أفريقيا.. بين “بوكو حرام” و”إيبولا”
محمد موسى

جَمَعَت الحلقة الأخيرة من البرنامج الأمريكي التلفزيوني التسجيلي الشهير “خط المواجهة” بين اتجاهين لطالما طبعا الأسلوب الفنيّ العام للأفلام التي يعرضها البرنامج، والذي يُعَّد المنصة الأكبر والأكثر جديّة لعرض الأعمال التسجيلية في جميع القنوات التلفزيونية الأمريكية، الأول هو تحقيقي استقصائي، يستند بالعادة على خبرات مجموعة من أكفأ الصحفيين وصانعي الأفلام والتحقيقات التسجيلية التلفزيونية في العالم، من الذين يتعاملون مع البرنامج العريق، واتجاه آخر يتركز الإهتمام فيه على تسجيل اليوميّ المُعاش، والبحث في ذلك عن لحظات إنسانية لافتة ومؤثرة تُحيل إلى الموضوعات الراهنة التي تتعرض لها الأفلام، لكن من مدخل التجارب الإنسانية الواقعية والثمن البشري الذي يدفعه ناس عاديين، تحولوا لأسباب خارجة عن إراداتهم بالغالب، إلى أبطال أو ضحايا قضايا تُشغل اهتمام الإعلام الشعبي.
اختارت الحلقة الأخيرة من البرنامج (يُعرض على قناة “PBS” الأمريكية التلفزيونية الحكومية)، موضوعين من أفريقيا، فقدّم الجزء الأول منه فيلماً تسجيلياً صادماً من دولة سيراليون، عن مرض إيبولا الذي يفتك بالمئات هناك، لكنه، وبدل تقديم صورة بانورامية واسعة عن الحال هناك معززة بالأرقام واللقاءات مع معنيين، اختار الفيلم أن يرافق وحدة طبية صغيرة في عملها اليومي الذي يتلخص بإقناع عوائل مرضى إيبولا بإرسال أحبائهم إلى المستشفيات وقبل أن ينتقل المرض إلى آخرين. ثم ليتابع بعدها مأسآة عائلة صغيرة، وصل المرض المُدمّر إلى الأب والأم فيها، وليرافقهم لفترة أيضاً. أما الجزء الثاني، فهو عن حركة “بوكو حرام” النيجيرية، لكن الفيلم لن يكون عن جرائم الحركة المعروفة، بل سيُحقّق بشجاعة كبيرة، في جرائم أخرى مسكوت عنها، عن سجل الحكومة النيجيرية وميليشيات مُتحالفة معها تجاه متعاطفين مع الحركة، وأحياناً كثيرة ضد مسلمين أبرياء، لا تربطهم أي علاقة بالتنظيم الإرهابي.

