حصة وافرة من جوائز “أبو ظبي” لوثائقيات عربية
قيس قاسم

نال فيلم “المطلوبون الـ 18” جائزة أفضل فيلم وثائقي من العالم العربي وياسمين فضة صاحبة “ملكات سورية” مُنحت جائزة أفضل مخرج من العالم العربي، فيما حصل”العودة إلى حمص” لطلال ديركي على تنويه خاص ضمن مسابقة اللؤلؤة السوداء للأفلام الوثائقية أما “أم غايب” فخرج بجائزة فيبريسي (جمعية النقاد العالمية) و”الأوديسا العراقية” حصل على جائزة اتحاد النقاد الآسيويين العالمي “نيتباك” وبهذه الحصيلة يكون الفيلم الوثائقي العربي قد نال حصة وافرة من مسابقات دورة امتازت بالقوة وكان التنافس على أشده بين المتبارين في المسابقات التي جمعت العالمي والعربي سوية بإستثناء جائزة “فيبريسي” التي اختصت بالفيلم العربي فقط في هذة الدورة.
من البديهي أن تخرج قراءة في تلك الجوائز، وفي إطار عرضها وتسابقها في أبو ظبي، بإستنتاجات أولية حول مستوى الفيلم الوثائقي في العالم العربي الذي لم تصل سينماه الوثائقية بالعموم إلى مستوى الطموح والقدرة على التنافس في المجالات العالمية، لكن وفي سياق العرض لا بد من الإشارة أن حضوره قد بدأ يترسخ أكثر في الوسط المختص وهو ما كان، ولعقود، غائباً لأسباب تعود إلى أن الاهتمام كان منصباً على الروائي فأُهمل الوثائقي واقترن بالتلفزيون والريبورتاج. والغريب أنه، وحتى على المستوى النقدي، ظل ثانوياً وأن بعض النقاد العرب تعاملوا معه معاملة ثانوية بسبب تدني مستوياته وتباعد انتاجه سينمائياً. في العقدين الأخيرين بدأت هذة النظرة تتغير وأصبح النقاش حولها أوسع ودائرة الاهتمام بها لم تعد بذات الضيق.

في هذا السياق يصلح شريط “المطلوبون الـ 18” أن يكون مثالاً على المستويين الفلسطيني والعربي، فهذا العمل يقترب طموحه من طموح محبي السينما والمهتمين بها كونه احتوى على أكثر من وسيلة تعبيرية سينمائية، واستطاع الخروج من إطار المناجاة السياسية المعبرة عن مظلومية تاريخية صارخة بحق الشعب الفلسطيني إلى قراءة أشد عمقاً، تُراجع نقدياً بعض مراحل التجربة.
يمزج الشريط الذي صنعه سوية عامر شوملي وبول كون التحريك بالمقابلات والمشاهد المصورة إلى جانب الأرشيف، في تناغم رائع يضعه من بين أهم الأفلام الفلسطينية إذا قبلنا بما اقترحه من مراجعة لتجربة “أوسلو” موضوعاً وثائقياً وكيف أضرّت بالانتفاضة الفلسطينية الأولى.
إذا كان ثمة شبه إجماع على جودة الفيلم الفلسطيني فإن “أم غايب” المصري للمخرجة نادين صليب قد أحدث بعض الانقسام الصحي في صفوف النُقاد فانحاز بعضهم إليه إيجاباً وخرج البعض الآخر منه بانطباع لا يرتقي إلى مستوى الإعجاب.

