“سبتة” يفوز بجائزة الجزيرة الوثائقية بخريبكة

المصطفى الصوفي – خريبكة

بوستر فيلم “سبتة.. ثقافات متعددة”
تُوِّج الفيلم المغربي “سبتة.. ثقافات متعددة” لمخرجه إدريس الريفي التمسماني بجائزة الجزيرة الوثائقية وهي الجائزة الكبرى، وذلك في اختتام الدورة السادسة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، بمدينة خريبكة المغربية الذي أقيم منذ الـ 24 من شهر ديسمبر الجاري، بمشاركة 16 فيلما ضمن المسابقة الرسمية تمثل 13 دولة عربية وأجنبية.
وتَسلّم هذه الجائزة الرفيعة، مدير شركة سكاي ميديا المهندس صهيب الوساني مدير مهرجان أوروبا الشرق للفيلم الوثائقي الذي يقام بمدينة أصيلة، من يد ممثل الجزيرة الوثائقية المنتج محمد المنجي.
تسامح الأديان السماوية
ويعالج هذا الفيلم الوثائقي المتوَّج، ومدته 52 دقيقة، قضية كونية وإنسانية، تتمثل في روح التعايش والتسامح للأديان السماوية، رغم  سلطة الاحتلال الإسباني لهذه المدينة المغربية، إلى جانب مدينة مليليه في شمال البلاد.
وقد وظّف مخرج هذا الفيلم، التاريخ الفكري والحضاري للمملكة المغربية، من خلال شخصية أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي، الملقب بالشريف الإدريسي، الذي ولد في مدينة سبتة عام 493 هجرية الموافق لـ 1100 ميلادية، وتوفي العام 559 هجرية الموافق  لـ 1166 ميلادية، وهو أحد كبار العلماء المسلمين في التاريخ والجغرافيا والأدب والفلسفة وعلوم النجوم والمجرات، وذلك بهدف إبراز قيم التسامح والحوار، والتعايش للأديان السماوية، فضلا عن مختلف الثقافات وحضارت الشعوب والأجناس التي تعاقبت على هذه المدنية الجبلية منذ غابر الأزمان.
وقد برع التمسماني، في حبك قصة مدينة تاريخية تمتد على مساحة تُقدّر بما يقارب عشرين كيلومتر مربع، بهوية متعددة، تتعايش فيها الكثير من الديانات والثقافات، وتعيش بين جنباتها طوائف ونحل وقبائل وجماعات، فرّقتهم المعتقدات والتقاليد والعادات، لكن وحدتّهم وجمعتهم المدينة، كفضاء وتاريخ وذكريات وهوية، وأحلام وتطلعات، هذا الفضاء الجميل، الذي يستمد فلسفته في التعايش والعيش بسلام وأمان من روح العالم والمفكر والفيلسوف الشريف الإدريسي، الذي أخذ العلم بسبتة وقرطبة، وزار الحجاز و تهامة ومصر، ووصل سواحل فرنسا وإنجلترا، وسافر إلى القسطنطينية وآسيا الصغرى، كما ألّف العديد من الكتب منها مؤلفّه الشهير(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) أو (الكتاب الروجري) نسبة إلى الملك روجر ملك صقلية آنذاك، فضلا عن كتاب (روض الأنس ونزهة النفس)، وغيرها.

موسيقى رائعة لأوتار مقطوعة

ولمع بمناسبة إعلان الجوائز نجم السينما الوثائقية الفلسطينية، وذلك بعد أن حصد فيلم”أوتار مقطوعة” لمخرجه أحمد خميس الذي تعذّر عليه الحضور بسبب الحصار بقطاع غزة، ثلاث جوائز، وهي جائزة أحسن تصوير، وجائزتي النقد ولجنة التحكيم.
ويتحدث الفيلم، الذي صنع من مشاهده، أوتارا موسيقية لها إيقاع وجرس ورنات رقيقة، عن أطفال غزة المحاصرة، والذين تبدّلت أفكارهم الجميلة، بأفكار مشوشّة من صنع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، ومقاومة هؤلاء الأطفال للتخلُّص من تلك الحالة.
كما يقدم الفيلم، حكاية أطفال شجعان، دُمرّت بيوتهم وبيوت أهاليهم، لكن زوايا أحلامهم المبدعة، ونبرات وجدانهم الشاعرية، تُحوِّل الواقع القاسي، إلى فسحة للحلم، وعزف ألحان رغم تلقائيتها إلا إنها تحكي ألف قصة وقصة، إنها حكاية أصوات موسيقية رغم مسحتها التراجيدية والدرامية، إلا أنها تنبع من وجع الأنقاض والحطام والأخشاب المكسرة، ،أصوات، بهية تجعل من البوح السينمائي لغة دالة ومؤثرة.

