“حزن أبدي”

 

رامي عبد الرازق

للدورة الثانية على التوالي يتمكن المخرجون المكسيكيون من الحصول على جائزة الاسكندر الذهبي لمهرجان سالونيك الدولي في دورته الخامسة والخمسين(31 أكتوبر-9 نوفمبر)وهو أهم مهرجان متخصص في الأعمال الأولى والثانية للمخرجين من كل أنحاء العالم حيث استطاع المخرج جورج بيريز سولانو أن يحصد الجائزة بفيلمه”حزن أبدي”وذلك بعد أن حصل مواطنه دييجو كيومادا دييز على نفس الجائزة في الدورة الرابعة والخمسين بفيلمه الرائع”القفص الذهبي”الذي حصل أيضا على ثلاثة جوائز أخرى من نفس الدورة دعمت كونه أحد أهم التجارب الأولى التي تجلّت في أفق السينما الدولية خلال العام الماضي.

هذا العام كانت المنافسة على الجوائز الرئيسية للدورة  محتدمة ما بين عدد لا بأس به من التجارب القوية وذات الحضور البصري والدرامي المؤثر، على رأسها بالطبع الفيلم الإسرائيلي المميز”بجانبها” للمخرج عساف كورمان الذي حصل على جائزة الاسكندر الفضي وكان المرشح الأقوي للجائزة الأولى، والفيلم البلغاري”الدرس” للمخرجين كريستينا جروزيفا وبيتر فالجانوف الذي حصل على جائزة الاسكندر البرونزية وهي جائزة لجنة التحكيم التي تُمنح للأًصالة والإبداع وكذلك حصل على جائزة أفضل سيناريو للمخرجين الشابين من بين أربعة عشر فيلما هي مجموع التجارب المشاركة في المسابقة الدولية للدورة الخامسة والخمسين.
كان على رأس لجنة تحكيم المسابقة لهذه الدورة المخرج النمساوي جوتيس سبيلمان وبعضوية المبرمجة العربية رشا السلطي من لبنان والصربي ميروليوب فوكوفتش رئيس قسم العلاقات الدولية في مركز الفيلم الصربي، وجوانا لابينشكا مديرة مهرجان ERA لأفاق السينما الجديدة في بولندا، والمنتج السينمائي اليوناني ثاناسيس كاراتانوس.

أشكال من الصمت
يقول الناقد لاجوس اجري في كتابه “فن كتابة المسرحية” أن النص الجيد لا يبدأ إلا عندما تكون واحدة من الشخصيات أو أكثر قد اتخذت قرارا مهما سوف يؤثر بشكل مباشر وقوي في سياق الأحداث، وفي حزن أبدي يبدأ الفيلم بمشهد امرأة تسكن في مدينة جبلية تلد طفلا بمفردها وتتابع الكاميرا عملية الميلاد الدموية والعنيفة بكاملها التي تقوم بها المرأة في منزلها، يستخدم المخرج كل أحجام اللقطات التي تركز العذاب والدموية الكاملة في عملية الولادة، يختار زوايا تشعرنا بحجم المعاناة الداخلية التي تعيشها المرأة في تلك اللحظة وعلى وحدتها الكاملة في إتمام عملية الوضع وقطع(الخلاص/الحبل السري) وفي نهاية هذه المشهد الطويل نسبيا يأتي إليها صديقها المخنث كي يدعمها معنويا وماديا بالمساعدة في تلك اللحظة الرهيبة.
إن سؤال العذاب الفردي الذي يطرحه هذا المشهد لا علاقة له بفكرة الولادة في دلالاته المطلقة بل يرتبط بشكل أساسي بالسياق الفيلمي الذي تتكشّف ملامحه بالتدريج عقب السؤال الذي يحمل في طياته إجابته.
فالمرأة لا تلد بمفردها في منزلها دون أن تستعين بأحد أو تصرخ أو تستغيث من آلامها إلا إذا كانت امرأة تلد طفلا من أثر خطيئة، طفلا تشكّل في صمت اللذة المستباحة بين اثنين كل منهم ليس في حيازة الآخر اجتماعيا، ولهذا يجب أن يولد في صمت دون صراخ أو مساعدة.

