“وشمة” الذي وَشَمَ السينما المغربية وثقافتها
أحمد بوغابة / المغرب
“وشمة” … الفيلم
حين يتم لفظ كلمة “وشمة” في المغرب، خاصة في الوسط السينمائي والمهتمين بالسينما، فإن الإحالة دائما تذهب نحو فيلم بهذا العنوان، وهو فيلم “وشمة” الذي أخرجه حميد بناني سنة 1970 والذي شكل منعطفا في تاريخ السينما المغربية الجنينة حينها. وهذا الفيلم هو الذي وَشَمَ مستقبل الفن السابع في المغرب حيث كثير من الأفلام التي ظهرت بعد ذلك مباشرة، أو بعد سنوات على إنتاجه، نجد بها أوفيها “لمحات” منه أو استمرارا له أو تأكيدا له كما هو الحال مع فيلم “السراب” (1980) للمخرج الراحل أحمد البوعناني الذي كان قد أشرف بنفسه على توضيب (المونتاج) فيلم “وشمة”، وكذا فيلم “حلاق درب الفقراء” (1982) للمخرج الراحل محمد الركاب أو فيلم “أليام أليام” (1978) لأحمد المعنوني.
وَشَمَ فيلم “وشمة” أيضا الثقافة السينمائية بمختلف تجلياتها خاصة النقد السينمائي. فقد شكلت هذه العناصر من الفيلم نفسه الذي وجد دعما فكريا وماليا في إنتاجه حيث ساهمت فيه مثلا جامعة نوادي السينما(*) ممثلة في الناقد السينمائي نور الدين الصايل حيث يشير الفيلم إلى ذلك بوضوح وباسمه في الجنريك. ووقف كثير من المثقفين والفنانين بجانبه، أثناء تصويره وخلال إنجازه. فقد كان الجميع يعتبره فيلما في ملك كل صوت مستقل في مغرب يحتدم فيه الصراع بين السلطة التي كانت تنشر هيمنتها وبين يسار تقليدي وطني.
“وشمة” … التاريخ

وتكمن قيمة هذا الفيلم أساسا في موقعه التاريخي الذي لا يمكن نزع عنه هذه القيمة بغض النظر عن الأفلام التي ظهرت في ما بعد. وعليه، ففيلم “وشمة” لم يكن مجرد فيلم سينمائي كباقي الأفلام وإنما نقطة التحول إذا أخذنا بعين الاعتبار العناصر التاريخية التي أنجبته في ظروف خاصة جدا عرفها المغرب حينها وسنكتفي بالإشارة للأساسي منها. وهي أن في تلك الفترة، بدءً من النصف الثاني من السيتينات القرن الماضي، ظهر جيل جديد من المثقفين الشباب الذين يمكن اعتبارهم بالمثقفين العضويين (حسب تعريف غرامشي) جمعوا بين الالتزام الثقافي والالتزام السياسي اليساري وخاصة اليسار الراديكالي حيث كانت مجلة “أنفاس” صوتهم “الشرعي”. إلتقى فيها وحوْلها الروائي والتشكيلي والشاعر والمسرحي وكذا الناقد الأدبي والسينمائي وحتى المؤرخ والباحث السوسيولوجي إلى آخره. ولم يكن للمغرب حينها وزارة ثقافية التي لم يتم الإعلان عنها رسميا كأول وزارة للثقافة بشكل رسمي إلا في سنة 1974 إذ كانت من قبل مجرد أقسام إدارية تابعة لبعض الوزارات لا علاقة لها بالثقافة (كوزارة السياحة على سبيل المثال..).
