الدورة الـ51 لمهرجان أنطاليا السينمائي
أنطاليا ـ قيس قاسم

عُرفت مدينة أنطاليا التركية كوجهة سياحية عالمية لكنها لم تُعرف عند غالبية الناس بمهرجانها السينمائي الذي بدأت بتنظيمه قبل نصف قرن، أي يوم كانت المدينة الساحلية والقريبة جغرافياً من منطقتنا بعيدة عن أنظار محبي الشمس والرمال الناعمة، وكانت جزءاً من تركيا المهتمة بالسينما وصناعتها منذ قرن من الزمن. إذن هي العراقة والتقاليد التي تقف خلف مهرجان يبهر زائريه مثل جمال المدينة بقوة برنامجه ودقة تنظيمه لفعالياته مثله مثل تسالونيكي وكارلوفي فاري وغيرها أم ثمة عوامل أخرى مضافة ينبغي دراستها في ظاهرة المهرجانات السينمائية في العالم كله؟
يقيناً أن النقاش سيأخذ أبعاداً كثيرة ويحتاج إلى دراسات وندوات مختصة، لكن وفي سياق حضورنا المهرجان التركي فإن الملاحظ وبقوة جمعه ما بين المحلي والعالمي وفي هذا تميز لأغلب المهرجانات التي نطلق عليها صفة “الصغيرة” ربما “جزافاً” ولكن يراد به تفريقها عن المهرجانات العالمية الكبرى على وجه التحديد: “كانّ،البندقية وبرلين”.
فالمحلية تعطي البعد العالمي وتغني المهرجان نفسه بموضوعات وعروض لن تتوفر لها أن تُقدم وبشكل جيد دون المهرجان المقام في البلد المعني، وهنا يبرز سؤال جديد حول البلدان التي ليس فيها نتاجاً سينمائياً كبيراً ومع هذا تنظم مهرجانات جيدة ومهمة كالتي تنظمها دبي وأبو ظبي والدوحة وأخرى تقام في المغرب العربي التي تنتج دولها (تونس، المغرب والجزائر) أفلاماً جيدة المستوى في عمومها مقارنة بسينما المنطقة العربية، يُستثنى من ذلك “القاهرة” لكونه يقام في بلد ينتج السينما منذ أمد طويل وفيه صناعة مترسخة وواضحة المعالم.
كل هذا يُضاف إلى العراقة والصناعة فيُعطي المشهد أبعاداً واسعة تشير إلى حراك وتنامي للمهرجانات في أرجاء المعمورة وبخصائص محددة تزيد من حلاوة التنوع واختلاف كل مهرجان عن الآخر، كما هو “أنطاليا” الذي يُعدّ نموذجاً للتألق، وآخر دوراته انعقدت في ظل مرور مناسبتين: مائة عام على السينما التركية ونصف قرن على ميلاده في المدينة، والذي خُصصت له هذه السنة برنامجاً جديداً أُطلق عليه “الفوروم، ماستر كلاس” ليكون منبراً لحضور أسماء كبيرة إليه تلتقي مباشرة مع جمهوره وتتحدث عن تجاربها السينمائية كما فعل المخرج الفرنسي (لوران كانتيه) الذي تحدّث عن تجربته السينمائية وعن تفاصيل إنتاج فيلمه الجديد “العودة الى إيثاكا” ويدور حول مجموعة أصدقاء يلتقون بعد عودة صديقاً لهم ترك هافانا منذ 16 عاماً.
الفيلم باللغة الإسبانية وتُعدّ هذه نقطة جديرة بالنقاش حول تجارب سينمائية تنطلق إلى عوالم أخرى ولغات مختلفة عن لغة البلد الذي أتى منه المخرج (عدا اللغة الانكليزية) التي جرب عدد لا بأس به من غير الناطقين بها إنجاز أعمال تتحدث بها.