هذا الصمت المعنوي بكل دلالاته هو الذي سوف يصنع السياق البصري والدرامي للفكرة في الفيلم، فحزن أبدي ليس مجرد فيلم مفعم بالصمت الحواري ونظرات العيون الناطقة بالأسى والحزن والغيرة والعذاب، لا علاقة للفيلم بالمبدأ السطحي القائل بأن السينما صورة بل هو أقرب لما قاله المخرج الفرنسي روبير بريسون ذات مرة من أن السينما الناطقة اخترعت الصمت، وبالطبع لم يكن يقصد الصمت الحواري بل الصمت المشحون بالانفعال والمشاعر والضجيج النفسي والذهني للشخصيات والذي يمكن اختصاره في تنهيده أو نظرة عين أو حجم لقطة أو تكوين دال أو مؤثر صوتي.
شيبا هي امرأة متزوجة من رجل مسافر خارج البلدة للعمل وجمع المال، ولديها طفلين في سن متقارب لكنها تدخل في علاقة مع رجل بالبلدة يملك ملاحة (مزرعة للملح) وبعد أن تلد طفلها من هذا الرجل يصلها خطاب من زوجها بأنه عائد عما قليل لتصبح أزمتها هي ماذا تفعل في الطفل الذي أصابته من استسلامها العاطفي والجسدي لرجل المزرعة المتزوج من فتاة هي الأخرى حامل في طفله.
إذن فالقرار الذي اتخذته الشخصية الرئيسية قبل بداية الاحداث الفعلية ليس هو الولادة بمفردها ولكنه التورُّط في علاقة جسدية مع رجل ليس زوجها والنتيجة هي هذا الوليد، وفي الدراما الجيدة فإن النتيجة عندما تسبق السبب فإنها تصنع حافزا هاما للمتابعة فلا يرغب المتفرج في الانعتاق من أسرها إلا إذا تم تلقيح وجدانه بالسبب وهو ما فعله المخرج الشاب عندما قرر أن يبدأ فيلمه بمشهد الولادة السرية.

ولكن هذا الطفل السرّي لن يظل مخفيا لفترة طويلا فالسياق الفيلمي ليس عن طفل الخطيئة السري ولكنه عن الصمت الذي يتواطأ الجميع عليه من أجل أن يستمر العالم في الحدوث، فالعالم ليس ظرف مكان ثابت بل هو الزمن والحركة ولو أن العالم توقف أمام كل خطيئة لانتهى منذ أن قتل الأخ أخاه في بدء الخليقة.
لا يبدأ الصمت في الانتشار بين طرقات البلدة الجبلية بل يبدو أنه جزء من تكوينها الاجتماعي والإنساني، الفتاة الشابة زوجة صاحب المزرعة التي تحمل طفله في رحمها نراها في لقطات واسعة ومتوسطة وهي تجلس صامتة دوما في مخزن الملح، تبدو وكأنها تستحم به أو تتطهر من أثر الصمت التي تجد نفسها مجبرة عليه من أجل أن تستمر أسرتها الصغيرة في البقاء ككيان واحد يعمل في المزرعة وينتج الملح.
توظيف الملح بشكل بصري ومعنوي يصبح ذو دلالة قوية جدا في مشاهد الفتاة التي تجلس في ظلال المخرن بينما ضوء النهار الكابي يأتي من الخارج ليجعل من الملح كريات كريستالية أقرب لنتف الثلج بالإضافة إلى أن للملح دلالة التطهُّر والطهارة في الكثير من الثقافات الشرقية والفتاة التي تعلم أن زوجها يضاجع امرأة أخرى في البلدة ويلقي ببذره مماثلة في رحمها لا شك تنتابها رغبة في التطهر من هذه البذرة لكنها لا تملك ذلك لأنها قطعة لحم وروح منها، إنها تتواطأ كالجميع ضمن قافلة الصمت لكنها تصبح الوحيدة التي تقرر في النهاية أنه طالما أن الصمت واجب لاستمرار الحياة فسوف تذهب كي تلد بعيدا كي تصرخ كما تريد وتُربّي وليدها القادم في بلدة أخرى لا يحكمها الصمت وهو ما نراه في المشهد الأخير الذي تغادر فيه البلدة حاملة طفلها.

