في مهرجان أبو ظبي السينمائي: البقر المقاوم !
أمير العمري – أبوظبي

وُفّق مهرجان أبو ظبي السينمائي، ليس فقط في الحصول على العرض الدولي الأول لفيلم “المطلوبات الـ 18” The Wanted 18 الذي اشترك في إخراجه الفلسطيني عامر الشوملي والكندي بول كوان، بل أساسا، في المشاركة في إنتاجه من خلال صندوق “سند”- الذراع التمويلية للمهرجان على غرار “صندوق هيوبرت بالس” في مهرجان روتردام.
شارك الفيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بالدورة الثامنة من مهرجان أبو ظبي السينمائي (23 أكتوبر- 1 نوفمبر)، ضمن 17 فيلما، وكان عرضه في بداية الدورة مفاجأة حقيقية لعشاق السينما الوثائقية بل والفن السينمائي عموما، فهذا عمل يعكس حساسية خاصة ورؤية جديدة مبتكرة تماما في التعامل مع موضوع سياسي جاد هو موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، الذي تم تناوله كثيرا من قبل، وإن كان فيلم “المطلوبات الـ 18” هو الأول من نوعه الذي يعيد طرح الموضوع من زاوية جديدة تماما، من وجهة نظر مجموعة من البقرات، وليس من وجهة النظر “البشرية” المعتادة رغم وجودها البارز في الفيلم أيضا.
يُركّز مخرجا الفيلم على مدينة “بيت ساحور” في الضفة الغربية ودور سكانها الفلسطينيين في الانتفاضة، كنموذج للمقاومة السلمية الصلبة ضد الاحتلال الإسرائيلي، تمكنت في النهاية من قهر هذا الاحتلال ودفعه للجلاء عن المدينة.
البقر وسيلة للمقاومة
فكرة الفيلم بسيطة ولكنها عبقرية، وتتلخّص في أن ثماني عشرة بقرة وجدن أنفسهن (حرفيا) واقعات بين طرفي الصراع، وتسببن في وقوع تصعيد لا سابق له بين الإسرائيليين والفلسطينيين من سكان البلدة البسطاء من غير المنتمين تنظيميا لأي حركة سياسية، مما قلب حياة السكان رأسا على عقب وإن لم يثنِ أيا منهم عن المضي قدما في المقاومة والتحدي الصامت والبحث بذكاء عن طرق مبتكرة لإقلاق راحة المحتل ودفعه للجنون.
ينتبه سكان المدينة إلى كون اعتمادهم على السلع الإسرائيلية منذ عام 1967 يكرس الاحتلال نفسه، ويجعلهم خاضعين لسياسة الأمر الواقع، وأخذوا بالتالي يبحثون عن مخرج من هذا الخضوع، ففكروا في طرق أخرى لتوفير احتياجاتهم الغذائية، وأولها الحليب والجبن. ومن هنا يتفق الجميع على شراء 18 بقرة من أحد الكيبوتزات الإسرائيلية وينجحون في تهريبها إلى المدينة، ولكنهم يكتشفون أنهم عديمي الخبرة في التعامل مع البقر سواء من ناحية الحلب أو الرعاية عموما، فيرسلون شابا من بينهم إلى الولايات المتحدة لكي يحصل على دورة تدريبية في كيفية حلب الأبقار والتعامل معها، ليعود ويقوم بدوره بتعليم الآخرين، وتبدأ سياسة تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوزيع الحليب على البيوت ومقاطعة الحليب والجبن الإسرائيلية، وهو ما اعتبره الجانب الاسرائيلي عدوانا مباشرا.

من هذا المدخل يبدأ الفيلم الذي لا ينحو تجاه الطريق السهل المعتاد، أي التوثيق والتحليل الجاد، بل يعتمد على الرسوم المتحركة (حرفيا) أي الصور التي يتم التحكم في تعاقبها بحيث تروي بالحركة استنادا على الطريقة القديمة في صنع الرسوم المتحركة. ويعتمد محتوى الفيلم أيضا على إعادة تمثيل الحدث، واستخدام الوثائق المصورة والمقابلات المباشرة مع عدد كبير من سكان بيت ساحور الذين شاركوا في تلك “العملية” بل وعلى مشاركة مباشرة أيضا من جانب الرجل الذي كان يشغل منصب الحاكم العسكري الاسرائيلي للمدينة في تلك الفترة، الذي يظهر هنا بعد مرور أكثر من ربع قرن على تلك الأحداث للتعليق عليها وتقديم وجهة النظر الأخرى فيها.
أبطال الفيلم أربع بقرات أطلق عليهن الفلسطينيون أسماء محددة لنساء وهي أسماء يهودية معروفة مثل روث ورفقة وجولدي، والبقرات هن اللاتي يعلقن على الأحداث، ويتخذن في البداية موقفا متشككا من الفلسطينيين، وتدريجيا بعد تصاعد المواجهة، يصبحن أكثر إدراكا لما يقوم به الفلسطينيون، ويدخلون بذلك طرفا مباشرا في الصراع، فالحاكم العسكري الإسرائيلي يأمر بالتخلص من البقرات على الفور، ويوجّه إنذارا للمسؤولين عن رعايتها، بضرورة التخلص منها خلال 24 ساعة، وعندما يعود في الصباح يكتشف أنها قد اختفت تماما. لقد قام الفلسطينيون بتوزيعهاعلى عدد من الجراجات والمنازل، لتبدأ مطاردة من أغرب ما يمكن تخيله، فيبدأ مئات من جنود الجيش الاسرائيلي حملة عسكرية مسلحة للبحث عن البقرات وإعدامها، وتظهر البقرات في الفيلم تُعلق وتسخر وتتناقش وتختلف وتئن وتبكي وتحمل وتلد وتتمرّد.
إننا مثلا نراها وهي تتضامن مع بعضها البعض، ونرى كيف تضع إحداهن وليدا، ونستمع إلى شهادات أهل البلدة، ومنها شهادة امرأة كانت من بين الذين شهدوا الولادة، تؤكد أن الدموع كانت تنهمر من عيني البقرة المسكينة وهي تعاني آلام الوضع. ويروي رجل كيف أنها أنجبت توأما، نجا أحدهما ومات الثاني، ثم ماتت البقرة الأم بعد ذلك. ونحن نشاهد الحدث نفسه من خلال تلك الرسوم البديعة القريبة من رسوم الأطفال، التي تمتزج بالصور الفوتوغرافية باللقطات المباشرة للأشخاص الذين يتكلمون، في مزيج هائل من اللقطات والصور والأصوات المُقلدّة وقصاصات الصحف وإعادة التمثيل أحيانا، وكلها تساهم في توصيل تلك الرؤية الفنية الجامحة، وتعكس ذلك الخيال الخلاق وروح المرح والسخرية التي يتعامل بها مخرجا الفيلم مع الموضوع: أحدهما لديه خبرة في مجال الفيلم الوثائقي، والآخر رسام وسينمائي. والحقيقة أن الاثنين ينجحان تماما في تحقيق رؤية واحدة مشتركة، وفي إضفاء الحيوية على الفيلم بايقاعه اللاهث المتدفق الذي ينتقل بحذق وبراعة بين مقاطع الموضوع وكأننا نتابع فيلما من أفلام المطاردات، لكن دون أن نفقد أبدا روح السخرية اللاذعة.

