كاربوف كاسباروف.. الحرب الباردة على رقعة الشطرنج
محمد سلامة

يصلح العنوان أعلاه بدلا من ( كاربوف – كاسباروف ملكان لتاج واحد ) ، فهو فيلم سياسي بامتياز ابتداء من التوجهات السياسية لصنّاعه وليس انتهاء بالحبكة السياسية المغلفة بشكل محترف بالمعالجة الرياضية القائمة حول التنافس على بطولة العالم للشطرنج.
يحكي الفلم قصة التنافس الشديد بين بطلي العالم للشطرنج ابتداء من سبعينات وإلى تسعينات القرن الماضي ، وهما أناطولي كاربوف و غاري كاسباروف ، لكن الفيلم ينحاز إلى غاياته السياسية منذ بدايته فقد اختار صنّاع الفلم أن تكون البداية السريعة من مباراة كبيرة جمعت الطرفين ليتم التعريف بالزمن الذي حصلت فيه بأنه زمن وصول غورباتشوف لرئاسة الاتحاد السوفياتي ، هذه البداية كانت خيار المخرجيْن ( جين تشارلز – فرنسي وسيرجو كوستين- روسي ) ، ليظهرا منذ البداية ثيمة الفيلم وغايته الأبعد والأعمق من كونه فيلما رياضيا حول بطولات الشطرنج ، ثم يرمي طرفا من الخيط للمشاهد ليضيء على مآل الفيلم الأخير منذ بدايته .
بعد ذلك ينتقل الفلم إلى البداية التاريخية الطبيعية حول نشأة كلا اللاعبين وظهور الميول السياسية لكليهما منذ الصغر وصولا إلى التقائهما لأول مرة . يحسب للفيلم أنه بنى شخصيات ابطاله ( كاربوف – كاسباروف ) باحتراف ، فقد حلّل المخرجان الشخصيات ورسما لها طريقا يسهّل على المشاهد فهم الفيلم ومن ثم فهم واقع الحرب الباردة وتطوراتها تبعا لهذه الشخصيات .
يظهر كاربوف سوفياتيا بالكامل ، مطيعا للقانون ومدعوما من رأس الدولة بريجنيف شخصيا ، فيما يظهر كاسباروف ذو الأصول الأذربيجانية متمردا على الدولة من السر إلى العلن ، مغامرا دائما . كاربوف متحفّظ في لعبه ويحاول السيطرة على خصمه عبر المحاصرة ، فيما كاسباروف يبدو مهاجما وجريئا في لعبه . كاربوف هادئ الطباع صامت وضعيف البنية الجسدية ، فيما كاسباروف سريع الحركة عالي الصوت مبادر .
بهذه الحركة الذكية نجح صنّاع الفلم ( الفرنسي والروسي ) في رسم خارطة الفلم بأن كاربوف يمثل حقبة الاتحاد السوفياتي أما كاسباروف فيُمثل العالم الجديد المناهض له والداعي للانفتاح ، وهذا يمثل تماما توجهات مخرجيْ الفيلم وهما معارضان للاتحاد السوفياتي ويبشران بالعالم الجديد منذ أمد وذلك عبر ما يظهر من اهتمام في أفلامهما السابقة حول الاتحاد السوفياتي .
إيقاع الفيلم في نصفه الأول سريع وممتع للمشاهد فهو ينتقل برشاقة ما بين كل مباراة بين كاربوف وكاسباروف مع الحدث السياسي في تلك الحقبة عن طريق المونتاج المتوازي مما يخلق مشاهدة ممتعة وغير روتينية وأيضا يبني تصاعد الفيلم بحنكة كبيرة ، فمثلا تبدأ المنافسات الكبيرة بين البطلين عام (1984 ) وتكون الكفة راجحة باتجاه

كاربروف أما كاسباروف فيكون أقل خبرة وأصغر عمرا ويحاول بشدة أن يجاري خصمه لكن المباراة تنتهي بالتعادل ، يتبع ذلك المشهد بالحدث السياسي الذي يعبر عن بداية الترنّح في الاتحاد السوفياتي بعد عهد آخر الأقوياء في الاتحاد ( بريجينيف ) ، يتبع ذلك المباراة التالية التي يفوز فيها كاسباروف ويبدأ الانهيار الحقيقي للاتحاد السوفياتي ، وتكون المباراة القادمة مناصفة في لندن و موسكو تعبيرا عن أن العالم بدأ يتغير .