إنتاج المشاعر
يقول بريسون لتكن المشاعر هي التي تنتج الأحداث وليس العكس، وحين يعود الزوج الغائب تصبح مشاعر الخوف من انتقامه والفضيحة التي يمكن أن يسببها وجود طفل لرجل غيره في منزله أو كما يقدمه المخرج الشاب في شكل استعاري حيث نرى الزوجة/الأم تضع الحبل السري في علية صغيرة من القش وتمنحها لصديقها المخنث الذي هو أيضا الأب الروحي لأبنائها من زوجها، وبما أن الزوج لم يرَ طفل الخطيئة بل سمع عنه فقط من أبنائه فإن لقائه به يتم عبر لقائه مع تلك العلبة المعلقة فوق شجرة أمام منزل الصديق المخنث إلى جانب العلب التي تضم الأحبال السرية لأبنائه.

جورج بيريز

تنتج عودة الزوج شعور بالخوف لدى الزوجة يدفعها لأن تطلب من عشيقها أن يعتني بالطفل حتى ذهاب زوجها مرة أخرى، لكن الزوج يعود حاملا مرتبة كبيرة دلالة على رغبته في البقاء هذه المرة بلا ذهاب مما يعني أنه إما أن تعلن الفضيحة وتحدث الذروة الميلودرامية المتوقعة، أو تتطور علاقة الأم بطفلها لمأساة تراجيدية.
لكن الشعور الأكثر قوة وانفعالية وعمقا من خوف الزوجة – الذي هو شعور طبيعي جدا- هو تواطؤ الزوج وصمته رغم معرفته الغير مباشرة بما حدث، إنه الصمت الأكثر قوة وعنفا في السياق الفيلمي كله لأنه يعتبر ذروة كل أشكال الصمت التي رأيناها بداية من صمت أهل البلدة عن العلاقة ما بين الزوجة الخائنة وصاحب المرزعة الفحل – التي وصلت إلى حد أنها كانت تضاجعه في السيارة البيك أب بينما الوليد في الصندوق الخلفي يهتز من إثر رجفات الجماع وكأنهم يهدهدونه في مهده بتلك اللقاءات الجسدية الساخنة – مرورا بصمت زوجة صاحبة المرزعة وأمها حتى عندما أحضر الرجل طفله من المرأة الأخرى لكي يعتنوا به إلى أجل غير مسمى بذهاب زوج عشيقته.