ومنحت مشاهد الفيلم الذي توثق لأحداث الحرب الهمجية على قطاع غزة، للجمهور والمتلقي إشباعا بصريا كافيا مؤثرا نظرا لبشاعة وقساوة وضراوة العدوان الإسرائيلي على القطاع، حيث استطاع المخرج وكاتب السيناريو في نفس الوقت توظيف الفتيات وبراءة الأطفال لنقل الصورة الحقيقية والواقعية، عما تعانيه غزة المحاصرة، وذلك عبر تيمتي النبرة الموسيقية وتجسيد الحلم الذي يتوسد الأطفال.
ووفق المخرج، في الفيلم الذي راق كثيرا جمهور المهرجان، في جعل المقابلات مع الأطفال الحالمين بالنجومية مع سحر الموسيقى، لغة سينمائية رقيقة، ما جعل من الفيلم، الذي حصد معظم الجوائز، شرفة إبداعية امتزج فيها الواقعي بالحالم، والموسيقي، بالمستقبلي، وذلك من أجل تحدي ألم الحصار ووجع الاحتلال من أجل عزف ألحان الآمال الخضراء والأحلام رغم الأوتار المقطوعة للكمان، ورغم تكميم الأفواه، وطمس الحقيقة.

(أركال) يفوز بجائزة مركز الجزيرة للتدريب

تسليم جائزة الجزيرة الوثائقية

كما نوهت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية بالمناسبة، بفيلم” إسبانيو المغرب” لمخرجته الإسبانية باولا بلاسيو، والذي يتحدث عن قصة الشعب الإسباني في المغرب، وهي لحظة سينمائية، أبرزت فيها المخرجة الإسبانية تلاحم الدولتين والشعبين الجارين، اللذين تجمعهما قواسم مشتركة في التاريخ والجغرافيا والثقافة.
وآلت جائزة الإخراج، لفيلم” آذان في مالطا” لمخرجه المغربي رشيد قاسمي، هذا الأخير الذي يستغل جمال اللغة العربية، وعبق التاريخ الأصيل، الذي يربط مالطا بحقبة عربية مزدهرة، ليأخذ الجمهور في رحلة سينمائية فسيحة، للتعرُّف على تاريخ هذه الجزيرة المجهولة، تقوم بها طالبة بمعهد للغات بالعاصمة باريس إلى مالطا لتكشف هذا الجمال والعالم اللغوي والحضاري للمدينة، فيما نوهت لجنة المسابقة الرسمية بفيلم ” العائدون” لمخرجته الفلسطينية الكندية تغريد سعادة، والذي يُسلِّط الضوء على معاناة المئات من الصحراويين المغاربة القاطنين في مخيمات العار بتندوف ورحلة الرجوع إلى الوطن الأم.
وبالنسبة لمسابقة أفلام الهواة المغربية، فاز بجائزة المجمع الشريف للفوسفاط، للمخرجة فدوى علواني عن فيلمها “اسم الشهرة سهير”، فيما عادت جائزة مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير لفيلم” أركال” لمخرجه خالد الحسناوي، أما جائزة الجمهور، فعادت إلى الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى وهو فيلم “سبتة.. ثقافات متعددة” لمخرجه إدريس الريفي التمسماني.

تكريمات متنوعة وندوة رئيسية
وترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية المخرج والمنتج السينمائي البرتغالي سيرجيو تريفو، وضمت في عضويتها المنتجة والإعلامية المغربية أمينة الشفشاوني والمخرج والأكاديمي المغربي أحمد أعراب، والمخرجة والمنتجة المصرية ماجدة فهيم وهبة رزق، والاعلامي الاسباني خوسي خورادو.

وتكونت لجنة النقد من حسن وهبي، وعبد الكريم  واكريم، وأمينة الصيباري، أما لجنة تحكيم مسابقة أفلام الهواة، التي شاركت فيها ستة أفلام، فضمت الكاتب والناقد السينمائي عزيز ثلاث، ونور الدين العلوي وعز الدين الوافي. حيث تبارت حول جائزتي(المجمع الشريف للفوسفاط، ومنحة التكوين والتي سيتكفل بها مركز الجزيرة للتدريب والتطوير.

