“مهرجان الفيلم الملتزم” بحث في فائدة الإنسانية

ضاوية خليفة – الجزائر

شهدت الجزائر هذا العام العديد من الأحداث الثقافية والفنية أبرزها تخلف بعض المهرجانات الدولية الهامة وغيابها غير المبرر، كمهرجان وهران للفيلم العربي، ومحافظة أخرى على موعدها مع الجمهور كمهرجان الجزائر الدولي للسينما “أيام الفيلم الملتزم” الذي واصل تألقه للسنة الخامسة على التوالي، في محاولة لتحقيق أكبر قدر من الأهداف التي سطّرها منذ نشأته، والجمع بين جمالية الصورة وجدية الطرح من خلال أعمال سينمائية تترجم انشغالات سكان هذا العالم، فقد تميزت دورة 2014 بجودة ونوعية الأفلام التي رافعت لأجل الإنسانية والحرية، وضمت في لجان تحكيمها أسماء كبيرة لها رصيد سينمائي مشرف كالفلسطيني “ميشال خليفي”، السويسري “جاك سرازان” والتونسية “درة بوشوشة” مديرة أيام قرطاج السينمائية وكذا الجزائري “جمال بن ددوش” وآخرين، وهو ما اعتبره الكثير قيمة مضافة للمهرجان.

اعتبرت “زهيرة ياحي” محافظة مهرجان الجزائر الدولي للسينما ”أيام الفيلم الملتزم” أن إطلاق الدورة الخامسة للتظاهرة يُعدّ خطوة هامة تبنتها الجزائر بغية الترويج للسينما الملتزمة التي تهتم بقضايا الشعوب وتعنى بالصراعات الإنسانية والأزمات الاقتصادية والتهديدات الإيكولوجية التي يعيشها العالم على فترات متقطعة، مؤكدة سعيها لجعل المهرجان قطبا سينمائيا وإشعاعاً ثقافياً يقدم أعمالا فنية تتقاطع فيها الأفكار وتتوحّد من خلالها المشاعر وتجتمع في سياقها القيم الإنسانية والقضايا العادلة، بكل ما للصورة من جماليات ومدلولات، وفي تقييمها الأولي لخامس طبعة قالت ياحي أن إقبال الجمهور المسجل أكثر هذا العام وانفتاحه على العروض ومشاركته في النقاش والندوات ساهم كثيرا في نجاح الفعالية التي أثبتت أن الجزائر تمتلك جمهور ذواق يحسن المشاهدة ويجيد الاختيار، وهذا حسب المتحدثة سيساهم مستقبلا في إعادته إلى صالات العرض والتعجيل بفتحها من جديد، وفي سياق ذي صلة، دعا بعض المهنيين والمهتمين إلى ضرورة برمجة عروض ثانية بدل الاكتفاء بعرض واحد للأفلام، ويحسب للمهرجان هذه السنة عرضه لأحدث الانتاجات السينمائية كـ “طريق العدو” لرشيد بوشارب”، “عيون الحرامية” للفلسطينية نجوى النجار وفيلم “تمبكتو” للمخرج الموريتاني “عبد الرحمن سيساكو” الذي شهد إقبال كبير للجمهور الذي لم تسعه القاعة.

كما برمجت محافظة المهرجان ندوة علمية بعنوان “التاريخ والذاكرة في خدمة الالتزام”، شارك فيها كل من الباحث الجزائري “أحمد بجاوي”، المخرج البنيني “ادريسو مورا كابي”، الممثل والسيناريست الفيتنامي “لام لي” والفيلسوف الفرنسي “كلود ريب”، حيث استعرض كل منهم تجربته في مجال كتابة التاريخ من خلال المؤلفات والأعمال السينمائية مرورا بالدور الهام الذي قامت به السينما للحفاظ على ذاكرة الشعوب وتاريخ الأوطان، كما توقف المحاضرون عند أهم الصعوبات التي تواجه أي كاتب، سينمائي أو مخرج يريد الاشتغال على هذه التيمة كنوع من الالتزام الذي لم يعد يرتبط بالسياسة أو الأيدولوجيا بل أصبح نطاقه أكثر اتساعا وتفتُّحا وشمولية في عصر التكنولوجيا والصورة التي تمكنت من التوثيق لمراحل إنسانية هامة.