كما أن المركز السينمائي المغربي، كمؤسسة رسمية وتابعة للدولة كليا، يتركز عملها على إنتاج نشرات الأخبار لعرضها في القاعات السينمائية، وبعض الأفلام الدعائية والبروباغاندا لتقدم صورة “مُزينة” عن المغرب باستثناء بعض الأفلام القليلة التي تُعد على رؤوس الأصابع اليد الواحدة غالبا هي من اجتهادات سينمائيين أنفسهم كأحمد البوعناني المُشار إليه أعلاه ومجيد رشيش ولطيف لحلو على سبيل المثال لا الحصر. وكما قامت الدولة الرسمية بتأسيس وزارة الثقافة لمواجهة ثقافة اليسار فإنها عملت أيضا على تأسيس أول مهرجان سينمائي الذي انعقد بمدينة طنجة سنة 1968 أرادته أن يكون خاصا بسينما أقطار المتوسط والذي لم ينعقد منه إلا دورة واحدة. وكان الهدف أيضا مواجهة صعود اليسار في مجال السينما. إذا كانت الدولة حينها قد وجدت عناصرها في حقل الكتابة وفي مناهج التعليم فإنها لم تفلح بنفس السرعة والفعالية مع السينما ولم تجد صوتها إلا في نماذج معزولة سرعان ما تخلت عنها السلطة نفسها لأنها فاشلة ولا يتذكرها أحد حاليا. لكن الدولة استغلت استغلالا بشعا للتلفزيون حيث لم تفتح أبوابه للمعارضين وأقصتهم منه بصفة قطعية لأنه – أي التلفزيون – كان ناطقها الرسمي والدفاع عنها بتطويع العقل المغربي الجماهيري وهو سبب ما يحصده المغرب حاليا بالتخلف في الثقافة السينمائية لحد مريع. فقد كانت هناك محاولة للانفتاح على المثقفين المعارضين في منتصف الثمانينات إلا أنها سرعان ما تراجعت عنه.
ليس هدف هذا النص قراءة في فيلم “وشمة” بقدر ما أردنا أن نثبت على خصوصيته وموقعه التاريخي إذ كان يحضر تلقائيا في كل حديث عن السينما بنوع من العفوية والاستشهاد به نظرا لما سبق قوله لذلك استحضره أيضا “النادي السينمائي بتطوان” ثم بعد ذلك “جمعية أصدقاء السينما” بنفس المدينة كنوع من التكريم حين تم التفكير في إصدار مجلتهما.

“وشمة” … المجلة
قصة “وشمة” مع تطوان عريقة. قليلون جدا من يعلم بوجود نشرة بنفس العنوان كان يصدرها النادي السينمائي بتطوان (صدر العدد الأول منها سنة 1978). كانت، في الحقيقة، بمثابة نشرة داخلية للنادي الذي كان يبيعها لمنخرطة والمتعاطفين معه من المثقفين والمهتمين بالسينما رغم تواضعها شكلا ومضمونا إلا أن الحاجة كانت ضرورية لها. كانت نشرة صغيرة الحجم، بحجم الجيب، مؤكدة في أدبياتها على أنها صوت النادي حيث تُطبع بمطابع “ديسبريس” بتطوان. لم يكن يتجاوز عدد صفحاتها 50 صفحة. ولم تعمر طويلا أيضا. كانت هذه النشرة تتضمن أنشطة النادي وبعض المقالات حول موضوع معين يُعَرِّفُ بالسينمات المُهمشة وبالسينمائيين المتميزين.
أما الصيغة الجديدة ل”وشمة” فقد أحيتها “جمعية أصدقاء السينما بتطوان” في منتصف سنة 2005 بعد أن كان قد نسيها الجميع. وتجدر الإشارة التاريخية هنا بكون مُعظم أعضاء هذه الجمعية كانوا قد انسحبوا من النادي السينمائي في منتصف الثمانينات وأسسوا تظاهرة سينمائية خاصة بحوض المتوسط كملتقى في بدايته قبل أن يصبح مهرجان يتضمن مسابقة رسمية بين مختلف الأجناس السينمائية. وقامت الجمعية في البداية، في إطار مهرجانها، على إصدار مطبوعا عنونته ب”دفاتر السينما” (صدر منه عددين فقط) قبل أن يستقر قرارها على إحياء “وشمة” كمجلة سينمائية بمنظور مختلف.