كما عرف حفل الافتتاح تكريم الناقد والكاتب الدكتور سعيد يقطين، والإعلامي والصحفي خالد ادنون، بالإضافة إلى السكرتير العام لمؤسسة مهرجان السينما الإفريقية الحسين اندوفي، والموثق السينمائي عبد الحق بوزيد، وتكريم مدينة طنجة.

وكان من أقوى فقرات الدورة، تنظيم ندوة فكرية عن الفيلم الوثائقي والذاكرة التاريخية، والتي تميزت بمشاركة أكاديميين وسينمائيين ومهتمين من داخل المغرب، إضافة إلى تنظيم فقرة “ماستر كلاس”، حول موضوع “صورة المغرب في السينما الوثائقية الإسبانية الاستعمارية”، وقدمها الباحث المتخصص في التاريخ والتراث القديم محمد القاضي، الذي تحدث عن السينما الوثائقية في الفترة الكولونيالية والاستعمارية قبل استقلال المغرب، وبعد فجر الحرية، فضلا عن ندوة حول السينما الوثائقية في إسبانيا، بمشاركة المخرجة باولا بلاسيو والمخرج والسينمائي والإعلامي الإسباني خوسي خورادو، ركزّا فيها على تجربتهما في المجال السينمائي وبخاصة الوثائقي، فضلا عن ميزات السينما الوثائقية الإسبانية وإكراهاتها، وتطلعاتها أيضا، في علاقتها بباقي التجارب السينمائية المتوسطية والأوروبية والعالمية.

دعوة للنهوض بالفيلم الوثائقي
وفي ندوة الفيلم الوثائقي والذاكرة التاريخية، دعا أكاديميون ومهتمون وسينمائيون إلى النهوض بقطاع الفيلم الوثائقي، لما يُمثّله هذا الجنس الفني والإبداعي، من ركيزة أساسية في الهوية الوطنية والثقافة الإنسانية، ومن ذخيرة لا مادية نفيسة، تحفظ الذاكرة الجماعية والثقافية للشعوب، مبرزين قيمة هذا الإبداع، في الخطاب السينمائي برمته، ومراميه النبيلة من أجل صيانة التاريخ، وبناء المستقبل لكل الأجيال.
وطرح الدكتور عثمان أشقرا، في مداخلته، العديد من الأسئلة الأكاديمية والمفاهيمية حول الفيلم والوثائقي والسينما، والذاكرة التاريخية، وهي تساؤلات ـ كما أوضح ـ تنم عن نوع من القلق الوجودي والسوسيولوجي والفكري، كباحث في علم الصورة، متطرقا إلى مواضيع كثيرة، ارتبطت بالفيلم الوثائقي وارتباطه بالواقع، ومضامينه، وعلاقة الوثائقي بالتخييلي، والمدرسة التصويرية الألمانية والواقعية الجديدة، في مجال الفيلم الوثائقي، والذي قال “أنه لم يستعد عافيته الا مع القرن الـ 21، والذي أصبحت فيه السينما الوثائقية تحظى بالتقدير، بالعديد من المهرجانات وتفوز بجوائز قيمة.
وعلى المستوى المغربي، قدم الدكتور أشقرا، عددا من التجارب المغربية في المجال، وذلك من خلال مخرجين أبدعوا في أفلام متنوعة، من أبرزهم لحسن زينون، وسعد شرايبي وحكيم بلعباس ومومن السميحي، داعيا بالمناسبة إلى تطوير الرؤى في هذا المجال، والاعتماد على الذاكرة والبحث في المخيال المغربي، من أجل أعمال لها قيمتها الإبداعية على المستويين المحلي والكوني.
أما الأكاديمي الدكتور عز المغرب معنينو، فكشف في تدخله عن أن ذاكرة الوثائقي في المغرب منذ الاستقلال، كانت ضعيفة ومنعدمة في بعض الأحيان، فقط هم الأجانب الأوروبيين، هم الذين كانوا يقومون ببعض المبادرات الخجولة، دون مساهمة الفكر المغربي في ذلك، مبرزا أن الوقت الحاضر تدارك هذا النقص الحاصل في هذا المجال، وتم فيه رفع الحجر عن الفيلم الوثائقي، وتوثيق التاريخ المحلي بطريقة مناسبة.