فلسفة الفيلم أبعد من قصته المروية ، وهذا ما نُسميّه المعالجة أو القالب الذي يجب أن توضع فيه رسالة الفيلم وكلمة صنّاعه للمشاهد ، رؤية تتناسب مع توجهات وميول المخرجيْن ، لكن من الواضح لمن يشاهد الفيلم أن المخرجيْن بالغا في تصوير الأمر وانزلقا أحيانا في فخ جرّ المشاهد عنوة إلى منطقتهما رغم احتراف الصنعة الكتابية وكذلك الإخراجية فيه ، وهذا خلق أحيانا بعضا من الشك في مصداقية التهويل الذي وضعنا المخرجان فيه ، كان هذا أوضح في النصف الثاني من الفيلم حيث أن ايقاعه ابطأ وكلام الضيوف ومن ضمنهم طبعا كاربوف وكاسباروف أنفسهم ، أكثر مباشرة فيما يخص السياسة وتناقضهما أو اتفاقهما مع الاتحاد السوفياتي والعالم الحر والجديد .
بعض النواحي الفنية الملفتة في الفيلم لا بد من الاشارة إليها مثل الصور الفوتوغرافية الأرشيفية للمنافسات بين الرجلين والتي تم انتقاؤها بعناية فائقة لتعبّر الصورة عن الحالة السياسية لا عن وضع المباراة ذاتها ، وكذلك التركيز على ظهور العلم السوفياتي في المنتصف دائما أو اختفائه من الكادر تبعا لتوالي الظروف السياسية كان ملمحا مهما تحدث عنه الفيلم في نهاياته حينما أصرّ كاسباروف على وضع العلم الروسي بدلا من العلم السوفياتي لأول مرة وكان ذلك في نيويوك قبل انهيار الاتحاد بفترة وجيزة .
يحسب للفلم أنه استطاع أن يجسد أن الخلاف ما يزال قائما حتى اليوم بين الرجلين فلم يجمع بينهما في المقابلات ولم يحاول ذلك بل كان لكل منهم مقابلة مستقلة ، لكن من الناحية الفنية الصرفة فقد كانت الصورة في الفيلم بالمجمل أعلى فنيا من كوادر المقابلات والتي لم أفهم لماذا خلت من أي معنى فني أو رمزي ، فقد كانت كوادر المقابلات سطحية دون عمق في الخلفية ، وصماء لا تقول شيئا من القصة ، وهذه الجزئية كان من الممكن أن يتم استغلالها بشكل كبير لإضفاء مزيد من الرمزية والعمق على الفلم .
الفيلم بالمجمل مائل بشدة لوجهة نظر دون أخرى ، وحتى أنه لم يحاول أن يخلق نوعا من التوازن بين الأبيض والأسود من وجهة نظر صانعيه ، وقد يعتبرها البعض نقطة ضعف في الفيلم غير أنها في ذات الوقت نقطة قوة رئيسية تجعل من الفيلم واضحا وصريحا وممتعا في ذات الوقت .
هذا الفيلم مزيج من مدرستي جريرسون الذي يعتبر أن صانع الفيلم لا بد أن يكون صاحب فكر واضح ويسيّر الفيلم بأسلوب المقابلات وربما الأرشيف ومدرسة فيرتوف التي تقوم على المونتاج وهو صاحب نظرية ( الفيلم يصنع في المونتاج ) ، وطبعا مع التطور الهائل لكلا المدرستين .
بقي أن نذكر أن ابطال الفيلمين اتجهاّ بالفعل نحو السياسة فيما بعد ، حيث يشغل كاربوف الآن محلا مهما في مجلس الدوما الروسي فيما كاسباروف معارض شديد لنظام بوتين ، حتى أن البعض في عام 2005 قال أنه قد يكون خليفة بوتين ان حصل تغير في مناخ السياسة الروسية .
قصة الفيلم لوحدها ممتعة أكثر بكثير من تعقيدات السياسة ،وفيها من الفرادة التي تؤهلها لأن تكون فيلما قويا ، فلم يحصل أن التقى خصمان من بلد واحدة كل هذه السنين ليتنافسا على بطولة العالم في الشطرنج ، لكن لو اكتفى بها صنّاع الفيلم دون السياسة لبقي الأمر ناقصا تماما .