كذبة آرمسترونغ!

محمد موسى

تُعرقل أحداث مفاجئة أحياناً سَير عمليات الإعداد لمشاريع تسجيلية، استغرق الإعداد لبعضها سنوات عديدة، فتربكها بشِّدة وتفتح الأبواب على أسئلة فنيّة وأسلوبية لم يُحسب لها حساب، بعضها عن جدوى استمرار المشاريع نفسها، كما إنها تُجبر مخرجي هذه الأعمال على مراجعة ما أنجزوه طوال فترات مُتابعتهم لموضوعاتهم وشخصياتهم، وإعادة قراءته وتقييمه في ضوء المُستجدات.

هذا ما حصل مع مشروع المخرج الأمريكي أليكس غيبني عن الرياضي الأمريكي الشهير والمثير للجدل لانس آرمسترونغ، فبعد أكثر من ثلاث سنوات من بداية مشروع المخرج التسجيلي الأمريكي عن مواطنه مُتسابق الدراجات الهوائية، ودفاع هذا الأخير، وطوال فترات التصوير، باستماته قلَّ نظيرها عن نظافة سيرته الرياضية، وبالخصوص خلوها من تفصيلة استخدام المُنشطات الرياضية المُحرمة، هزَّ اعتراف لانس آرمسترونغ العلنيّ عن تناوله المنشطات في معظم سنوات مسيرته الرياضية في العام الماضي، المشروع التسجيلي برمته، إلى الحد الذي جعل الرياضي نفسه يُقِر بمسؤليته عن الفشل الذي يمكن أن يؤول اليه المشروع الفنيّ، فيعتذر للمخرج في مشهد لافت من الفيلم، لأنه أفسد فيلمه التسجيلي، كما يَصِف.
لم يُفسَد المشروع التسجيلي بالنهاية، هو تأثر كثيراً بما جرى من حوله. لكن المخرج أليكس غيبني، صاحب الخبرات الطويلة في إخراج وإنتاج أفلام التسجيلية، نجح في إنقاذه عبر إعادة كتابة وتوليف، منحاه الراهنية والحدة المطلوبتين من وثيقة تسجيلية نادرة عن رياضي بلغت شهرته الآفاق، ونال صعوده وسقوطه المدويان المقدار نفسه من الاهتمام الإعلامي. فنرى في مقدمة الفيلم الذي يحمل عنوان “كذبة آرمسترونغ” مشاهد نادرة لاستعدادات المُذيعة التليفزيونية الأمريكية الشهيرة أوبرا وينفري لمقابلتها مع الرياضي، والتي سيعترف فيها آخيراً بتعاطيه المنشطات. كاميرات أليكس غيبني، ستكون خلف كاميرات البرنامج التلفزيوني، لكن الاعتراف سيكون لوسيلة إعلام أخرى، وهذا سيثير حنق المخرج الأمريكي. لكنه لن يتوقف أمام هذا الحدث الكبير مكتوف اليدين، هو يُحاول أن يكمل ما بدأه قبل سنوات مع الرياضي، بأن ينفذ إلى عالمه الخاص، ويحلل الظاهرة الفريدة التي مثلها، ودور الإعلام ومحبي الرياضة في كل هذا، والذي وصل أحياناً إلى وضع لانس آرمسترونغ في إطار الأسطورة.
كيف كان المشروع التسجيلي سيبدو بدون اعتراف لانس آرمسترونغ؟ من الصعب الحكم السريع بذلك، أو ما إذا كان المشروع سيصل للجمهور بالخلاصات التي وصل إليها بدون ذلك الاعتراف، فبمقارنة المشاهد التي صورت قبل الاعتراف وبعده، تبدو الأولى لا تختلف كثيراً عن الطلات الإعلامية القليلة للانس آرمسترونغ، والتي أكد فيها عدم تناوله المشنطات المُحرمة، لكن هذا لا يعني بالضرروة أن المشروع كان سيفقد كثيرا من قوته إذا قدم بالشكل والمعطيات التي وصل إليها قبل الاعتراف، فهناك جُهد تحقيقي واضح لتقديم سيرة لانس آرمسترونغ الرياضية، ولقاءات بعضها نادر مع رفاق الرياضي، وأرشيف مُتنوع وثري، توفر للمُخرج الأمريكي.

