الفيلم الوثائقي بالمغرب : الواقع والرهانات
محمد اشويكة
يشكل البعد الوثائقي في الكثير من الأفلام الروائية المغربية مكونا أساسيا بدأ التأسيس له منذ التجارب المُؤَسِّسَة للسينما المغربية خصوصا مع الأفلام التالية: “الشرگي” [مومن السميحي]، “السراب” [أحمد البوعناني]، “وشمة” [حميد بناني].. ليستمر ذلك الولع مع أفلام حكيم بلعباس “خيط الروح، شِي غَادِي شِي جَايْ”، وأحمد المعنوني “الحال، أليام أليام، القلوب المحترقة” التي يمكن اعتبارها أنموذجا تمثيليا بارزا لتواشج العلاقة بين ما هو درامي ووثائقي في السينما المغربية، إضافة إلى التجربة الجديدة للمخرجة ليلى كيلاني في فيلمها “على الحافة”.. وبذلك، فالحديث عن الفيلم الوثائقي المغربي يبدأ من الرهان الإستيطيقي الذي يراهن عليه صناعه، بالنظر إلى حداثة التجربة، وضعف التراكم المتحقق لحد الآن نتيجة لإقصائه من الدعم، وغياب استراتيجية واضحة للعناية به، واقتصار ترويجه على بعض المهرجانات في الآونة الأخيرة (تطوان، أگادير، خريبگة، زاگورة…)، وخلق خلايا خاصة بإنتاجه على مستوى التلفزيون رغم التداخل الحاصل على مستوى الإنتاج: فهناك وثائقيات ينتجها قسم الأخبار وأخرى يشرف عليها قسم الإنتاج مما يجعل الباحث أمام مشكل تصنيف تلك الوثائق السمعية البصرية، هل هي ربورطاجات تلفزيونية أو أفلاما وثائقية بالمعنى الإبداعي لهذا النوع من الأفلام الذي يخضع لتصور فني وجمالي يختلف عن الفيلم الدرامي؟

أدت هذه الوضعية إلى انحصار الاهتمام به، واكتفاء بعض المخرجين بإخراج بعض الأفلام الوثائقية لصالح التلفزيون بحكم وظيفتهم داخل المؤسسة، وهنا لا بد من الإشارة إلى تجارب: نور الدين گونجار، وحسن الواحدي، وغيرهم. أما في مجال السينما فتشكل التجارب الأولى التي أنتجها المركز السينمائي المغربي في إطار الأنباء المصورة البذرة الأولى للانطلاق بعد تجربة الفيلم الكولونيالي، وهي وثائق ارتبطت ببعض الأحداث الرسمية أو بعض المنجزات الفيلمية التي استجابت لطلبات معينة لم تخل بذاتها من بُعْدٍ إداري وإيديولوجي.. ولكن، بالرغم من ذلك فقد شكلت هذه التجارب أرشيفا مهما قد دَوَّنَ سجلا لا يستهان به من تاريخ المغرب المُعَاصِر، ووضعت اللبنات الأولى للأرشيف المصور الذي جاء بعد الوثائقيات الكولونيالية ذات البعد البَطَائِقي، الاستشراقي، التبشيري الخاضع لشروط الهيمنة وإطالة أمدها إلى ما بعد الإعلان الرسمي عن نهاية الاستعمار ليظل الأرشيف الوثائقي في حوزة المُسْتَعْمِر (فرنسا، إسبانيا..)، فيطال الحجز ذاكرتنا، وأصبحنا سجناء الذاكرة! أعتقد أن المطالبة باسترجاع هذا الأرشيف، بطريقة أو بأخرى، مهمة ثقافية وطنية، يجب على الجهات المسؤولة أن تضعها على رأس الأولويات.
