الفيلم الوثائقي “رائحة الثورة”
أمير العمري- برلين
أول ما يسترعي الانتباه في هذا الفيلم الوثائقي الطويل (98 دقيقة) الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي في دورته الرابعة والستين التي اختتمت مؤخرا، عنوانه الغريب باللغة العربية، وهو “أريج”.. فالكلمة- أولا- غير متداولة كثيرا بين الناطقين العربية، وثانيا لا يعبر العنوان عن الفيلم ولا عن موضوعه، إذا افترضنا أن هناك موضوعا واحدا لهذا الفيلم. أما العنوان الذي اختارته مخرجة الفيلم: المصرية- الألمانية فيولا شفيق، وهو “رائحة الثورة” هو أيضا عنوان مفتعل، فالفيلم ليس عن الثورة المصرية التي انفجرت في 25 يناير 2011 أي أن العنوان مضلل للمتفرج الذي يؤهل نفسه- من البداية- لمشاهدة فيلم وثائقي جديد عن الثورة من زاوية مختلفة.

إن مشاهد الثورة في الفيلم لا تتجاوز نصف دقيقة، وهي لقطات مأخوذة مما عرضته بعض قنوات التليفزيون للمشهد الشهير للحشد الكبير فوق جسر قصر النيل. وبعد ذلك يأتينا صوت المخرجة نفسها من وراء الكاميرا في تعليق طويل، يظهر ويختفي ليظهر مجددا عبر الفيلم كله. ويقول التعليق في البداية إن المخرجة لم تكن تعتزم أن يكون هذا الذي سنشاهده هو موضوع فيلمها، بل كانت ستتخذ مسارا آخر لولا أن الثورة وقعت فغيرت شكل ومضمون فيلمها. هذا ما فهمناه من التعليق. أما ما لم نفهمه وبدا ملتبسا بدرجة كبيرة، فهو كيف يمكن أن يحمل فيلم ما عنوان “رائحة الثورة” في حين أنه لا علاقة له حتى بما يمكن أن نطلق عليه إرهاصات الثورة!؟
يفتقد فيلم “أريج” على نحو واضح، لما يعرف في الفن عموما، بـ”وحدة الموضوع”، أي أن من الصعب التحدث هنا عن “موضوع” ما، محدد المعالم يدور حوله البحث التوثيقي أو الوثائقي للمخرجة التي عرفت كباحثة جيدة، فالواضح أن هناك درجة كبيرة من التشتت الفكري، فهي تنتقل بين أربعة مواضيع وقضايا تراها هي- وهي فقط طبقا لقناعاتها الخاصة التي لا تتضح لنا- تعكس صورة لما بدا في الأفق أنه سيتحول من حالة غضب إلى ثورة عارمة، في حين أن ما تصوره كان يمكن أن نراه في فيلم تسجيلي قبل أو بعد الثورة، لا فرق!
الفكرة قد تكون جيدة من الناحية النظرية، أما في الحقيقة وعلى الشاشة فهناك تشتت واضح وانعدام لأي شكل من اشكال البناء السينمائي. ولكن ما هي القصة التي يرويها الفيلم؟ وأرجو أن يكون واضحا أن أي عمل تسجيلي يجب أن يتضمن “قصة ما” فما هي قصة فيلم “أريج”؟
هناك عدد من القصص المتنافرة التي لا علاقة لها ببعضها البعض، منها أولا القصة التي تتناول بوضوح وبشكل مؤثر، تدهور البنية المعمارية التراثية في مدينة الأقصر الأثرية الواقعة في جنوب مصر والتي تعتبر من اكثر المقاصد السياحية في العالم رواجا، أو كانت تعتبر كذلك، قبل أن تتعرض لعملية “إغتيال” منظمة من جانب السلطات كما تكشف فيولا شفيق في هذا الجزء الأول من فيلمها.
وتتمثل عملية الاغتيال كما يشرح بطل القصة الناشط القبطي الذي يظهر في الفيلم وكذلك رجل آخر قبطي هو صفوت سمعان، يمتلك مجموعة نادرة من الصور الفوتوغرافية التي تسجل مراحل تاريخ المدينة منذ بدأت زيارات الرحالة الأروبيين للأقصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى اليوم.