يُحاول المخرج الأمريكي ألا يكتفي بالبحث في ظاهرة لانس آرمسترونغ، هو يتناولها ضمن إطار أوسع، ويتعرض للأمثولة التي جسدها الرياضي الأمريكي، وقصتة المثيرة التي نسجها الإعلام والحاجة الفطرية إلى بطل عام، ثم المحنة والتحدي الذي واجههما الرياضي للإبقاء على الإسطورة وحفظها من التشوه.. فآرمسترونغ هو خليط من الحلم الأمريكي والأسطورة البشرية. رياضي أصيب في ريعان الشباب بالسرطان، الذي كاد أن يقضي عليه، ثم عاد في عام 1999 الى المنافسات الرياضية، ليفوز ولستة أعوام متوالية بالمركز الأول بسباق فرنسا للدراجات الهوائية. من سرير المرض انتقل آرمسترونغ إلى واجهة الأخبار والحياة في بلده والعديد من دول العالم. قصة النجاح هذه ستحولها ماكينات الإعلام الجماهيرية والجّادة على حد سواء إلى أسطورة للنجاح البشري. سيحصد آرمسترونغ الملايين من الدولارات، وستتصدر صوره مجلات الرياضة والمجلات العامة لسنوات. وسيقترن عاطفياً بمطربة معروفة. الرياضي الذي عاد من الموت تربع لسنوات قليلة على قمة العالم، لكن السّر الذي لم يعرفه إلا قله وقتها، أنه كان يتناول لسنوات المنشطات المُحرمة. وأنه كذب في عشرات المناسبات بخصوص هذا الموضوع.
يعود المُخرج لتصريحات آرمسترونغ، باعترافه العلني بتناوله المنشاطات والذي أعقبه تجريده من كل ألقابه، في مواضع عدة من الفيلم. لكن هذا العمل التسجيلي يستعيد حقبة لانس آرمسترونغ التاريخية كلها، فيبدأ من بدايات الرياضي الأمريكي الشاب في مدينته الصغيرة، وإلى عودته في عام 2009 للتنافس الرياضي، وبعد اعتزاله لبضع سنوات. تلك العودة المُحيّرة بأسبابها خاصة أن الرياضي كان يقترب من الأربعين من العمر، هي التي ستعيد طرح الأسئلة عن سنوات مجد لانس آرمسترونغ، ومن ثم ستقود إلى التحقيقات التي ستنتهي بالاعتراف الشهير في العام الماضي. يندرج الفيلم في فئة المشاريع التسجيلية الضخمة التي تتطلع لتقديم صورة كاملة عن الموضوع الذي تتناوله والإطار التاريخي العام له. طول الفيلم الزمني (أكثر من ساعتين)، سيوفر فرصا كافية لمناقشات تفصيلة مستفيضة لبعض المحطات الجدليّة في سيرة الرياضي الأميركي، وأيضا في العلاقة المشبوهة بين الرياضة ورأس المال. يُجِيد المخرج أليكس غيبني، ترتيب الحقائق وتقديمها بسلاسة ضمن نسيج التحقيق الصحفي الاستقصائي، الذي وإن نزع أحياناً إلى العاطفية والإثارة، الا أنه لا يفقد جوهره النقديّ الرصين.

لا يَجِد المُخرج الأمريكي أليكس غيبني مشاق كبيرة في جذب شخصيات عامة معروفة، ترتبط بالموضوعات الجدليّة التي يتناولها في أفلامه، للوقوف أمام كاميرته. فسمعة صاحب “نحن نبيع الأسرار: قصة ويكليكس” و “تاكسي إلى الجانب المظلم”، لا يشوبها كثير من الشوائب. المخرج انضم في السنوات الأخيرة الماضية إلى قائمة صغيرة من المخرجين أو الشخصيات الإعلامية التي يقصدها مشاهير وشخصيات عامة بدون تردد للكشف عن نسختهم من “الحقيقية”، لأنهم يثقون بأنها ستكون بأيد أمينة، وأنها ستصل بدون رتوش كثيرة لجمهور واسع، كما أنها ستتحول إلى مصدر تاريخي، يمكن الرجوع إليه عند الحاجة. يتنوع أرشيف المُخرج من الموضوعات المحلية الأميركية، إلى الأحداث والقصص العالمية. لا يساوم المخرج رغم هذا التنوع على أسلوبه التحقيقي الذي يستند على تاريخ طويل من الصحافة الاستقصائية الجديّة الأميركية، مازال موجوداً، رغم التفاهات والخفّة اللتين تبدوان أنهما تهيمنان على المشهد الإعلامي الأميركي. 

 


إعلان