التطرف الشيشاني والهجرة في معسكر “الغفران”
برلين: قيس قاسم
تغيَّر مزاج الدورة ال64 لمهرجان برلين السينمائي في أيامها الثلاثة الأخيرة بشكل لافت حين عرضت مجموعة أفلام ذات مستوى جيد، على عكس الأيام الأولى التي أوحت بدورة أقل مستوى من سابقاتها لتبرهن قدرة المهرجانات السينمائية الكبيرة على ايجاد حلول ممكنة تُبقى على سمعتها ومكانتها. من بين تلك الأفلام “ماكوندو” للايرانية سودابي مرتضاي وتعالج فيه قضية الحركات الاسلامية المتطرفة من منظور مختلف، يعطي مساحة “للغفران” بتخفيف الحكم المطلق على عموم المسلمين من خلال مجموعات تسيء اليه بسلوكها المتطرف، وبمعالجة سينمائية متماسكة اتخذت من معسكر لطالبي اللجوء في النمسا مكاناً لأحداثه التي ظلت تدور في مساحته في حين أحضرت الموضوع الشيشاني عبر ربط الصلة بين شخصياته الرئيسية وخلفياتهم السياسية ومواقفهم من العنف الذي يقترن بتداخلات ملتبسة يشكلان فيها الدين والحقوق القومية طرفان رئيسيان الى جانب تفاصيل كثيرة تتعلق بتكوينات المهاجر النفسية والاجتماعية وعلاقته بالوسط الجديد الذي يجد نفسه فيه في تنافر صارخ تمكنت سودابي الامساك بالكثير منها بمهارة سينمائية تشي بموهبة مُتشكلة. لم تظهر حتى اللحظة أفلام كثيرة تتناول منطقة التشيتشان المسلمة المعقدة التركيب وذات الخلفية التاريخية المتشابكة مع وجود الاتحاد السوفيتي سابقاً ثم روسيا في الوقت الحاضر.

لقد ظلت مشاكل الجمهوريات السوفيتية الحديثة الاستقلال أو تلك التي ظلت تحت الحكم الروسي عصية على الحل وصعبة على الفهم، لشدة تداخلاتها، والمسألة التشيتشانية مثالاً صارخاً على ذلك. ففي الوقت الذي يسعى شعبها وأغلبيتهم من المسلمين، للتخلص من هيمنة روسيا تسعى الأخيرة للحفاظ على سطوتها بإستخدام وسائل سياسية وقومية وحتى عسكرية في محاولة منها لطمس معالم الوجود القومي للتشيتشان، فظهرت وكرد فعل عليها حركات مسلحة متطرفة اتخذت من العنف مساراً لنشاطها متعكزة في بنائها الفكري على الدين. على هذة الخلفية رسمت مرتضاي شخصياتها داخل المعسكر وتركز الحدث فيه على صبي اسمه رمضان وأخواته ووالدته التي جاءت بهم الى النمسا بعد موت زوجها في عملية انتحارية ضد الجيش الروسي، من جهة وبين عيسى الذي نجا من الموت في نفس العملية التي خسر فيها صديقه والد رمضان. ثلاثة أطراف للحكاية اثنان منها: العائلة وعيس كانا يتفاعلان مع المكان الجديد في حين كان الطرف الثالث حاضرً من خارجها عبر سيرة الأب القتيل وقضيته الى دفعت بالكثير من الشيشانيين للهجرة الى أوربا وطلب اللجوء. بَنَت الايرانية مرتضاي فيلمها على فكرة “الغفران” فالشخصيات المتألمة من تاريخها القاسي والدموي تريد التخلص منه بالإندماج المعقول مع المجتمعات الجديدة، عبر عنصرين مهمين: اللغة والعمل. يبدو الفيلم في ظاهره، إذا ما أبعدنا العنصرين المذكورين وكأنه يريد تزكية السلوك المتطرف، لكن بوجودهما سنفهم رغبة رمضان ووالدته في تأمين حياة جديدة تخلو من هَم البلاد التي تركوها ولكنها ما زالت تصاحبهم في رحيلهم القسري. تفاصيل الحياة اليومية تلملم المشهد العام للمهاجرين وبخاصة الشيشانيين وتعطي صورة واضحة للتصادم الثقافي الحاصل داخله، وخارجه أيضاً وتأثيرهما المباشر على موقع الأطفال الاستثنائي في معادلات التأقلم المعقدة. طفولة رمضان وعقدة حرمانه من الأب، وخوفه على أمه وأختيه الصغيرتين يمثل القاعدة النفسية الهشة التي يشترك الكثير من الأطفال معه فيها لكنه يتميز عن بعضهم بدواخل طيبة، تتراجع قوتها كلما عاشر أطفال السوء أو تذكر يتمه وحاجته للتذمر من جور الزمان عليه، بالقيام بأفعال يندم كثيراً عليها، متقارباً مع تجربة صديق والده الذي يعترف بإرتكابه أخطاءاً كثيرة خلال حياته ويلمح بشكل أكبر الى تلك المتعلقة بنشاطه السياسي المسلح الذي فقد خلاله بعض أصابع يديه لم تقعده رغم جسامتها عن الحركة والعمل.