يُبرز فيلم “تفشي إيبولا”، الحضور الذي يقترب من السريالي لأطباء وموظفين من منظمة “أطباء بلا حدود” الدولية في البلد الأفريقي الفقير، فلباس هؤلاء وأقنعتهم يقترب من ذلك الذي يرتديه رجال فضاء في رحلاتهم نحو العالم الخارجي البعيد، لكنهم يختلفون عن “رواد الفضاء” بعملهم على الأرض وفي ظروف صعبة كثيراً. نعرف من خلال سياق الفيلم، أن هذه الإجراءات مُهمة للغاية، وأحياناً هي الوحيدة القادرة على إيقاف عدوى مرض إيبولا، فلمسة واحدة مع المريض يمكن أن تنقل تلك الجرثومة، التي لا يعرف العلم بعد من أين أتت وكيف يُمكن التخلص منها. في هذا السياق سينقل الفيلم، أن كثير من الأطباء والعاملين الأفارقة في المستشفيات المحلية، من الذين لم يعرفوا أبعاد المرض وقتها، أصيبوا بالعدوى ومعظمهم توفي بسبب المرض، ليترك أمر التصدي لهذا الأخير لأطباء أوربيين وغربيين متطوعين مع معاونيهم الأفارقة. يرافق الفيلم وحدة طبية صغيرة في جولاتها اليومية على القرى لإقناع عوائل المرضى بإرسال مرضاهم إلى المستشفى الدولي المؤقت وحتى لا يتفشّى المرض بين العوائل والمجتمعات الصغيرة.
مهام الوحدة الطبية لن تكون سهلة، فكثير من الأهالي يرفض التعاون مع أصحاب البدلات “الفضائية”، خاصة إن أغلب من ذهب معهم لم يعد إلى بيته. يركز الفيلم بعدها على عائلة صغيرة فقدت جدها قبل فترة للمرض، وليتكشف بعدها أن الأمّ في العائلة تحمل بعض أعراض إيبولا، وكذلك الأب، الذين يوافقان على التوجه الى المستشفى الميداني لتلقي العلاج. سيعود الفيلم القصير مراراً إلى الزوج وزوجته، وهما يصارعان المرض، مبرزا في الوقت نفسه المشاكل التي تواجهها أي خطط صغيرة أو كبيرة للتصدي للوباء.
فأثناء تصوير الفيلم، انطلقت تظاهرات عنيفة غاضبة على المستشفيات لأنها، وحسب المتظاهرين، إخترعت مرض إيبولا، لسرقة دماء الأفارقة… يصل الفيلم لنهاية سعيدة نسبياً، على الأقل للأطفال الأربع الذين تركهم الأب والأم المريضة، فهذه الاخيرة شُفيت من المرض (الجسم وحده قادر أحياناً ولأسباب غير معروفة على هزيمة إيبولا)، أما الأب الشاب، الذي بكى عندما عندما حمل له موظفين في المستشفى رسائل فيديوية من أبنائه، فقد هزمه المرض، وتم دفنه ضمن إجراءات إحترازية مُعقدة، فحتى الجسد الميت يُمكن أن ينقل العدوى للأحياء.
إرهاب أعداء “بوكو حرام”

رغم إن عنوان الفيلم الثاني في البرنامج (مطاردة بوكو حرام)، يُوحي بعمل يواصل تسجيل المطاردات المستمرة لتنظيم “بوكو حرام” الإرهابي (عرفه العالم على نطاق واسع بعد حادثة خطف ما يقارب 300 فتاة نيجيرية قبل أشهر والتي إستحوذت على إهتمام إعلامي دولي كبير)، إلا أن الفيلم القصير يتصدّى لقضية غير معروفة في الإعلام الشعبي، وهي سجل الحكومة النيجيرية والقوى المحلية المتعاونة معها بشكل غير إنساني تجاه الحركة، وكيف أنها، وفي حربها ضد الإرهاب، إرتكبت جرائم لا تقل وحشية عن التي قام بها تنظيم “بوكو حرام” المسلح. يفشل الفيلم التسجيلي، والذي يقود عملية التحقيق فيه الصحفي البريطاني ايفان ويليامز، في إقناع شخصيات رسمية للحديث له، لكنه سيعثر على مجموعة جيدة من الذين تعاونوا مع الجيش النيجيري في حربه ضد الإرهاب، وهؤلاء سيحكون عن تجاربهم، وأحياناً يُقدّمون للفيلم التسجيلي أفلاماً أرشيفية صوروها بأنفسهم، عن الجرائم المروعة التي ارتكبها الجيش خلال العام الماضي. يحاول الفيلم أن يُحقّق باتجاهات عدّة، فيخضع شهادات ضيوفه إلى التحليل الذي يناسب خطه التحقيقي، ويذهب إلى قرى صغيرة في شمال نيجيريا للحديث مع نساء فقدن أزواجهن نتيجة تعذيب القوات المسلحة الرسمية، رغم أنهم لم يرتبطوا يوما بتنظيم “بوكو حرام”. كذلك يمر الفيلم على العلاقة الحساسة بين المسيحيين والمسلمين في البلد الأفريقي الكبير، ويبين كيف أن جرائم تنظيم “بوكو حرام” المتواصلة هناك فتحت الأبواب لعنف كان ينتظر الفرصة للظهور، في بلد مازال يبدو بعيداً عن التصالح مع ماضيه أو حاضره.