” المطبقية” السينما الهندية الجديدة

ندى الأزهري

علاقة غامضة لعلها قصة حب بالمراسلة في فيلم آت من مومباي، لكنه بعيد عن بهرجة سينما بوليوود وعن التبسيط والمبالغة العاطفية اللتان تطبعان تلك السينما.
في مومباي مهنة يتناقلها الأبناء عن الآباء، كل صباح ينطلق ” الدابّا والا لهاس” لحمل ما تحضّره الزوجات في البيوت من أطباق ساخنة لأزواجهن القابعين في المكاتب. خمسة آلاف موزع، اميّون في معظمهم، يعملون في هذه المهنة منذ أكثر من مائة سنة.
يستخدم هؤلاء نظاما معقدا يعتمد على اللون والرمز لمعرفة أصحاب ” المطبقيات” أو صناديق الغداء، كي لا يخطئ اي صندوق صاحبه. جامعة هارفارد البريطانية أجرت دراسة على هذا النظام المعقد في التوزيع وتبين لها أنه رغم متاهة طرق مومباي ووسائل مواصلاتها المتهالكة من دراجات وحافلات وقطارات فإن نسبة الخطأ في التوصيل لا تتجاوز الواحد في المليون!.

لكن، ماذا لو حصل هذا الاستثناء؟
المخرج الهندي رايتش باترا، تخيل الأمر في فيلم. “صندوق الغداء” أو “المطبقية” وهو الاسم الذي يطلق على هذه الصناديق في بلاد الشام، فيلم عاطفي رقيق يعتمد استثناء” قدريا” ليرسم بعضا من ملامح الحياة اليومية في هذه المدينة القاسية وليرصد بعضا من شخصياتها.
تدخلّ القدر ليقود حياة فردين وليحدث فيها تغييرا ما كان ربما ليحدث لولا هذا التدخل. تغيير لم تسع إليه الشخصيتين، شخصية البطل على الأقل. “سجّان” كان مستسلما للعزلة يجترّ الذكريات بعد رحيل زوجته، يتضايق من كل طارئ لاسيما هذا الموظف الجديد الذي سيحلّ قريبا مكانه بعد إحالته إلى التقاعد. هو يتهرب من اقتحامه المتكرر لمكتبه بحثا عن تدريب ما، تواصل… لكن، ثمة ما يدفعه نحو إعادة التفكير بأسلوب حياته، بتعامله الجاف مع الآخرين. إنها “إيلا” الجميلة، زوجة من الطبقة الوسطى، لا شيء يجمعها معه سوى هذا الشعور المشترك بالوحدة. يبدأ الفيلم بمشاهد من حياة تلك الشابة وهي منهمكة في واجباتها المنزلية في المطبخ، مع ابنتها.. وفي موازاة لانشغالها الروتيني الهادئ إنما الحامل لقلق ما، تعبر مشاهد أخرى في حركة سريعة للكاميرا تبرز ايقاع المدينة المجنون، اكتظاظها، زحامها الخانق ، الدوامة الجهنمية لسكانها الساعين وراء رزقهم…هم “كصناديق الغداء، كأغراض متنقلة محشورة في سباق يومي” كما يقول المخرج، لا وقت لديهم للاستراحة أو لمجرد القيام بمحاولة مراجعة لذواتهم وأحوالهم… تتابع العدسة دورتها و”تجول” مع المطبقيات منذ انتقالها من البيوت أو المطاعم وحتى توزيعها في المكاتب.
“ايلا” التي تتفنن في تحضير الوجبة لزوجها في محاولة لاستعادة قلبه المبتعد، تدرك في نهاية النهار أن الصندوق وصل للعنوان الخطأ. يكون هذا فاتحة مراسلات بينها وبين “سجان” عبر المطبقية. مراسلات بين كائنين يجمعهما شعور بالعزلة إزاء هذا العالم الجاف، تبدأ الرسائل قصيرة حول جودة الطعام لتنتهي بحوار طويل حول الحياة وقسوتها، لكن أيضا عذوبتها.
اللقاء الذي لن يتم بينهمالا يمنع هذه المراسلة من الاستمرار بعض الوقت، متيحة لهما الفرصة من جديد  لمراجعة أسلوب معيشتهما للانفتاح على العالم من حولهما.

السيناريو وإن اعتنى برسم الشخصيات بدقة، فإن المخرج ترك لها فسحة من الحرية في التعبير. بدا هذا واضحا في الأداء العفوي في بعض المواقف للممثل ” نوّاز الدين صدّيقي”،  الذي جسد شخصية(شايك) الموظف الشاب الذي يحاول باصرار وعزيمة تثبيت قدميه في محيط لا يرحم. كما أدى الممثل الشهير” عرفان خان” شخصية ( سجّان) على نحو لافت، وبيّن تحولاتها التدريجية، بفضل المراسلات، من شخصية منغلقة على ذاتها إلى أخرى تنفتح تدريجيا على هموم الآخرين ومشاكلهم. وأجادت الممثلة المسرحية الشابة نمرة كور، شخصية شخصية المرأة أسيرة جوّها المغلق ولا مبالاة زوجها تجاهها. لم يكن الأداء وحده ما ميز هذا الفيلم بل أيضا حس الكوميديا والمرح اللذان طبعا المواقف واستخدمهما المخرج لتمرير بعض الأوضاع الصعبة ( اهمال الزوج، انكشاف اختلاقات شايك…)، فخرج الفيلم خفيفا ممتعا بشاعريته الرقيقة وحسن تنفيذه.
المخرج ريتش باترا يمثل الموجة الجديدة في السينما الهندية المعاصرة وهو يعيش بين مومباي ونيويورك وهذا هو الفيلم الروائي الأول له. عرض ” صندوق الطعام” في اسبوع النقاد في مهرجان ” كان” 2013 ولقي حفاوة نقدية وهو يعرض في فرنسا حاليا.  وحقق المخرج أفلاما قصيرة وكان فيلمه القصير الأخير باللغة العربية.  عرض” مقهى نظامي، القاهرة” في أربعين مهرجانا ونال اثنتا عشرة جائزة منها الجائزة الدولية للنقد.


إعلان