أثينا..عاصمة أوروبية بدون جامع

محمد موسى

 

“أثينا..العاصمة اليونانية، مَهْد الديمقراطية في التاريخ الإنساني، المدينة التي يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، الحاضرة العالمية القريبة جغرافياً من العالم الإسلامي، هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي لا تحوي جامعاً إسلامياً رسمياً”. بهذه المُقدمة الإشكاليّة سيفتتح الفيلم التسجيلي الهولندي “عاصمة بدون جامع” زمنه، ليُحقّق بعدها وبمستويات عدة بموضوعه، منطلقاً من غياب الجامع في العاصمة العريقة كنقطة بداية مُثيرة لافتة، ليتحول بعدها إلى مسلمي ذلك البلد الأوروبي وتمايز تاريخهم عن أقرانهم في بلدان غربية أخرى، فغياب الجامع الإسلامي، ليس وليد مجموعة من المصادفات أو إختلافات تخص المسلمين الذين يعيشون في “أثينا” أواليونان، بل هو أكثر تعقيداً، والأسباب تضرب في جذورها في التاريخ الداميّ لتلك المنطقة، ليكون الفيلم التسجيلي، الذي ينطلق من حقيقة غياب الجامع، كظاهرة تُعَدّ غريبة على المدن الكوزموبوليتانية الكبيرة، مناسبة للحديث عن علاقة المسلمين بالغرب والتاريخ، إذ أن الأخير مازال حاضراً بثقله و تعقيده في ذلك الجزء من العالم.

بعد حركة بانورامية واسعة جالت فيها الكاميرا على العاصمة اليونانية الكبيرة بميادينها الكبيرة وملتقطة بعضاً من تفاصيل الحياة اليومية هناك، ينتقل الفيلم بعدها الى أجواء خانقة مُعتمة، إلى تحت الأرض، ليصور أقبية بنايات، والتي تحولت لمسلمين كُثر بديلاً لجوامع غائبة. هذه وكما تصفها السيدة المصرية المهاجرة، “جوامع غير شرعية”، أي لم تحصل على اذونات الحكومة اليونانية، وتحمل إسم “بيوت الصلاة”. ستشرح السيدة نفسها والتي تعمل مع زوجها في إحدى جمعيات المسلمين اليونانية، عن الطريق الطويل الذي قطعته الجمعية للحصول على موافقة بناء جامع، والأجوبة التي بقيت تدور في حلقة واحدة التي تلقتها من السلطات، بأن القضية مازالت خاضعة للبحث، دون الحصول على إجابات نهائية. كما بينت السيدة تلك، أن جمعيتهم تنتظر أيضاً مساعدة الحكومة اليونانية المالية لبناء الجامع (توفر العديد من البلدان الاوربية لمسلميها سُبل مُواصلة شعائرهم الدينية ومنها منحهم أموال لبناء جوامع).

لم يُحقّق الفيلم التسجيلي في أسباب الرفض أو التأجيل اليونانية الرسمية، فلم يلتقي مثلاً ممثلين عن بلدية المدينة، أو مع الذين يملكون سلطة إتخاذ القرارات. هذا الأمر سيُضعف من قيمة العمل التحقيقية، بخاصة أن أحد مهمات الأخير هي الإستقصاء عن قضية غياب الجوامع عن البلد الاوربي والذي يُقال إن ما يقرب من المليون مسلم يعيشون فيه، لذلك كان من المفروض أن يولّي الفيلم موقف الجانب اليوناني الرسمي الإهتمام الذي يستحقه. على الجانب الآخر سيُفسح الفيلم الفرصة لمسلمين متنوعين ومن خلفيات أثينية مُختلفة للحديث عن حياتهم وتاريخ وجودهم في العاصمة اليونانية، ولينتقل بعدها إلى مدن يونانية أخرى، بل سيذهب إلى الحدود اليونانية مع تركيا، حيث يعيش مسلمون كُثرهناك، هم، وحسب الفيلم التسجيلي، الأفقر في الاتحاد الأوروبي، ومن بينهم تنطلق اليوم الهجرات الأوسع إلى بلدان غنية في أوروبا.

وكما كان مُتوقعاً، يمرّ الفيلم على عُقد التاريخ الحساسة، فالعلاقة بين اليونان والعالم الإسلامي مَرّت دائماً عبر مَمر الامبراطورية العثمانية، وما يعنيه هذا من تعقيد مردّه علاقة هذه الأخيرة العنيفة بأوروبا عبر حقب التاريخ. يخبرنا الفيلم مثلاً، إن مدينة ” تسالونيكي “،( ثاني أكبر المُدن اليونانية)، كانت وإلى بداية القرن الماضي مدينة مُسلمة

الطابع، وإن عدد المسلمين فيها فاق ذلك للمسيحيين. لكن المدينة التي ولد فيها مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك، تغيرت طبيعتها السكانية في الثمانين عاماً الماضية، رغم ذلك مازال هناك عديد من الأتراك يعيشون فيها وعلى أطرافها. وهؤلاء يعانون من ظروف اقتصادية صعبة، كما أكدّ يونانيون مسلمون للفيلم، إن نشاطاتهم الاجتماعية والسياسية تتعرّض لمراقبة دقيقة من الحكومة اليونانية، بل إن الفيلم قدّم في مشاهد عديدة رجال بدوا وكانهم يتعقبون فريق التصوير للفيلم. علينا أن لا ننسى إن حرباً كادت تندلع بين تركيا واليونان في عقد الثمانينات من القرن الماضي، والعلاقات بين البلدين طبعها في الماضي التوتر والتشكيك والتخوين.

يغيب اليونانيون، رسميون وعاديون، عن الفيلم التسجيلي، سنسمع عنهم من أحاديث المهاجرين العرب والأتراك والآسيوين، وحتى عندما يظهر هؤلاء، يبدون كالأشباح الصامتة، تتعقب كاميرات الفيلم وفريقه الفني مثلاً أو في الشوراع كما قدّمتهم المشاهد الإفتتاحية للعمل. يبدو الفيلم وكأنه صُوّر في منتصف الحرب الباردة بين اليونان وتركيا، وليس في عالم اليوم، حيث يفتح البلدين أبوابها لبعضهما وللعالم، ويعيش الجميع بسلام نسبيّ، وتقوم سيدات بالحجاب الإسلامي بيع الخضار والفاكهة ليونانين في السوق الشعبي، وكما قدمهن الفيلم. هذا الغياب غير المُبرّر يجعل الفيلم وخطه التحقيقي مثل العربة التي تسير على عجلة واحدة، قادرة على السير لكن ببطء وبحركات مُتعثرة.


إعلان