وثائقيات مهرجان القاهرة السينمائي
قيس قاسم – القاهرة

نُسجّل بداية ونحن نقرأ نقدياً بعض الأفلام الوثائقية في الدورة الـ36 لمهرجان القاهرة أن تغييراً نسبياً قد طرأ عليها حين راح مبرمجوها البحث عن أفضل ما قُدّم منها خلال العام وجلبه إلى دورتها، مصححين خطأَ ظل وجوده طويلاً في المهرجانات العربية.
وإذا كانت ملاحظتنا قد ذكرناها حين تابعنا الدورة الأخيرة لمهرجان أبو ظبي السينمائي باعتباره من أفضل الفعاليات السينمائية التي تُقدّم خلالها تحف السينما الوثائقية، اليوم نشير بوضوح الى انتباه القاهرة إلى ذات الجانب، فنراه قد حشد أفلاماً جيدة (عربية وعالمية) وبأبعاد مختلفة أي لم تنحصر بالهم العربي أو الإسلامي مع أن فيلمين مهمين من وثائقياته العالمية كان فيهما شيء من ذلك وهما: “لقد جئنا كأصدقاء” لهيبرت سوبر و”صالة المزادات: حكاية شقيقين”، أما العربية فهي ضمناً وبالضرورة تعالج قضايا محلية ذات صلة بمجتمعاتنا ومشاكلها ومن بين أبرزها تحفة أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان “مياه فضية: سوريا صورة ذاتية” عن الأحداث المخيفة التي يعيشها الشعب السوري. الفيلم سبق وأن عُرض في مهرجان كان السينمائي وحظى بمدح نقدي يستحقه على جودة مستوييه التقني ومعالجة الموضوع السجالي والآني.
“لقد جئنا كأصدقاء”
يدخل الفرنسي سوبر السودان بطائرة صغيرة صنعت لغرض التصوير والتنقل لكن إلى جانب ذلك كانت لها وظيفة درامية خاصة تكتمل بالمونولوج الذي يسرده ويصور المخرج نفسه ويعبر عن صوت الغرب الذي جاء منه وكأنهم كائنات فضائية ليس لها علاقة بالأرض وما تعانيه. يشتغل سوبر على هذه الثيمة انطلاقاً من موقفه النقدي للتجربة الاستعمارية الغربية في أفريقيا، فقد جاؤوا وصوروا أنفسهم لأبناء المنطقة وكأنهم ملائكة ينشدون مساعدة الأقوام “الهمجية” ونقلها إلى دروب الحضارة بطائرة غريبة بالنسبة إلى الشعب السوداني بقسميه فهم لم يألفوا الطيران وعلاقتهم ما زالت قوية بالأرض التي يتحاربون من أجلها وقسموا بلادهم على ضوئها ودخلوا في معارك لا تنتهي من أجل أن يأخذ كل واحد منهم حصته.
تخيلوا إمكانية ذلك بمساعدة أصدقاء فالجنوب اتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى مُعيناَ فيما كان الصديق الجديد الصين من نصيب شمال السودان. عبر تحليقاته الواسعة يرصد أراضي كادت أن تجف وبدلاً من الزرع أقيمت فوقها معسكرات ومنصّات التنقيب عن النفط. يسخر بمشاهده المحايدة والمُصورّة بعين حذقة من اللعب الغربي على عقول ساسة الجانبين، ويراجعها من خلال عودته إلى الأحداث التي سبقت استقلال الجنوب وكيف كان الخطاب مختلفاً، منطلقاً من روح “مسيحية” متسامحة لكن تطورات الأوضاع سيفضي إلى مشهد تظهر فيه الأسلحة والجنود كأقوى عناصر تحقيق ذلك الحلم الجنوبي الذي غُذي بأوهام الاستقلال والرفاهية.
في الطرفين ثمة رجال يدعون إلى الضحك، يتحاذقون على مواطنيهم البسطاء من أجل الحصول على مزيد من مزايا الفساد الإداري الذي ترافق مع التجربة السودانية بطرفيها، ويصور الحملات التبشيرية التي تتعامل مع البشر بعقلية صاحب “الكنيسة” المتفوق والذي يوزع الوعود فيما الأحوال تتجه نحو حروب جديدة لا مفر منها لأن من مصلحة الغرب أن تكون البلاد الجديدة هكذا: تحت تهديد الشمال فيما الشمال يكرس سيطرة صينية تدغدغ حلمهم في التحول الى امبراطورية جديدة. كم يبدو مشهد الصينيين بائساً. رجال دون مشاعر لا يعرفون عن البلاد المسلمة التي يتحكمون باقتصادها شيئاً، ولايبدون اهتماماً بالأراضي والبشر المحيطين بهم.
كل همهم استخراج البترول وتوزيع أرباحه بينهم وبين سلطات تضحك على أبنائها وتشغلهم بحروب وتُغذّي فيهم مخاوف من الجيران الجدد. في الصورة المقدمة عن جنوب السودان إنما يقدم تصوراً لبلاد هي الأحدث في العالم لكن مستقبلها غير واضح والأمل في حياة سعيدة فيه بعيد المنال وبالنسبة لسكانه الأصليين فقد خسروا في الجزئين أراضهيم لصالح الغريب الذي خدعهم وعقد صفقات معهم اكتشفوا انها تنتزع الأرض وما فوقها منهم، يحصلون مقابلها على أسعار بخسة لصالح مستثمرين لعبوا على الصراع “الاثني” كي ينالوا ما يريدون.
دون أدنى شك يُعدّ “لقد جئنا كأصدقاء” واحداً من أهم الوثائقيات عن منطقنا، اعتمد على نظرة معمقة نقدية للغرب وأساليبه في تفكيك القارات من أجل الربح والسيطرة، وهو على المستوى البصري واحداً من أكثرها متعة ومصداقية، السخرية التي فيه رفعت مستواه عالياً.
تاجران من كلكوتا