ولكن ذروة الصمت حقا هو صمت الزوج، وهو ليس صمتا سلبيا كما يبدو، صحيح أنه متواطئ لكنه في نفس الوقت دافع للحركة والسياق، ففي مشاهد متتابعة نراه وهو يشاهد علبة القش الجديدة المعلقة أمام منزل الصديق المخنث ثم دون أن نعرف ماذا فعل بها نرى النتيجة – كما أوصانا بريسون- حيث وضعها أمام منزله كي تراها زوجته وتعرف أنه عرف، هكذا دون ثرثرة أو صراخ بل لقمة البوح عبر الفعل ليصبح على الزوجة أن تختار ما بين أن تغادر عشيقها وطفله منها أو تصطحب العلبة إلى نزهتها الخلوية مع أبنائها وزوجها كي تتركها ترحل مع تيار النهر في إحدى أقسى وأعمق مشاهد الفيلم وتبدو مثل صورة مستوحاة من العهد القديم عندما تركت أم موسى وليدها في مهده القشي لينساب مع تيار النهر خوفا عليه من بطش فرعون، وهكذا يتجلّى الخيال التراثي الرائع في مشهد قصير وهادئ لكنه مُحمّل بشحنات انفعالية صاخبة، فهذا المشهد تحديدا هو ما سوف يوصم السياق الفيلمي المتبقي من الأحداث بوصمة الحزن الأبدي، لأن شعور الأمومة هو شعور ممتد ومتدفق وغير مرتبط بوجود الطفل في أحضانها، فالأم تُصبح أما منذ تلد وحتى لو صار ابنها تحت التراب أو في أحضان امرأة أخرى، والعذاب الذي سوف تعاني منه شيبا هو عذاب أبدي والحزن الذي سوف يسكن قلبها هو حزن أبدي لكنه ليس عذاب درامي تطهيري هدفه أن يشعر المتفرج بفداحة الخطيئة، بل هو أقرب لفكرة فضح الصمت الذي نتورط فيه جميعا فيكون نتاجه هذا العالم الخرب النجس الذي تغتسل فيه فتاة شابة بالملح في محاولة للتطهر من دنس زوجها فلا تفلح، بينما تلقي فيه أما بخلاص وليدها في النهر معلنة أنها تتخلص منه لصالح بيتها وزوجها الذي خانته.
ثمة إحالات تراثية كثيرة يضمنها السيناريو في سياق الفيلم أبرزها ما أشرنا إليه من فكرة أم موسى التي تركته في صندوق عند النهر، ويسبقه بالطبع الإحالة الأشهر والأبرز وهي الإحالة إلى مريم العذراء ووليدها والتي تتجلي بوضوح في المشهد الأول حين نرى شيبا تنجب طفلها بمفردها في صمت مُذكّرة إيانا بالمشهد التراثي الشهير(فجائها المخاض إلى جذع النخلة).

هذه الإحالات ليس الغرض منها نزوع نحو تأويل ديني أو لا ديني بل هي على ما يبدو هنا ندوب تراثية براقة لا يمكن إغفالها على البشرة الوجدانية للمخرج، إن تلك الإحالات هنا تستلهم من الأمهات التراثيات صمتهن وضراعتهن للرب أن يحفظ الوليد في مهده مثل المشهد الذي نرى فيه مناجاة شيبا للطفل أسفل الشجرة المقدسة في البلدة التي تُعلّق فيها القرابين وصور الأحباب لكي يحفظهم القديسين ويصونهم الرب.
وكما يقال في اللغة أن التضاد يخلق قوة في المعنى وتأكيدا عليه، فإن التضاد ما بين طهارة الأمهات التراثيات في مقابل دنس شيبا رغم التوافق الدرامي في الأحداث (أمهات يلدن أبنائهن في صمت وعزلة خوفا من البطش أو الفضيحة) هذا التضاد يستغل الدراما التراثية في تعميق هدف الفيلم في الحديث عن فضيلة الصمت الذي يبدو مثل قانون بشري يجب اتباعه لكي يستمر العالم، ولكن المخرج هنا يتخذ موقفا مغايرا من فكرة الفضيلة فيحلها إلى فضيحة الصمت التي تسبب الأحزان الأبدية لشخصياته.

فشيبا سوف تظل حزينة على فقدانها ابنها لصالح بقائه مع أبيه الطبيعي رغم لا شرعية العلاقة بينهم، والزوج سوف يظل حزينا كلما تذكر أن زوجه أباحت فرجها لرجل غيره بينما كان هو يكدّ من أجل بيته وأولاده ولأنه اضطر إلى التواطؤ على هذه الإباحة من أجل أن يبقى بيته قائما يضمّ زوجته وطفليه، وصاحب المزرعة سوف يظل حزينا على طفله الذي لا يستطيع الاعتراف به في مقابل طفله الشرعي الذي أخذته زوجته الشابه وغادرت لكي تظل البلدة مقتنعة أن الوليد الآخر هو ابنه منها بينما الكل يعلم أنه ابن خطيئة ولكن الكل سوف يظل صامتا لأن الحياة تحتاج لهذا الصمت كي تتحرك في الزمن.
 


إعلان