وبعد تلك البداية القوية للفيلم، يصبح الموضوع الذي يتركز حوله الاهتمام هو دور “بيت ساحور” في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988، وكيف يصبح موضوع البقرات الـ 18 اللاتي يطلب الاحتلال القبض عليهن ويعتبرهن الحاكم العسكري في إعلانه المثير للسخرية “تهديدا لأمن دولة إسرائيل” مُفجّرا للأحداث التي تتصاعد ونشاهد الكثير من تداعياتها من خلال اللقطات الوثائقية المصورة.
يصف لنا الكثير من الفلسطينيين: صيدلي ومعلم وطالب سابق وزوجة القصاب وغيرهم، عملية التحدي وتصاعدها وصولا إلى رفض دفع الضرائب للاحتلال، الأمر الذي يُعلّق عليه الحاكم العسكري السابق بقوله إنه شخصيا لو كان في مكان الفلسطينيين لفعل نفس الشيء “فأنت لا تدفع الضرائب سوى لحكومتك”، ويُعلّق أحد الفلسطينيين الذي شاركوا في المقاطعة بقوله إن الامتناع عن الاستجابة لما يمليه الاحتلال هو عمليا إنهاء للاحتلال، فـ “الاحتلال مع غياب التحكّم ينتهي”!
روح السخرية
تتمتع رسوم عامر الشوملي، وهي بالأبيض والأسود، بالقدرة على التأثير الساخر، وتصل السخرية في أحد المشاهد إلى ذروتها عندما نرى (بالرسوم) ضابطا إسرائيليا من قوة البحث والتعقب، يدوس بحذائه الضخم في روث البقر، ويتشمم الرائحة المنتشرة في المنطقة، ويدرك أنه اقترب من المكان الذي يخبيء الفلسطينيون فيه البقرات، ويأخذ في تحريك وجهه وجسده بطريقة مضحكة في محاولة للإفلات من الروث الذي انغرز فيه بقدمه، بينما نرى البقرات وهن ترقصن على إيقاعات نشيد الهاتكفاه اليهودي، النشيد القومي اليهودي!
يتوصل الإسرائيليون الى مكان البقرات، لكن زوجة القصاب التي تحتفظ بمجموعة منهن في بيتها تقول للضابط إنها اشترت البقرات لذبحها، وإنه ليس من حقه أن يصادرها، ونحن نرى في مشهد بالرسوم أيضا كيف يقومون بالفعل بذبح بعضها، وكيف تشعر البقرات قبل الذبح، ونتعاطف كثيرا مع تلك البقرات المسكينة التي أصبحت رمزا لثورة أهالي بيت ساحور الذين يصفهم الحاكم العسكري السابق بأنهم كانوا في غالبيتهم، من المسيحيين، ونسبة التعليم بينهم مرتفعة، وكانت السلطات الاسرائيلية تخشى أن يصبح نموذج بيت ساحور مثالا تحتذي به مدن الضفة الغربية الأخرى، وهو ما يحدث بالفعل، ويتسع نطاق الانتفاضة. هنا ينتقل الفيلم إلى واحدة من أهم النقاط السياسية التي ربما لم تطرح من قبل في فيلم فلسطيني، عندما يناقش كيف تدخلت السلطة الفلسطينية بزعامة عرفات، وكانت توجد في الخارج، في تونس، ومارست الضغوط على قيادات الداخل من أجل وقف الانتفاضة، فقد كانت تخشى من انهيار سلطتها على الوضع داخل الأراضي الفلسطينية.
بقى القول إن البقرات اللاتي يعتبرهن الكثير منا حيوانات سلبية تفتقر للذكاء، تتحول في هذا الفيلم البديع إلى كائنات ذكية، تحس وتشعر وتتألم وتراقب وتعلق بأصواتها وتتخذ من المواقف ما قد يتردد الكثير من البشر في اتخاذه.