الإنقسام نابع من طبيعة المادة الوثائقية التي عالجت فيها موقفاً اجتماعياً منتشراً في العالم العربي ويتعلق بظاهرة حرمان بعض النساء من نعمة الإنجاب الطبيعية ومعاداة المحيط لهن لهذا السبب. لقد عاينت صليب مادتها الوثائقية معاينة جيدة من أهم تجلياتها الملازمة الطويلة لسيدة اسمها حنان حُرمت من نعمة الإنجاب لكن الله وهبها موهبة السرد الشفاهي والقدرة على القصّ والتعبير السهل عن أدق مشاعرها كإنسانة وامرأة تعاني من مشكلة جدية في مجتمع فلاحي يُقرن الإنجاب بالقدرة على العيش ومقاومة الفقر.
فالفلاح أمله بأطفاله يدخّر قوتهم لمستقبل أيامه غير المؤمنّة لا بحماية دولة أو نظام نقابي متين. لقد ظلّ موضوع الإنجاب دافعا للزواج وتعددّه، لكننا الآن أمام نص سينمائي يقترب بدرجة شديدة من موضوع حساس يضعنا أمام مسؤوليتنا الأخلاقية إزاء ظاهرة اجتماعية عبرت حنان عنها بلغة بسيطة، وعملت صليب على نقلها كما هي محافظة على المسافة اللازمة لصانع الوثائقي وموضوعه. في المنطقة الريفية التي جرت أحداث شريط “أم غايب” فيها نلاحق حيوات بشر يعيشون في شروط عيش صعبة تفرض على المرء سؤال: لماذا هذا الإصرار على الإنجاب وما الذي ينتظره المولود الجديد؟ هل ثمة شيء فيه يغوي للخروج للعالم؟ لقد ظللت صليب هذا السؤال الضمني بمرارات لوعة الحرمان والانحياز للحياة وعيشها بكل مراراتها على التنكُّر لها. لقد أحب هؤلاء الفقراء الحياة إلى درجة تبدو فيها الصورة متناقضة مع عيشهم وعملهم اليومي مع الموت كعمال مدافن وبُناة قبور. على صورتي الموت والحياة لعبت صليب وقدّمت مقاربة فيها الكثير من النباهة السينمائية والمعرفة بقوانينها.
دون شك يستحق “أم غايب” قراءة نقدية أوسع كما هو الحال مع فيلم سمير العراقي “الأوديسا العراقية”.
يجول سمير العالم ليُسجّل مصائر عائلته مكتفياً بالملاحقة والسؤال دون فرض رؤيته الخاصة على المشهد العام لعينات عراقية تُعبّر مفرداتها عن التحولات التراجيدية لبلد كان على عتبة التقدُّم والعصرية لكنه تراجع وتمزّق فتشرّد أبناءه في جهات الأرض الأربع.

على المستوى الروائي فوزه بجائزة اللؤلؤة السوداء كأحسن فيلم يفرض علينا قراءة جوانب منه، ونعني بكلامنا هنا “لفاياثان” الروسي. ثمة أهمية استثنائية في نص فيلم “لفاياثان” (التنين) تُفسّر إلى حد بعيد لماذا منحته لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان كانّ جائزة أفضل سيناريو، وتكمن في أنه حاول قراءة المرحلة “البوتينية” وفق سياق تطورها التاريخي. فروسيا القيصرية التي يطمح بوتين إلى استعادة أمجادها، بُنيت على أساس التحالف الثلاثي الراسخ: “المال، السلطة والكنيسة”، واليوم، ووفق حكاية المواطن كوليا وعائلته، تعيد السلطة إنتاج “طاغوتها” مُحصنّة بنفس التحالفات السابقة. وبهذا المعنى فإن”لفاياثان” فيلم تحليلي، رؤيوي وليس سياسياً مباشراً، استثمر صانعه السينما وقوتها ليقدم رؤيته عن واقع بلاده التي تمضي عائدة باتجاه إرثها القيصري. لقد جعل أندريه زفياكنتسف من عمدة مدينة تقبع في ركن قصي من غرب روسيا، على ساحل بحر بيرينتس، رمزاً لقسوة السلطة وجشعها. صوره كـ” تنين” لم يتوانَ، من أجل امتلاك بيت كوليا مقابل مبلغ بخس ودون إرادته، عن القيام بكل ما تمنحه السلطة له من قوة، لا يمكن لرجل عادي مثل كوليا مقاومتها.
“لفاياثان” فيلم عن محنة الكائن وضعفه إزاء همجية الدولة منظور إليها بعين سينمائية حوّلت الفكرة إلى نص سينمائي رائع أبطاله أناس عاديون، تُعبّر تمزقاتهم الداخلية وتفكُّك علاقاتهم بدرجة كبيرة عن درجة تفكك المجتمع الروسي وتحولاته، فلولا الرغبة الجامحة في تحويل المنطقة إلى منتجع سياحي لما تفككت عائلة كوليا بنفس الدرجة التي تفككت بها على يد ممثل السلطة – العمدة -وبطانته، ولولا ضغطه الشديد عليهم لما تطلّب الأمر طلب المساعدة من محامي خسر القضية، التي كان من المؤكد أنه سيخسرها، لكنه ربح علاقة أقامها مع الزوجة التي قُتلت فخسرت حياتها مثلما خسرت العائلة البيت وكل ما تملك. سلسلة من الخسارات يُقابلها اجتياح مستهتر لقوة الدولة ورموزها، لمّحت إلى ما ينتظر روسيا من فواجع تُعيدها إلى زمن كان بؤس الروسي فيه رمزاً للتعاسة. “لفاياثان” وبعمق فكرته وقوة تنفيذها سينمائياً رسّخ حضور الروسي أندريه زفياكنتسِف بين المخرجين الكبار فيما وضعت أفلام كثيرة وبشكل خاص الوثائقية الدورة في مستوى مختلف عن سابقاتها.