“يد اللوح”عن مقاومة الطفولة للقهر بالمكر والدهشة

دبي – أمـل الجمل 
عمل سينمائي مدته 23 دقيقة فقط، بسيط في أسلوبه السردي، لن تجد به جماليات لافتة مبهرة في التصوير واختيار الكوادر وأحجام اللقطات وزوايا التصوير، باستثناء أنها مُعبرة باقتصاد واضح عن الفكرة الدرامية. رسم تلقائي وصادق للشخصيات على قلة عددها. السيناريو يخلو من أي تعقيدات أو غرائبيات، مع ذلك هو عمل سينمائي شديد الأهمية، معبر بصدق وقوة عن القهر الذي تتعرض له الطفولة من رجال الدين في الكتاتيب، عن الأكاذيب التي يذكرها الأهل ولا تصدقها عقول هؤلاء الأطفال فيُواجهون عالم الكبار بالمكر والحيلة انتقاماً أو دفاعاً عن النفس. إنه فيلم يد اللوح، روائي قصير، من الإنتاج التونسي الفرنسي المشترك للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، عُرض في مهرجان دبي السينما الدولي في دورته العاشرة الممتدة في الفترة من 6 – 14 ديسمبر 2013 ضمن مجموعة أخرى من أفلام الأطفال لا تقل عنه في الأهمية شكلاً ومضموناً. 

من ملصق الفيلم

بطلة الفيلم طفلة عمرها خمس سنوات – تبدو ظاهرياً قليلة الكلام – لا تستطيع ترديد الآيات القرآنية مثل زملائها في الكُّتَّاب. يطلب منها الإمام أن تُسمعه ما حفظته فلا تتمكن. تبكي من الخوف وتتبول على نفسها، عندئذ ينهرها الإمام ويهينها ساخراً منها فيضحك الجميع عليها. تكره الطفلة الكُتَّاب، تصرح لأمها بإحساسها دون فائدة. في صباح اليوم التالي نرى الطفلة، في لقطة مقربة، راقدة في السرير بوجهها الطفولي البريء، متيقظة العينين، شاردة الذهن كأنها شخص بالغ على عاتقه يقع هم كبير ومسئولية عظيمة. ثم فجأة عندما يرن المنبه تتظاهر بأنها تغط في سبات عميق. تحاول الأم ايقاظها فتتكاسل وعندما تلح عليها تصرخ: أكره الكُتَّاب، ولا أحبه. أكرهه؟ هاتي لي بابا. أين بابا؟  
أمام إصرار الأم تبحث الطفلة عن حيلة تنقذها من تلك المعاناة النفسية فتلصق يدها بالكرسي الكبير عن طريق سائل لصاق، وتضطر الأم بمساعدة الجار أن تحملها هي والكرسي الضخم على سيارة نصف نقل وتذهب بها إلى الطبيب ومنه إلى الكُتاَّب ليصل المشهد إلى ذروته في تكشف الصراع النفسي بين الطفلة والإمام. تدخل الطفل محمولة على الكرسي، على وجهها علامات الانتصار والزهو، خصوصاً في موقعها الجديد حيث ترتفع على الجميع – الجالسون على الأرض – ومن ضمنهم الإمام الذي يبدو وأنه قد أصبح في وضع منخفض، متقزم، فيتوقف لحظة متفكراً ثم يخرج ويعود حاملاً كرسي آخر مرتفع يجلس عليه ليصبح في وضعية أعلى من الطفلة، وهنا تتلاشى قليلاً ملامح الزهو. بعد قليل تطلب الطفلة الذهاب للمرحاض، مما يعني أن يحملها الإمام بنفسه، وينتظرها طويلاً أمام الباب. لكن سرعان ما نكتشف أن الطفلة فعلت ذلك لتنغص عليه وليس رغبة في قضاء حاجتها. ثم يتطور الأمر بطردها بعنف مادي ولفظي خارج الكُتَّاب. وكأنها مبارزة بين عالم الطفلة المبني على التساؤل والدهشة وعالم الكبار الملوث بالبلادة والكذب والتكرار وفقدان الدهشة. 
تختتم المخرجة فيلمها الجميل والبسيط بمشهد آخر للطفلة وهى تجلس مع أحد أصدقائها على السطوح – حيث لا سقف أو غطاء أو أي حجاب مادي أو معنوي يمنع الطفلة من البوح عن هواجسها ومشاعرها – فنتعرف على نظرتها المختلفة لعالم الكبار إذ تحكي عن أكاذيبهم، ويقينها بأن والدها قد مات، ثم تسأله: “أيهما أقبح أنا أم دميتي؟” فيجيبها: “أنت أكثر دمامة.” ترمقه لحظة قبل أن ترد بنظرة بها شبح ابتسامة تشي بالانتقام مستقبلاً: “إذن ستدفع الثمن؟” “كيف”؟؟ “سترى”.. ثم في نهاية تلك الجلسة تودعه الطفلة وتطلب منه أن تسلم عليه لأنها سترحل فيمد الصبي يده إليها بتلقائية ليسلم عليها لكنه يكتشف أن يده ويدها التحمتا كجسم واحد بفعل السائل اللصاق. 
الفيلم رغم قسوة فكرته وتجسيده لأحد أشكال القهر الذي يُعانيه الأطفال لكنه عمل خفيف الظل، به مسحة كوميدية تتفجر من روعة الأداء التلقائي للطفلة المعجونة بالدهشة والشقاوة، وبالخيال القادر على قراءة عالم الكبار بأدواتها الخاصة، غير المقولبة. كما أن موسيقى بنجامين فيولي كانت مناسبة وموظفة جيداً خصوصاً في لحظات مرح الطفلة وبهجتها بعد حملها على الكرسي فوق السيارة وهى تتأمل السماء والأشجار والناس في الشارع وتلوح لهم بيدها الحرة. 

جدير بالذكر أن الفيلم مستوحى من طفولة المخرجة، فعندما كانت صغيرة ارتادت الكتّاب وكانت- وفق تصريحها – تختلق الأعذار كل صباح وتبتكر خدعا ماكرة مكر الطفولة اللذيذة حتى لا تذهب إلى الكتّاب. وكوثر من مواليد سيدي بوزيد، عام 1977، وهى ابنة الكاتب والروائي التونسي محسن بن هنية. تنوعت دراستها السينمائية بين الإخراج الوثائقي وكتابة السيناريو. خاضت تجربة الكتابة الروائية. قدمت فيلمها القصير الأول “أنا وأختي والشيء” في عام 2006 ، ثم الفيلم الوثائقي “الأئمة يذهبون إلى المدرسة” في سنة 2010. ثم قدمت فيلمها الروائي الطويل الأول – روائي وثائقي – “شلاط تونس” 2013 أيضاً من إنتاج تونسي فرنسي كندي إماراتي مشترك والذي تنافست به على جائزة المهر العربي للفيلم الروائي الطويل بمهرجان دبي السينمائي الدولي العاشر، وإن خرجت من دون جائزة مادية لكن يكفي أن عمليها نالا اعجاب الجمهور والنقاد، فقد أكدت بهما أنها مخرجة تمتلك موهبة سينمائية واعدة، خصوصاً مع فيلمها “شلاط تونس” الذي وصفه كُثر من النقاد والباحثين في مجال الدراسات السينمائية بأنه أحد أهم الأفلام الثورية التي تم إنتاجها في أعقاب ثورات الربيع العربي.    


إعلان