في مبادرة لافتة استضاف المهرجان الأخوين أنور وأرشاد إلى القاهرة، حضرا ليشاهدا مدينة لها ذات العراقة التي تتمتع بها مدن هندية كثيرة ويُشكّل وجودها امتداداً لحضارة مترسخة في الجذور. وفيلم “صالة المزادات: حكاية شقيقين” ينشد البحث عن العلاقات الناشئة بين الموروث القديم وبين المصالح الشخصية التي أفرزها الاحتلال الانكليزي للهند، وإن ظلت تحت السطح فيما الخارج كان مُركزا على علاقة أخوين؛ الكبير ترك المدينة قبل أربعين عاماً إلى بريطانيا فيما ظل الصغير في بلاده يدير المزاد الذي ورثه عن والده. في رصد العلاقة بين أخوين بعد عودة الكبير إلى كلكوتا للعمل مع أخيه في مشروع عريق له سمعة جيدة لكنه بحاجة إلى تطوير، من خلال الجدل المستمر بينهما يتجلى التوجه العام للهند اليوم بين الاكتفاء بوجودها كدولة عملاقة بمواصفات محلية خاصة بها أو الانتقال إلى العولمة وطمس كل ذلك التاريخ تماشيا مع ضغط الواقع الاقتصادي الذي يفتح آفاقاً للطموحين والمستفيدين من التجربة الغربية.
خفة روح الشريط لا تتحمل تأويلات كثيرة لكنها دون شك تسمح بتلمُّس مظاهر جانبية تتعلق مثلاً بفهمها للإسلام. فالأخوان هما مسلمان عاديان يؤديان طقوسهما الدينية دون ادعاء مع احترام لباقي الديانات من خلال التنوع الموضوعي للعمال وتوزع انتماءاتهم العرقية والدينية، كما يتجلى في مشهد منع الأخ الأكبر الكحول على عماله لا من منطلق ديني بل بدافع الحرص على مصالحه ومصدر رزقه وأرزاقهم. الحميمية الشرقية ليست طاغية في شريط البريطاني إدوارد أوليس وبدلاً عنها ثمة تفاصيل إنسانية تكشف طبيعة الرجل الشرقي ومحاولته التستر على مشاعره العاطفية فيما يطفح طموحه العملي عن حاجته ليبدو وكأن هؤلاء قد جبلوا على الربح والمنافع فقط ولكن مع سير الشريط الممتع الخفيف الروح ستظهر عناصر جديدة تمنح شخصياته عمقاً نادراً يكشف عن مستوى تطور العلاقات الاقتصادية الاجتماعية في الهند، والتي تبدو اليوم مهددة بـ”غزو” لا يمكنها مواجهته حالها حال الصين ودول آسيوية أخرى.

في علاقة المهاجر بوطنه يقدم الأخوان صورة نادرة يبدوان فيها وكأنهما لم يعيشا في جزئين منفصلين! حتماً في تجربتهما الكثير من الذاتية ولكن أيضاً من الهند المتعددة الثقافات والديانات والتي بوجود بشر مثل أصحاب المزاد، الذي تعلمنا منه كيفية إدارته، والعلاقات الحسية التي لها صلة بعملية بيع لا تخلو من أحزان، فترك الأشياء التي نحبها لتجار ليست هينة وفيها من الحزن الشفيف ما لا يمكن تغطيته، يصبح الرهان على الحفاظ المعقول على تراثها رهاناً انسانياً أكثر منه اقتصادياً بحتاً.
هناك فيلم آخر ذو بعد مصري فرعوني حمل عنوان “الساحة السحرية” ويُصور تفاصيل العمل على أوبرا “عايدة” في أكبر ساحة إيطالية مفتوحة في الهواء الطلق. وثائقي رائع للمخرجين أندريا براندسترالر ونيكولو برونا يحسب للدورة الـ 36 لمستواه الراقي والمذهل، والتصوير في دهاليز الساحة التي صنعت سحراً موسيقياً، لنا عودة إليها في مقبل الأيام.