أما الشخصية الثانية والتي توقّع لها منظموه أن ترفع من إيقاع اهتمام سكان المدينة: عباس كياروستامي وتجربته الإخراجية الإيرانية والفرنسية في آن.
الفعاليات الجديدة في هذا المجال رحّب بها محافظ المدينة الذي جاء بنفسه وافتتحها ليعطي للجمهور والصحافيين انطباعاً باهتمام المدينة بالمهرجان وببرنامجه الجديد، وفي هذا السياق يلفت الانتباه تفاعل سكان المدينة مع مهرجانهم الذي يُسمى “البرتقالة الذهبية” اعتزازاً بمنتوجهم الزراعي الأشهر :البرتقال.
الحضور جيد والتفاعل واضح والتنظيم ملفت لدرجة يطرح أفكاراً عن أهمية استفادتنا من تجربة بلد ينتمي ثقافياً وجغرافياً إلى نفس منطقتنا.
في تذكير بمجد ليس بقليل خصصت الدورة الـ51 والتي انعقدت ما بين العاشر إلى الثامن عشر من هذا الشهر، برنامجاً بعنوان “السينما التركية ومهرجان كانّ” تزامناً مع فوز فيلم نوري بيلغي جيلان بالسعفة الذهب في الدورة الأخيرة من المهرجان الأشهر ليضيف الى سجله منجزاً مهماً يكرس الإنطباع الذي دفع كثر الى وصفه بـ”معشوق كانّ”.
فيلم جيلان تحفه استحق جمهور أنطاليا حضورها وبخاصة أنه يذهب عميقاً في رسم شخصياته التركية في إيقاعات ومناخات متنوعة وعلى مستويات متباينة يتمازج فيها النفسي مع الاجتماعي كما لمسناها في “سبات شتوي” التي صورت بشكل باهر ملامح قرية كابادوشيا الأناضولية، وحياة بطلها “آيدن” الذي يدير نُزُله “عطيل”. يدخل نوري بيلغي جيلان من مشهد عام للمدينة إلى أعماق أبطاله مذكرنا بأعمال السويدي “بيرغمان”.
في “سبات شتوي” تظهر العلاقات الإجتماعية والموروث التركي الذي يغذيها كمولدّة لتصادم نشط بين مكونات تركيا، وهذة المرة في عزلتها الشتوية.
كما أدرج منظموه أفلاماً أخرى في نفس الخانة من بينها “الصمت” لريزان يشيلباش الحائز على “السعفة الذهب” للفيلم القصير في ذات المهرجان إلى جانب المُنجز الأشهر للسينما التركية على المستوى العالمي فيلم يلماز غوني “الطريق” وإلى جواره “حافة الجنة” للتركي الأصل الألماني الجنسية فاتح أكين.

على المستوى العربي اقتصر الأمر على فيلمين: “فيلا توما” للمخرجة سهى عراف التي أثارت ضجة في اسرائيل عندما قدمت فيلمها أثناء عرضه في مهرجان البندقية على أنه فلسطيني في حين كانت نسبة الدعم له من مؤسسات إسرائيلية ليست قليلة، والثاني فيلم رشيد مشهراوي “فلسطين ستيريو”.
في البرنامج التركي قدمت الدورة عمل رائع بعنوان “سيفاش” ويدور حول علاقة صبي تركي بكلب رعاه ولكن تحولت علاقة التعاطف الصادق بينهما إلى مسار ربحي جشع حين أخذ والده والمقربين منهم الكلب إلى حلبات صراع كانوا ينظمونها للمراهنة والسعي لكسب المال.
الشريط دخل المنافسة مع أفلام قوية أخرى أدرجت ضمن مسابقة الفيلم الوطني من بينها: “لماذا لا أكون تاركوفسكي” لمورات دوزغونغو وفيلم أونور أونلو “دع الإثم” والوثائقي الرائع “أو. أتش. أي” للمخرج ليفنت سويارسلان. مجموعة مختارة تُسلط ضوءاً على آخر نتاجات تركيا السينمائية وعلى المستوى العالمي اختاروا أن يكون الفيلم الجورجي “جزيرة الذرة” الذي سبق لمخرجه غيورغي أوفاشفيلي أن حصل على الكرة الكريستال في دورة كارلوفي فاري الأخيرة. وضمن المسابقة العالمية سجلت الدورة لها سبقاً حين عرضت الفيلم الهندي “محكمة” والذي فيه يحاكم المخرج تشايتانيا تامهاني النظام القضائي الهندي عبر قصة شاعر ومنشد شعبي تعرض إلى عديد التهم ومن بينها التحريض على الانتحار الجماعي وتهديد الأمن القومي، هذا كله لأنه كان يقول الحقيقة ويشخص عيوب النظام الهندي السياسي ومحاكمته نفسها تكشف الخلل الكبير في واحدة من أعرق الديمقراطيات الآسيوية.
من القارة نفسها جاء الصيني “تابوت في القرية” رائعة جين يوكان الكوميدية والتي تُعد نقلة في هذا المجال داخل السينما الصينية التي غلب على نتاجها الأخير أفلاماً قلّت فيها الروح الساخرة أو الكوميدية وربما لقوته وبخاصة تمثيله سيخرج بجائزة من جوائز المسابقة التي تمنح الأنطاليين فرصة الاطلاع على جواهر السينما العالمية والتي سبق لها المشاركة في مهرجانات عالمية وخرجت بجوائز كثيرة. دون أدنى شك الدورة الـ51 مميزة وقوية تُكرّس الانطباع السابق بأن هناك مهرجانات في مدن صغيرة لكنها كبيرة.