12 عاما في العبودية: الأسلوب السينمائي الفريد

أمير العمري

ليس أهم ما يميز فيلم “12 عاما في العبودية” 12 Years a Slave  للمخرج البريطاني ستيف ماكوين، أنه يعيد تناول موضوع العبودية في الولايات المتحدة في السينما بشكل مؤثر وقوي. لاشك أنه أحد أهم ما ظهر من أفلام حول هذا الموضوع الذي سيظل يلهم الكثير من السينمائيين لأجيال قادمة. وربما يكون المخرج كوينتين تارانتينو قد لعب دورا بارزا في إعادة تسليط الأضواء على هذا الموضوع الإنساني – التاريخي بفيلمه “جانجو طليقا” (2012).
لكن على حين كان “جانجو” يقدم رؤية فنية سينمائية (خيالية) تستند إلى بعض الحقائق التاريخية، يأتي “12 عاما في العبودية” مستندا إلى الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه، من تأليف سولومون نورثوب (صدر عام 1853) وفيه يروي تجربته المريرة القاسية التي عاشها بعد أن استدرج من نيويورك إلى واشنطن عام 1841 وهو الرجل الحر، ثم يختطف ويتعرض للتعذيب الشديد ويلقنونه أن إسمه “بلات” وأنه عبد هارب من جورجيا، ثم يباع إلى أحد ملاك الأراضي وينقل إلى الجنوب الأمريكي حيث يرغم على القيام بالأعمال الشاقة مع غيره من العبيد، وينتقل عبر البيع، بين عدد من ملاك الأراضي، إلى أن يتمكن من إثبات الحقيقة بعد مرور 12 عاما في العبودية، فيتحرر ويعود للالتحاق بأسرته.
هذا هو باختصار موجز موضوع الفيلم، وهو كما نرى، كان من الممكن أن يصنع فيلما تقريريا تقليديا لا يلفت الأنظار كثيرا من الناحية الفنية، فالغرض الأساسي لابد أنه سيتركز في توصيل الرسالة، أي الاحتجاج على ما كان يفعله الإنسان بالإنسان، ولايزال!
أما بين يدي مخرج رفيع المستوى مثل ستيف ماكوين (الذي سبق أن برزت موهبته في فيلميه السابقين “جوع” Hunger و”عار” Shame) فلا يصبح الفيلم مجرد “تقرير” سينمائي، أو قصة ميلودرامية تُروى على وتيرة واحدة، بل يصبح عملا فنيا كبيرا يبرز الحس التشكيلي والإحساس بالإيقاع السينمائي، يحتفي بالصورة ويجعل الدراما تتفجر من خلال مكونات الصورة، ويكتسب بالتالي، أهميته في تاريخ السينما.

يبدو الفيلم من السطح الظاهري، عملا تقليديا، يروي قصة بطله المعذب، الذي حرم من أسرته، وتعرض للخيانة والخذلان مرة تلو أخرى، حينما لم يستمع أحد لشكواه واحتجاجه، أو وشوا به لدى “سادته” الذين يرفضون تماما إعتباره أكثر من مجرد “عبد” أي مادة بشرية يمكن أن تكون مفيدة في الأشغال الشاقة المطلوبة في الحقول.. في حين أنه عازف ماهر على الكمان، ونجار بارع، وصاحب مهارة خاصة في إيجاد حلول للمشاكل الزراعية المتعلقة بالري، كما أنه يجيد القراءة والكتابة، وهي موهبة يحرص على إخفائها لأنهم يعتبرون أن العبد الذي يقرأ ويكتب، يمثل خطرا شديدا، فالجهل ضمان الطاعة.
إير أن ما يميز الفيلم ليس مضمون القصة ومغزاها التاريخي رغم أهميته، بل ذلك الاهتمام الكبير بتحويل هذه القصة التي كان يمكن أن تنحرف بسهولة في اتجاه “الميلودراما”، إلى دراما إنسانية تستند إلى أسلوب فني رفيع يولي إهتماما كبيرا بتفاصيل الصورة. هنا يصبح الأسلوب هو المضمون نفسه، فمن خلال زاوية التصوير يتم التعبير عن الفكرة. وللتدليل على أسلوبية الفيلم سنتوقف في هذا المقال أمام مشهدين رئيسيين فقط من مشاهد الفيلم.