كريمة وأهمية المخطوط كسجل توثيقي
ولامست الدكتورة كريمة يحياوي في مداخلتها قضايا عدة ارتبطت بالخصوص، بأهمية المخطوط كسجل توثيقي في الذاكرة العربية والإنسانية، وقيمته التاريخية والحضارية في مختلف الأقطار العربية والإسلامية. كما قدّمت قراءة عالمة لفيلم وثائقي بعنوان (كنوز في بحر لجيّ) لمخرجه الدكتور أحمد أعراب، وسيناريو كريمة يحياوي وأسامة العمراني الخالدي، قراءة سلطّت فيها الضوء على أهمية المخطوط المغربي والمخاطر التي تتهدد هذا الإرث الثقافي والحضاري من إهمال ونهب وتهريب.
وكشفت الدكتورة يحياوي النقاب في الفيلم عن فكرة وإعداد للدكتور عبد الله أبو عوض، وإنتاج شركة برودي، عن عدد من الأكاديميين والمتخصصين المغاربة والأجانب الذين شاركوا في هذا الفيلم الوثائقي، أبرزهم المؤرخ  عبد الهادي التازي، ايفان خميس من جامعة برشلونة الإسبانية وغيرهم. حيث لامست العديد من المحطات التي عرج عليها الفيلم، ومنها مكتبات الأسرة الصبيحية والبدراوية وغيرها، ومكتبة جامعة القرويين التي تعد أقدم جامعة في العالم العربي والإسلامي، والتي تضم فيضا من الذخائر والنفائس، منها كتب لابن رشد وابن خلدون وابن طفيل، ونسخة من القرآن الكريم، كتبت على رقّ الغزال، والتي تعود إلى القرن الثاني الهجري. فضلا عن جهود الدولة في صيانة هذا الكنز التراثي والثقافي، والذي لا يمكن للزمن أن يجود به مرتين.

عبيدات الرما ترسم لوحات تراثية راقية

فرقة عبيدات الرما

وشهدت هذه الدورة، التي احتضنها رسميا المجمع الشريف للفوسفاط، بدعم من المركز السينمائي المغربي، وقناة الجزيرة الوثائقية، ومركز تفسير للدراسات القرآنية بالمملكة العربية السعودية، ومركز الجزيرة للتدريب والتطوير، وبتعاون مع عمالة إقليم خريبكة، والجماعة الحضرية، تنظيم ضمن فقرات وأنشطة موازية، منها توقيع كتب وإصدارات جديدة، وتنظيم أمسية شعرية وزجلية، ولقاءات مفتوحة ومباشرة من السينمائيين المشاركين، ومناقشة الأفلام المشاركة كل صباح، ما جعل المهرجان، يتحول إلى منتدى إبداعي وثقافي للتواصل وتبادل التجارب والخبرات في مجال السينما الوثائقية، ومحطة ثقافية راقية للاحتفاء بالفيلم الوثائقي العربي والدولي، وهو ما أعطى لمدينة خريبكة الاقتصادية والفوسفاطية مزيدا من الإشعاع الثقافي وصفة عاصمة السينما بامتياز.
وكان في حفل الافتتاح، الذي أقيم بالمركز الثقافي للمدينة بحضور وفد رسمي تقدمه وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة مصطفى الخلفي رفقة عامل الإقليم عبد اللطيف شدالي، تكريم كلا من إسبانيا ضيف شرف الدورة، فضلا عن الروائي عثمان أشقرا صاحب رواية (بولنوار) التي حوّلها المخرج المغربي حميد الزوغي إلى فيلم سينمائي طويل، وتكريم جمعية تلاسمطان بالشاون.

واستمتع الجمهور بلوحات فنية تراثية، من توقيع الفرقة الموسيقية الشعبية عبيدات الرما، وهي الفرقة الأشهر على صعيد المملكة، والتي قدمت لجمهور هذه المدينة، الذي يحتضن كل سنة المهرجان الوطني لعبيدات الرما، فسحة موسيقية تغنت فيها المجموعة بالوجدان والتراث والهوية، ما منح الدورة السادسة من المهرجان السينمائي الوثائقي طابع الخصوصية لتكريم مختلف الفنون، كشكل من أشكال إشراك الجميع في خلق إشراقات ثقافية مبدعة تزهر عن قرب، وتتسع متفتحة لتشمل الآخر، ولترسخ روح المحبة والتعايش بين الجميع.


إعلان