المخرج وقع على الشاعر والكاتب المسرحي خالد الشوّاف الذي سيخوض معه نقاشات معمّقة عن النص الإبداعي والنص المؤدلج وانتماءه إلى اللسان أو اللغة العربية على وجه التحديد، وسبب تفضيله شكسبير على ناظم حكمت وأراغون وبابلو نيرودا وقسطنطين سيمونوف. وفي موازاة هذه العلاقات الثقافية المهمة ركّز المخرج جودي الكناني على طبيعة العلاقات العاطفية التي عقدها السيّاب مع بعض النساء حتى وإن كانت هذه العلاقات من طرف واحد. لقد اخترت التوقف عند هذا المشهد المهم تقنياً لأنه يرتبط بمبدأ الاستعادة الذهنية. فبينما يمشي السياب مع صديقه خالد الشواف تشتط مخيلته لتوحي لنا بأنه يُسمِع بعض أشعاره لفتاتين تسكنان في مخيلته. فربما يكون من طرف واحد حتى من جهة وفيقة التي كان يراها وهو في الطريق إلى مدرسته المتوسطة ولكن حري بنا أن نتوقف عند هذه الأبيات التي شاعت بين المحبّين حيث قال: ” أحبّيني وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا ولكن / كل ما أحببت قبلك ما أحبّوني ولا عطفوا عليّ”.
تتوالى فواجع السياب واحدة تلو الأخرى، فبعد وفاة أمه يتزوج أبو من امرأة أخرى تبدو للسياب وكأنها قد احتلت مكان أمه فإنكفأ إلى عمته آسيا، لكن هذه العمّة ستموت هي الأخرى وتترك في أعماقه فراغاً موحشاً وكآبة متواصلة، كما ستموت جدته التي كان يمحضها حُباً من نوع حتى أنه يصف نفسه بعد وفاتها مباشرة “بأنه أشقى من ضمّت الأرض”!.

تتعزز التقنية الإيهامية التي تقوم على فكرة الاسترجاع الذهني المقصود والمدروس سلفاً بأن تزوره عمته آسيا إلى المستشفى فنراها وهي الطريق إليه بلباس تقليدي، لكنها ما إن تلج الغرفة حتى تتبدى لنا بلباس راهبة، وهذا يعني أنه كان يراها كذلك فيما يراها المتلقون على أنها امرأة تقليدية لكنها تتمترس خلف ثقافة عميقة لا تخلو من نفَس فلسفي مُنبِّهة السياب إلى أن “الحرمان شيطان الشاعر” مع ما أنه لكل إنسان شيطانه ولا سبيل للتخلص من سطوته إلا بالاستعاذة أو جرّ الصليب: ” أنا المسيح يجر في المنفى صليبه”.

الفواجع الأُسرية
لابد أن تحتل العائلة موقعاً في هذا الفيلم. فزوجته المخلصة إقبال التي تشاركه أفراحه وأتراحه نراها في مواقف لا تُحسد عليها فإذا كان طفلاها الصغيران قد ناما من الجوع فإن الأب قد عاد مهموماً ومنكسراً لأنه فُصل من الوظيفة وكأنهم لم يكتفوا بسجنه فقرروا طرده من وظيفته الرسمية. وحينما يمرض السياب ترافقه إلى المطار بصحبة صديقه الكويتي علي السبتي الذي سينقله إلى إحدى مستشفيات الكويت. قد يبدو تذمّر السياب طبيعياً لأن أمره أصبح بيد المحسنين الكويتيين الذي تبنوا تكاليف العلاج.
يعتقد السياب رغم عمره القصير بأنه عاش طويلاً، وهذا التصور ليس صحيحاً على الإطلاق ولا يدلل إلاّ على المكابرة والسقوط المتواصل في الوهم فحينما يسأله الشاعر الكويتي علي السبتي إن كان خائفاً من الموت يرد عليه “بأنه قهر الخليج بعبّارة مثقوبة” و “أنه انتصر على الموت” بينما يشير واقع الحال أنه مات مبكراً جداً، بل في ذروة شبابه وعطائه الشعري، وهو لم يعش طويلاً، وإنما يمكن القول بثقة كبيرة بأن قصائده وأشعار هي التي ستعيش طويلاً في أذهان قرّائه ومحبي شعره.
ربما تكون الفاجعة المضافة للأسرة أن الشرطي غلق باب المنزل بالشمع الأحمر بينما ظلت الأسرة المفجوعة بلا سقف من حرّ الصيف وقرّ الشتاء. ومع ذلك نسمع صوت السياب مدوياً: “يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال / بين المعابر والسهول / وبين عالية الجبال / أبناء شعبي في قراه وفي مدائنه الحبيبة / لا تكفروا نعم العراق. وقبلها بقليل كان يتساءل مستفهما:
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون؟ / أيخون إنساناً بلاده؟ / إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟ / الشمس أجمل في بلادي من سواها / والظلام حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق”.