يتحول المعسكر في “ماكوندو” الى ساحة للغفران وغسل الآثام المتركبة في داخله أو بعيداً عنه، ما يضعه بين قلة من الأفلام التي تصنع جواً تسامحياً مقبولاً بين عناصر متصادمة لكنها تجتمع في مكان واحد يسمح لها بركن خلافاتها جانباً أو قسماً منها، ليفسح المجال أرحب للعبور الى مساحات جديدة تتفاعل فيها الحيوات وتتشارك وفق أتفاق على أن الاحترام المتبادل وقبول الآخر شرطان أساسيان فيهما، وهنا يأتي الحديث عن الطرف الحاضن والمتحكم في المعادلة، بطريقة لبقة فيها من الذكاء الكثير متمثلاً في التقاط تعبيراته السلوكية. فبقدر ما يبدو الصراع الداخلي معقداً عند المهاجر الشيشاني لإرتباطه بموروث ديني وثقافي مختلف عن ثقافة الوسط الحاضن، ما يدفعه الى الانسحاب نحو الذات متخذاً من الدفاع عنها مبرراً لكل تصرفاته مع الآخرين وموقفه منهم يبدو من جانب آخر عند النمساويين أكثر يسراً بسبب قلة ما فيه من تداعيات على حياته، فهو لا يعرف هؤلاء البشر إلا من الخارج، لا يعبأ بهم إلا حين تتصادم مصالحه مع مصالحهم، ولايتدخل بينهم بقوة إلا عبر مؤسسات دولته مثل الشرطة ودوائر الشؤون الاجتماعية المهتمة بحياة طالبي اللجوء في بلادهم، ومع هذا وما أن يقترب المهاجر الذي يقبل بالشرطين المهمين: تعلم اللغة والعمل سيغير موقف الطرف الثاني منه، لهذا تمكن المراهق رمضان سريعا من تجاوز أخطاءه وتصالح سريعا مع عالمه الجديد، ومع ماضيه، في نفس الوقت، حين قبل صداقة عيس ليؤسس لواحدة مختلفة عن صداقة الأب القديمة التي بُنيت على مشتركات سياسية وأفكار تقبل بالعنف الى آخرى أكثر تسامحاً متصاحة مع حاضرها وشروط عيشها الانساني. سودابي مرتضاي جاءت من الوثائقي الى الروائي متسلحة بقرة نادرة على القص، والتقاط التفاصيل عبر كاميرة شديدة الحساسية تعرف ماذا تأخذ من المشهد الذي صنعته رؤية مخرجة موهوبة، تناولت موضوعاً شائكاً بروح تصالحية ربما لا تتوفر في الحياة نفسها لكنها ودون أي عوائق تستطيع أن تحضر في السينما بوصفها فناً يتحمل أفكاراً وعوالم متخيلة عن الواقع الذي نعيشه ويمكن تجسيده بممثلين محترفين أو هواة كأغلبية ممثلي فيلم “ماكوندو”.