ستصدر “جمعية أصدقاء السينما” إذن أول عدد من مجلة “وشمة” بصيغتها الجديدة في صيف سنة 2005 والتي تضمنت هيئة للتحرير التي هي في الواقع أعضاء الجمعية أنفسهم وليس اعتبارا لمصنفات صحفية أو أدبية أو نقدية أو ممارسين فعليين للنقد والبحث السينمائيين بل بحكم انتمائهم للجمعية، وهو مازالت “مخلصة” له لآخر عدد الصادر مؤخرا. كما كانت الرغبة في أعدادها الأولى (الرغبة وحدها لا تنتج الفعل الحقيقي) أن تكون “أكاديمية” ؟؟؟؟ فلم تحمل للأسف في طيها نصوصا تتوفر فيها هذا المقياس العلمي بقدر ما هي مصاغة بنفس العقلية التي تنشر بها تلك الأقلام نصوصها في الصحف اليومية والملحقات الثقافية باستثناء تذييل الأسماء بنعوت “جامعية وأكاديمية” وكأن ذلك كاف للرفع من “قيمة النص” !!.
تغير رؤساء التحرير للمجلة باستمرار، فقد ظهر مع الصيغة الجديدة عبد اللطيف البازي ثم سرعان ما حل محله حميد العيدوني وقد غادرها هذا الأخير أيضا حين غادر الجمعية الصادرة لها ليعوضه نور الدين بندريس. باستثناء كون المجلة محسوبة على الجمعية فإنها إصدار بدون هوية، لا هي أكاديمية ولا هي إعلامية فضلا على أنها لا تعرف انضباطا في الإصدار وتكتفي بجمع النصوص التي تم عرضها في ندوات ولقاءات المهرجان (وعادة ليست كلها لآن بعض المتدخلين يرفضون ذلك لأنهم يعتبرون المشاركة في ندوة هو مختلف عن النشر). كما يتم إضافة نصوص أخرى من هنا وهناك والبحث لها عن تبويب رغما عنها وعن “أنفها”.

ورغم ذلك فهي تبقى مهمة من الناحية التاريخية وقيمتها في توفير بعض النصوص (وليس كلها) في المتناول بغرض الاطلاع على “فكر كُتاب” معينين وكيف “يفكرون” و”يكتبون” سينمائيا خاصة من يعشق أن يربط إسمه ب”الدكتور” وكأنه يريد أن يرهبنا فكريا لنكتشف فراغ المحتوى (وقد أدركت المجلة ذلك فألغت ذلك في أعدادها الأخيرة وهذا يُحسب لصالحها).
ولا بأس من إشارة قصيرة لكن لها دلالة وهي أن نشرة “وشمة” التي كان يصدرها النادي السينمائي بتطوان في أواخر السبعينات من القرن الماضي كانت كلها باللغة العربية، أما النصوص الفرنسية المفيدة فيتم ترجمتها، بينما نسخة “العهد الجديد” لجمعية أصدقاء السينما هي دائما مزدوجة اللغة وبغلافين: عربي وفرنسي (وأحيانا قليلة جدا نقرأ نصوصا بالإسبانية حسب الموجود وليس اختيارا دائم وقار)
فخلال 8 سنوات، (من 2005 إلى نهاية 2013) بصيغتها الجديدة تحت إدارة جمعية أصدقاء السينما، لم يصدر منها سوى 10 أعداد فقط !!! يمكن لهذه المجلة – “وشمة” – أن تكون رائدة في التأريخ والنقد والبحث والتفكير السينمائي لو خصصت لها الجمعية، الصادرة لها، حيزا من الزمن الكافي الذي تستحقه ضمن أنشطتها الممتدة على طول السنة وأن تعتبرها جزء أساسيا من وجودها وشعلة للمهرجان وداعمة له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نعم. لم أخطئ. فقد كانت حينها تُسمى “جامعة نوادي السينما” أما الجامعة الوطنية للأندية السينمائية فقد ظهرت في مطلع سنة 1973 بتعريب ومَغْرَبَة لسابقتها التي كانت تمثل أيضا أندية فرنسية موجودة بالمغرب أو بها فرنسيون أو يشرف على بعضها فرنسيين