 مشهد الشنق
المشهد الأول – الذي يعتبر محوريا في الفيلم هو المشهد الذي يتعرض فيه سولومون للشنق على أيدي النجار الأبيض العنصري “تيبيتس” ورفاقه في إقطاعية  وليم فورد.. الرجل الذي كان يبدي تعاطفا مع سولومون لكنه يظل عاجزا عن تحقيق ما يريده أي إثبات أنه “رجل حر”، فهو خاضع للنظام السائد لا يمكنه التمرد عليه، كما أنه واقع في ديون متراكمة ومضطر للتخلي عن عبيده وممتلكاته كجزء من “صفقة” مع إقطاعي آخر شرس معروف بشراسته في التعامل مع العبيد.
ذكاء سولومون واعتزازه بنفسه، يثيران غيرة “تيبيتس” الفظ الجاهل وعدوانيته، فيعتدي عليه بالضرب فيرد له سولومون الصاع صاعين.. هنا تقوم القيامة بالطبع، فكيف لعبد أن يتمرد على رجل أبيض ويرد العنف بالعنف… يحضر تيبتس ومعه رجلان ويقومون بشنق سولومون، غير أن رئيس العمال في الاقطاعية الخاصة بالاقطاعي الآخر “إيبس” يتدخل في اللحظة الأخيرة، لكي يوقف إعدام سولومون، قائلا لهم إنه سيصبح ضمن ملكية السيد إيبس الذي سيتنازل له فورد عن أملاكه سدادا لدين قديم، وبالتالي فحياة سولومون تساوي ثمنا كجزء من “التركة” فقط ولكن لا قيمة لحياته نفسها، بل المطلوب أيضا تلقينه درسا في ضرورة الطاعة، فالرجل يترك سولومون معلقا بين الحياة والموت، يستند فقط بأطراف أصابع قدميه على الأرض الطينية، ويظل يدور في الأنشوطة وقدماه تتلمسان الأرض بصعوبة، يمكن في أي لحظة أن يتهاوى جسده فيشنق وينتهي أمره. إنه يريده أن يصبح عبرة أمام غيره من العبيد في المزرعة.

يعتمد المشهد على ثلاثة عناصر أساسية في لغة السينما هي: الإخراج والتصوير والمونتاج. ويعتمد الإخراج على ما يعرف بالميزانسين أي الاهتمام الشديد بتصميم اللقطات (زوايا الكاميرا، الإضاءة، حركة الممثلين في الفضاء، المكونات البصرية في اللقطة.. إلخ).
يجلس سولومون قلقا ينتظر ما سيحل به.. نراه وظهره للكاميرا.. وفي الخلفية يظهر ثلاثة رجال على ظهور الجياد قادمون بسرعة.. في اللقطة التالية يسحبه إثنان منهم ويجرونه ثم يلقون بجسده على الأرض، وفي اللقطة التالية يضعون الحبل الذي يتدلى من شجرة حول رقبته ثم يجذبون الحبل إلى أسفل ليرتفع جسد سولومون في الهواء ويضغط الحبل على رقبته. في لقطة قريبة نراه يتأرجح مختنقا ونسمع صوت حشرجة تخرج من فمه، فهو يقاوم الاختناق.. ثم في لقطة عامة نرى رجلين يجذبان الحبل بقوة، بينما يقوم الثالث بتثبيت طرفه في وتد بالأرض. رأس سولومون في لقطة قريبة أخرى ثم جسده يتدلى من أعلى الشجرة في لقطة عامة. موسيقى اليكترونية مصاحبة تشبه صوت المنشار الكهربائي.. لقطات متنوعة من زوايا مختلفة لجسد سولومون يتدلى من الحبل المعلق بالشجرة، تتقاطع مع لقطات أخرى لقدميه وهو يحاول أن يلمس بالجزء الأمامي من قدميه الأرض ولكنهما تنزلقان بفعل التربة الطينية المبتلة تحته.. اللقطات طويلة زمنيا.. وتدريجيا تتغير الإضاءة لندرك كمشاهدين مرور الوقت .
في الخلفية يروح ويجيء بعض العبيد يقضون أعمالا معينة، في جو قلق مشحون. تأتي إحدى الجاريات تساعد سولومون بسرعة على شرب جرعة من الماء ثم تختفي. لا أحد يمكنه أن يساعده. المطلوب أن يشعر المشاهد بمعاناة سولومون وبالتجربة المريرة القاسية التي يتعرض لها. ونرى الرجل الذي وضعه في هذا الموقف وهو يراقبه عن كثب من شرفة منزل قريب. وفي لقطة متوسطة نرى وجه سولومون والجزء العلوي من جسده يتدلى من الحبل بينما نرى في خلفية اللقطة ثلاثة اطفال من أبناء العبيد يلعبون بالكرة ويلهون غير مبالين بالتطلع حتى إلى حيث يوجد سولومون بما يوحي للمشاهدين بأنهم قد إعتادوا على رؤية مثل هذا المنظر كثيرا. وفي لقطة عكسية من ظهر سولومون (متوسطة الحجم) نرى في الخلفية زوجة الاقطاعي إيبس المتسلطة تقف في الشرفة تتطلع إلى سولومون ثم تستدير وتختفي غير مبالية.