في هذا الجزء الكثير من الحنين إلى الماضي، إلى ما قبل حركة ضباط الجيش في 1952، وخصوصا عندما يتطرق الحديث إلى أحد الباشاوات (ليس بالمصادفة أنه قبطي أيضا) كان يمتلك قصرا رائع التصميم والجمال يقع على النيل مباشرة، وكان يستضيف الأمراء والملوك وكبار الزائرين من بلدان العالم المختلفة (ملكة هولندا اليزابيث بشكل خاص) كما يستعرض الفيلم من خلال الصور الفوتوغرافية النادرة له مع تلك الشخصيات، إلا أن السلطات قامت أخيرا بازالة هذا القصر الذي يعد من التراث المعماري للمدينة، مع غيره من المنازل، أرغمت الكثير من الناس، خصوصا الفقراء على الخروج من منازلهم دون أن تدفع لهم التعويضات المناسبة، وهو ما يردده الكثير من سكان المدينة. والهدف: تمهيد المنطقة لاقامة مشروع سياحي يطلق عليه “مثلث الأقصر السياحي” أسندت السلطات اقامته إلى عدد من الاحتكارات الأجنبية، باعت لهم الأرض بأسعار منخفضة كثيرا عن سعرها الحقيقي، الأمر الذي يشي بوجود فساد واضح.
يحتج ناشط قبطي آخر هو فرانسيس محارب على وصفه بالقبطي ويصر على أنه يعتبر نفسه ناشطا من أبناء المدينة للدفاع عن حقوق السكان جميعا بغض النظر عن ديانتهم وانتماءاتهم.. وهو متقاعد كمهندس ولكنه يعمل الآن في مجال الدراسات الاجتماعية. لكن المشكلة أن الفيلم ينحرف هنا فجأة عن الموضوع الأولى لكي يتطرق إلى ما تعرض له عدد من الأقباط من حرق لمنازلهم أو كنائسهم في المدينة أو بعض المناطق المحيطة بها، وهو ما يخرج الفيلم عما بدأه وإن كان يبدو مبررا داخل ذلك الاطار “النظري” الذي تتبناه المخرجة فرضه، باعتبار أن ما نشاهده جزء من إرهاصات الثورة.
كان من الممكن أن يكون موضوع الفيلم هو ما يحدث في الأقصر من انحرافات وتدمير لطبيعة المدينة بما يضر بمصلحة البلاد (هناك الكثير من الاتهامات الموجهة هنا إلى المحافظ الأسبق للأقصر) إلا أن فيولا شفيق أرادت أن تمد فيلمها وتفتحه في اتجاه آخر فاختارت أن تتحول باهتمامها الى الكاتب علاء الديب، وهو أديب وقاص من جيل الستينيات، لكي يتحدث عن تجربته في العمل السياسي سواء في صفوف اليسار أو بعد ذلك عندما أصبح جزءا مما عرف بـ”التنظيم الاشتراكي الطليعي” في عهد جمال عبد الناصر. هنا يوجه الديب الكثير من النقد الذاتي له ولأبناء جيله دون أن يحرمهم من الحلم الذي كانوا يحلمون بتحقيقه من أجل رؤية مصر بلدا متقدما.

يتطرق علاء الديب إلى الثورة التي وقعت في يناير 2011، ويشيد بدور الشباب فيها، ويقدم نقدا لمسارها كما لدور الطبقة الوسطى.. وخلال هذا يمتزج الحديث بالسياسة بالحديث عن بعض أعماله الأدبية، وخصوصا الرواية القصيرة “زهر الليمون” التي تراها المخرجة معبرة أكثر عن رؤية كاتبها الناقدة للذات.. للطبقة الوسطى التي يصفها هو بأنها “صاحبة أكبر إنجازات وأفظع جرائم، صاحبة الحل و الربط وقليلة الحيلة، صاحبة المثل العليا والقيم المزيفة، الخائنة النبيلة، صانعة العدسات الوحيدة التي أرى بها الواقع والمصير”.
لكن علاء الديب (75 سنة) لم يكن أفضل خيار أمام المخرجة، أولا لأنه في حالة صحية من الواضح أنها لا تجعله يقدر على الحديث بشكل طبيعي فيه من الطلاقة بقدر ما فيه من السلاسة، بل كثيرا ما يتلعثم ويتوقف حائرا، كما أن لقطات “الكلوز أب” أي اللقطات القريبة التي تحصر وجهه في الكاميرا، لم تكن مناسبة تماما. ولا نفهم بالضبط ما الذي تريد المخرجة اثباته من خلال حديث علاء الديب المتفرع في التاريخ والأدب والماضي والحاضر والثورة والطبقة الوسطى؟!
وكان يمكن أن يكون هذا الجزء في حد ذاته أساسا لفيلم من نوع “البورتريه” المعروف لشخصية من الشخصيات الفنية أو الأدبية التي أثرت حياتنا، أما أن يكون جزءا من فيلم يزعم أنه يتحدث عن “رائحة الثورة” فأمر يدعو للتساؤل: لماذا الديب وليس أي أديب او كاتب آخر مثلا!
ومن أغرب ما يمكن تخيله أن تتجه فيولا شفيق أيضا الى ادخال قصة رابعة تدور حول فتاة شابة في العشرينيات من عمرها، محجبة، تعمل مصممة جرافيك للكومبيوتر والانترنت، قامت بتصميم برنامج للترويج لمشروع يتولى تعريف العالم الخارجي بالإسلام وبتقاليد ومناسك الاسلام (الوضوء والصلاة والحج.. إلخ).. وتتوقف المخرجة طويلا أمام هذا النموذج التي ترى أنه لفتاة تتشبث بالدين والتراث، وفي الوقت نفسه تتعامل بشكل عصري مع التكنولوجيا الحديثة، وتصمم برنامجا آخر تطلق عليه “الحياة الثانية” وهو فضاء افتراضي يتيح للمستخدم الفرصة لأن يخلق عالما آخر موازيا لا علاقة له بعالمه الحقيقي. وقد بدا هذا الجزء من فيلم “أريج” الأكثر ضعفا بسبب تفرعه في أمور لا تهم المتفرج بل ولا تثير اهتمام أحد خصوصا أنه لا يتم ربطه بأي شكل، بفكرة “الثورة”!
تكمن المشكلة الأساسية في فيلم “أريج” في أن مخرجته تريد ان تصنع فيلما عن الثورة، لكنها لا ترغب في تكرار الحديث عن مكونات الثورة أو عناصرها وما حدث في ميدان التحرير، بل أرادت أن تقدم رؤية فلسفية لما يكمن وراء الثورة إلا أنها، انساقت من حيث لا تدري ربما، وراء البحث في قضايا أخرى قد تستحق تناولها في أفلام مستقلة تماما، فلم تنجح في إشباع موضوعها الأصلي، ولا في تحقيق التوازن بين الأجزاء المختلفة لفيلمها، خاصة وانها لجأت للانتقال من شخصية إلى أخرى في سياق مشتت أفقد الفيلم إيقاعه وجعله يبدو مترهلا مليئا بالثرثرة، فقيرا في الصورة بشكل واضح.