تكريم وفقدان.. تقدير وتتويج

تكريم المصور ستيفان لابيدوفيتش

واصل المهرجان سلسلة التكريمات التي دأب عليها منذ تأسيسه، إذ التفت في هذه الدورة إلى فقيد السينما الجزائرية المخرج “عبد الرزاق هلال” صاحب فيلم “المصباح السحري” الذي استطاع أن يزاوج بين الإخراج والكتابة والتدوين للحفاظ على الذاكرة والتاريخ بشكل سليم، والتكريم الثاني جاء على شكل “اعتراف” لما قدّمه مصور الرئيس اليوغسلافي تيتو “ستيفان لابيودوفيتش” للثورة الجزائرية، والذي بدا متأثرا وهو يتسلم درع المهرجان، فكانت المناسبة لعرض أحد أفلامه عن الثورة التحريرية التي اعتبرها من أعظم ثورات العالم، كما كان لصاحب فيلم “شوغر مان” الجزائري الراحل “مالك بن جلول” نصيب من التكريم أيضا إلى جانب مخرج وثائقي “رهبان تيبحيرين السبعة” “مالك آيت عودية” الذي غيبّه المرض عن تلك اللحظات الجميلة التي جمعت بين أجيال سينمائية وقامات فنية كبيرة.

والختام كان بتتويج أفضل الأعمال السينمائية المشاركة، حيث فاز وثائقي “امتحان دولة” لديودو حمادي من الكونغو الديمقراطية بالجائزة الكبرى للمهرجان، بينما عادت جائزة لجنة التحكيم لفيلم “بخصوص العنف” لغوران هيغو أولسون”، في حين فضّل الجمهور منح جائزته في هذا الصنف إلى “صوت أمريكا اللاتينية مرسيدس سوزا” للمخرج “فيا روديرغو” الذي تمكن من خلال هذا الوثائقي القوي والمتميز من تعريف الجمهور الجزائري بهذه الشخصية والقامة الفنية التي حملت ودافعت بصوتها عن العديد من القضايا الإنسانية، بينما اكتفت الجزائر بتنويه خاص عن وثائقي “حنا برا” لبهية بن شيخ الفقون ومريم عاشور عكاز.
 وفي صنف الفيلم الطويل الخيالي منحت لجنة التحكيم برئاسة الجزائري “جمال بن ددوش” جائزتها إلى المخرج “دانيس تانوفيتش” عن فيلمه “زوجة تاجر الخردة”، كما تحصلت مخرجة “غابريال” الكندية “لويز أرشمبول” على الجائزة الكبرى للمهرجان، أما جائزة الجمهور فعادت إلى فيلم “مثل الريح” لماركو سيمون بوتشيوني من إيطاليا، بينما اكتفى فيلم “لوبيا حمرا” للجزائرية “نريمان ماري” و”الإخوة كوبسي” للشيلي سيباستيان سبولفيدا بتنويه خاص، وتجدر الإشارة إلى أن لجنتي تحكيم الأفلام الوثائقية والطويلة أشادت بمستوى وجودة الأفلام التي جمعت بين قوة الموضوع والمعالجة السينمائية، مما صعّب عليها المهام لاختيار الأفضل.

بعض أفلام الدورة

لقطة من فيلم “حنا برا”

بدا مستوى الإنتاجات الجزائرية المشاركة في دورة 2014 ضعيفا مقارنة بأفلام أخرى، باستثناء فيلم رشيد بوشارب “طريق العدو” الذي يمك�� القول أنه حفظ ماء الوجه رغم أنه لم يكن جزائريا لا في موضوعه ولا في عمقه، أما وثائقي “احنا برا” لمخرجتيه “بهية بن الشيخ الفقون” و”مريم  عاشور عكاز” جاء ضعيف الحجة والبيان وضاع منهما البناء الدرامي وفقدتا جماليات السرد لموضوع الحجاب، البوابة التي دخلتا منها لتعرية بعض التصرفات الممارسة ضد المرأة من تحرُّش وتعنيف في مجتمع يريد أن يكون أكثر التزاما وانضباطا من الدين، فالهدف المرجو حسب ما أكدته “الفقون” هو أن يخرج المشاهد بعد متابعة العرض بمجموعة من التساؤلات ويحاول الإجابة عنها ليعرف إلى أي مدى يتدخل المجتمع في اختيارات المرأة ويملي عليها قرارات تلغي قناعاتها الشخصية، والنموذج كان لشابات وسيدات محجبات منهن من فرض عليهن هذا اللباس وأخريات خلعنه وتراجعن عن قرار ارتداءه لعدة أسباب، فمن بين المسائل التي خاض فيها الوثائقي أو الإشكالية التي طرحها “حرية الاختيار الممنوحة للرجل والممنوعة عن المرأة” في محيط يعفو عن الذكر ويلتمس له الأعذار ويطالب الأنثى بالطاعة والمثالية، وبعدما أثار هذا العمل حفيظة الجمهور خاب ظنه من جديد وهو يتابع ثاني فيلم جزائري يدخل المنافسة “لوبيا حمرا” لنريمان ماري متسائلا “أين هو الالتزام هنا”؟ وخرج أغلبهم من القاعة بلا جواب، باحثين عن الشكل الذي أرادته المخرجة لتحتفي باستقلال وثورة الجزائر، مع العلم أن الفكرة جيدة لكن المعالجة والتمثيل كان سيء.