وفي لقطة بعيدة عامة نرى في مقدمة الصورة امرأة (من السود) تجلس على مقعد خشبي في الخارج تقوم ببعض الأشغال اليدوية، وفي خلفية الصورة عن بعد يتدلى جسد سولومون من الشجرة بعد أن أصبحت الإضاءة الآن أكثر قتامة فقد مضى وقت طويل من الظهيرة إلى المساء. وفي اللقطة التالية نرى سولومون في لقطة عامة قريبة يتدلى في مواجهة الكاميرا ثم يدخل فارس على حصانه هو السيد فورد الذي يهبط عن حصانه ويتناول سيفا ثم يقوم بقطع الحبل. وينتهي المشهد الذي يستغرق خمس دقائق كاملة.

 مشهد الجلد
أما المشهد الثاني فيأتي في الثلث الأخير من الفيلم عندما يكتشف السيد إيبس، غياب الجارية “باتسي” التي يغرم بها كثيرا ويتردد عليها ليلا فهو يعتبرها ملكية خاصة له، في حين تشعر زوجته بالغيرة الشديدة من ولعه بها. وعندما تعود باتسي متذرعة بأنها كانت تأتي بقطعة من الصابون من عند السيدة السوداء “الحرة” التي تعطف عليها وهي تقيم في ضيعة قريبة، يجن جنون السيد إيبس الذي لا يصدقها ويصر على جلدها خاصة بعد أن تبدي تقززها منه ومن إعتداءاته الجنسية عليها.
تتحرك الكاميرا الى اليمين لنرى مساعده يدخل الكادر.. يطلب منه ربطها بالشجرة.. الزوجة القاسية في الخلفية تخرج من باب المنزل وتتقدم ثم تقف تراقب ما سيحدث.. يقوم المساعد بربط باتسي في الشجرة. يتناول إيبس السوط لكنه يتردد، بينما الزوجة تحرضه على جلدها بنفسه (يأتي صوتها من خارج الصورة).. لا يقدر.. تتحرك الكاميرا الى اليسار وهو يطلب من سولومون أن يجلدها هو ويناوله السوط.. فيقوم سولومون بالجلد وهو يتألم لكنه لا يستطيع أن يكمل فيتناول إيبس السوط ويجلدها هو بكل قسوة. وعندما ينتهي يغادر ليقترب سولومون من باتسي يفك وثاقها وتهبط الكاميرا إلى أسفل لترى قطعة الصابون ملقاة على الأرض.

 مشهد الجلد بأكمله، الذي يستغرق أكثر من 5 دقائق، مصور في لقطة واحدة، يستخدم فيها المصور الكاميرا الحرة المحمولة عن طريق تحريكها من اليمين إلى اليسار والعكس. ومع تحريك الكاميرا باستمرار من اليمين إلى اليسار أو بالعكس واتخاذها زوايا متغيرة يظهر المخرج ثلاثة عناصر رئيسية في الصورة: أولا: الرجل الذي يقوم بالجلد ومشاعره كما تظهر على وجهه (سولومون ثم إيبس)، ثانيا: المرأة التي تُجلد سواء من ظهرها حيث تظهر آثار الجلد، أو من وجهها الذي تظهر عليه علامات الألم الشديد، وثالثا: الآخرون الموجودون في خلفية الصورة، يراقبون عملية الجلد سواء من السادة أم من العبيد، مع إظهار مشاعرهم المتباينة.
 ليس من السهل بالطبع أن يتم تصوير هذه “اللقطة- المشهد” في خمس دقائق بهذه الطريقة، فهي تتطلب الكثير من الدقة في التصميم والتدريب، سواء من جانب المصور أو الممثلين، لكي تأتي بالنتيجة الدرامية المطلوبة أي بتحقيق التأثير المطلوب على المشاهدين: إننا نشاهد هنا عملية جلد حقيقية لا خداع فيها- هذا ما يريد ستيف ماكوين نقله لنا. وهي تحدث في زمنها الحقيقي في الواقع، وليس في الزمن السينمائي (من خلال المونتاج) فتدخل المونتاج هنا غائب تماما، على العكس من المشهد السابق الذي يلعب فيه المونتاج دورا أساسيا (في الانتقال بين أحجام اللقطات مع اختيار زوايا متنوعة والتحكم في طول اللقطات لخلق الإيحاء بامتداد الحدث زمانيا).
إننا أمام نموذج سينمائي خاص في “12 عاما في العبودية”، وهذا النوع من المشاهد السينمائية المبتكرة هو الذي يجعله يبقى في الذاكرة.


إعلان