الشخصية المهيمنة
على الرغم من تعدد شخصيات الفيلم بدءاً من جدّ السياب وجدته وعمته آسيا، مروراً بأبيه وأمه وزوجة أبيه الثانية، وانتهاء بعائلته الصغيرة المؤلفة من زوجته إقبال وأطفاله الثلاثة من دون أن نغض الطرف عن بعض أصدقائه أمثال خالد الشواف وعلي السبتي، هذا إضافة إلى المومس العمياء التي فُجعت بمقتل أبيها، وجريمة اغتصابها لاحقا، والدفّان الذي سيواري السياب الثرى، كل هذه الشخصيات مُسهمة بشكل أو بآخر في تأثيث المتن السردي للقصة السينمائية.

لكن تظل شخصية السياب هي المهيمنة على مدار الفيلم والتي تحظى بقدر كبير من اهتمام المتلقي وهو يواجه شخصية لافتة للانتباه مثل السياب، لكن يا تُرى هل استطاعت هذه الشخصية التي جسّدها الممثل حيدر نجم عبد أن تتقمص شخصية السياب الدرامية بكل معنى الكلمة أم أنها ظلت بعيدة عن هذا الجانب الإشكالي الذي يحتاج إلى ممثل بارع يستطيع أن يستغور شخصية السياب ويستنطق مكامنها العميقة الغامضة التي تتمترس خلف مصدات وجودية ونفسية وفكرية وثقافية، لذلك كان الأداء التمثيلي، من وجهة نظري، أدنى بكثير من الصورة المرسومة في المخيلة الجمعية عن السياب ومكانته الثقافية والاجتماعية التي تنطوي بالأساس على أبعاد درامية تُغني بالضرورة أي عمل فني عنه سواء أكان سينمائياً أم مسرحياً أم تلفازيا.
لابد من الإشادة بدور الجد الذي لعبه الفنان مجيد عبد الواحد وكان معبّراً ومكتفياً بذاته لولا مغالاته في اللغة الثقافية المحلّقة بفلسفتها العالية ومعانيها العميقة وكان يمكن الاستعانة عن هذه اللغة المجنحة باللغة الثالثة التي تجمع بين سهولة اللغة المحكية وتجليات الفصحى وإشراقاتها. كما تجدر الإشارة إلى الفنان حسين السلمان الذي أتقن دور الدفان وقال أشياء كثيرة عبر ملامحة التعبيرية من دون أن ينبس بحرف واحد على مدار الدور المُسند إليه. وفي الختام لابد من الإقرار بأن “مطر على جيكور” يتوفر على مَشاهد بصَرية جميلة مثل مشهد المشاعل في مقبرة حسن البصري، ومشهد السياب الإيهامي وهو يقرأ قصيدة لفتاة جميلة يلتمس منها أنه تحبه، ومشهد الرقص والغناء على زورق الصيد المبني بناء فنياً مرهفاً يدلل على قدرة المخرج جودي الكاني في استنطاق الجمال وإخراجه من مكامنه المخبأة لأنه يعرف كيف يحرّك المشاعر الداخلية للممثلين ويستفزّ مخيلة المشاهدين على حد سواء.


إعلان