وبالمقابل واصل المهرجان تمرّده على كل ما هو غير إنساني وبقي وفيا للقضية الصحراوية والفلسطينية، حيث عادت صاحبة “المرّ والرمان” المخرجة الفلسطينية “نجوى النجار” في “عيون الحرامية” إلى انتفاضة الأقصى 2002 وشاركها في ذلك الفنان المصري “خالد أبو النجا” والجزائرية “سعاد ماسي” في توليفة سينمائية جميلة ونادرة جمعت بين ثلاث دول عربية، من خلال قصة واقعية وعمل فني زاوجت فيه النجار بين القضية الفلسطينية والثورة الجزائرية التي لا تزال تلهم الكثير من الكتاب والسينمائيين، فالقصة هذه المرة جمعت مفارقتين بين شاب محب للوطن ومدافع عنه وآخر متآمر عليه ومنحاز إلى عدو الأمس واليوم، منتهك الحقوق والحريات الذي طعنت في وطنيته النجار وواصلت شخوص قصتها رحلة البحث عن الأمل المفقود.

ملصق فيلم “امتحان دولة”

تمكّن المخرج الأرجنتيني “فيا رودريغو” من الانفراد في وثائقي “مرسيدس سوزا صوت أمريكا اللاتينية” بتفاصيل هامة عن حياة هذه القامة الكبيرة بفنها، الملتزمة بإنسانيتها والوفية لمبادئها والتي لم تغنِّ لتعيش بل عاشت لتغني للإنسان والحرية، فالمخرج وهو يرصد مواقفها السياسية ومحطاتها الفنية يكون قد منح للمشاهد حرية اختيار الزاوية التي يقرأ ويفهم من خلالها أسطورة الفن والسلام المناهضة والرافضة لكل أشكال العنف والاستغلال البشري إلى آخر رمق من حياتها، كما أن التفاتة المخرج لنضال وتاريخ “مرسيدس سوزا” هو اعتراف وتقدير لها وإثراء لتاريخ الأرجنتين الحديث، بينما كان اختيار الكندية “لويز أرشمبول” ذكيا وموفقا، حيث ركزّت في فيلم “غابريال” على فئة ذوي الاحتياجات الخاصة التي لم تنصفها السينما بشكل جيد كما لم يفعل المجتمع ذلك تماما، وهذا من خلال قصة حب نشأت بين معاقين، قابلها الرفض من قبل الأسرة والمحيط، غير أن بطلا الفيلم لم يستسلما للواقع، وهنا دلالة وإشارة إلى ضرورة تغيير بعض الذهنيات التي تقمع كل أبجديات الحب وتحرّمه على هذه الفئة التي تتمتع بأشياء يفتقدها أحيانا الشخص العادي، وبالتالي هي خطوة تحسب لـ “لويز أرشمبول” ومحاولة لكسر بعض الحواجز التي أوجدها المجتمع تجاه هؤلاء، ودعوة إلى الانفتاح على العالم لفهمه أكثر، أما “ديودو حمادي” فقد قدّم في “امتحان دولة” حلما جميلا يراود الإنسان الإفريقي المثابر والحالم بغد ومستقبل أفضل بعيدا عن البيئة القاسية التي زادته رغم كل الانعكاسات تعلقا بالحياة والأمل والنجاح، فكان الهدف (الطلبة) تلقائيا في تعامله وفي رد فعله أمام الكاميرا، وهنا توقف حمادي عند تفاصيل دقيقة وهامة من رحلة هؤلاء الطلبة الذين يستعدون لاجتياز اختبار هام يعادل البكالوريا الفرنسية، وكلما تأزمت الأمور واشتدت الصعاب ازدادت الرغبة في تحصيل علمي جيد لمستقبل بدأ بحلم وولد من عمق مجتمع فقير، وكل تلك المراحل التي قطعتها كاميرا المخرج رفقة طلاب العلم والمعرفة جاءت لتُعرف العالم بتركيبة أبناء القارة السمراء التي كانت ولا تزال مثالا للصمود.


إعلان