استطاع بعض المخرجين أن يبصموا تاريخ الفيلم الوثائقي المغربي بِمَيْسَمٍ فني وجمالي خاص، وأذكر هنا تجارب إيزة جينيني ومحمد بلحاج وحكيم بلعباس وعلي الصافي ومحمد العبودي.. والتي لم تحض في مجملها بالانتشار الكافي الذي يجعلها راسخة في صفوف النقاد والجمهور المهتم، رغم أن بعضها قد أنتج لصالح التلفزيون، وعُرِضَ به أكثر من مرة، إلا أن جزءا كبيرا منها لم يعرض لظروف متعلقة بالرقابة وغيرها…
ساهمت الظروف السوسيوثقافية الراهنة على دخول الفيلم الوثائقي مضمار التسابق داخل المهرجان الوطني؛ إذ بدأ ذلك منذ المهرجان الوطني الخامس للفيلم (الدار البيضاء 1998) حيث عُرِضَ فيلم “في بيت أبي” لفاطمة جبلي الوزاني، وفاز بالجائزة الكبرى مُحْدِثًا سِجَالا كبيرا في صفوف المهنيين حول أحقية الأفلام الوثائقية بالمشاركة في المسابقة الرسمية، جنبا إلى جنب مع الأفلام الروائية، وهو الجدل الذي صَاحَبَ الفوز – أيضا – ولم ينقطع إلى اليوم، وذلك من خلال التجارب التالية: ليلى كيلاني “أماكننا الممنوعة” (طنجة 2008)، ونبيل عيوش “أرضي” (طنجة 2010)، وحكيم بلعباس “أشلاء” (طنجة 2011)، وكَاتِي وَزَانَا “من أجل أندلس جديدة” (طنجة 2012)، وكمال هشكار “تنغير – جيروزاليم: أصداء الملاح” (2013)؛ وذلك ما يجعلنا في صميم مفارقة كبرى: كيف يتم قبول الأفلام الوثائقية في المسابقة الرسمية لمهرجان الفيلم الوطني ولا يتم الاعتراف بدعمه من طرف لجنة دعم الأفلام الوطنية؟!

في ظل هذه التطورات والمخاضات التي عرفها مسار صناعة الفيلم الوثائقي بالمغرب، تظل الرهانات كثيرة لأن مجالات الاستثمار كثيرة: علمية، تاريخية، اجتماعية، فنية.. فنحن في حاجة ماسة إلى التوثيق بالصورة والصوت لما يعتمل في المجتمع المغربي من تحولات جديرة بالرصد والمتابعة سيما وأن الأساليب والطرائق الفنية التي يوظفها الفيلم الوثائقي تختلف عن تلك التي يلجأ إليها الصحافي لأنه ينجز وثيقته السمعية البصرية وفق هدف معين لا يَحِيدُ عن خط التحرير الذي تنهجه القناة التلفزيونية، أو وفق أهداف سياسية واقتصادية أخرى، غالبا ما يكون لها تأثير مباشر على الجودة والمعالجة. وعلى العكس من ذلك، يستطيع المخرج السينمائي أن يوظف أسلوبه الفني، من خلال اختيار الموضوعات، وإدماج رؤيته الشخصية عبر الشخوص والأشياء، فقد ينظر إلى الواقع من زوايا متعددة قد تساهم في عرض أبعادها المركبة، رغم أن تقنيات الإخراج والمونتاج تعيد إنتاجها بشكل مختلف عما هي عليه في الواقع، ولنا في تجربة أحمد البوعناني خير مثال على ذلك؛ إذ أعاد توضيب الأنباء المصورة بشكل مغاير فأعطانا مثلا: “6/12″ (1968) و”الذاكرة 14” (1971)”، وبالتالي فالمونتاج ليس عُنْصُر تحويرٍ للحقيقة وإنما هو طريقة فنية لرؤية العَالَم ما دام المخرج واحِدًا من هذه الحقيقة التي يتقاسم أمر الخوض فيها مع ذَوَاتٍ أخرى.. والمخرج أحمد البوعناني، إذ يقوم بذلك، يود أن يرجع بنا إلى تجربة المخرج الروسي دْزِيگا ?ِيرْتُو? “Dziga Vertov” في فيلمه المُؤَسِّس “L’homme à la caméra” [1929] التي توظف المونتاج كآلية لتعديد وجهات النظر، وذلك عبر التخلي عن الممثلين، والسيناريو، والكتابات الفاصلة بين الفصول والمَشَاهِد الفيلمية.. يستدعي البوعناني هذه الخلفية النظرية ليعيد تركيب مدينة الدار البيضاء من خلال خَلْفِيَّاتِ واجهاتها التي تخفي حياةً مختلفةً عما يُصَرِّحُ به ظاهرها، وإيقاع سكانها، وثقل التكرار فيها، ولحظات الفرح والتسكع، روح السرعة والتعقد التي بدأت تذب إلى المدينة، الاكتظاظ والتزاحم، أبدية الحركات البشرية المتشابهة، قَطِيعِيَّةُ المسارات…
يتضح من خلال إجراء تلك المُقَارَنَة بين الصحافي والمخرج، وعرض وجهتي نظر “دْزِيگا ?ِيرْتُو?” وأحمد البوعناني، أن الفيلم الوثائقي عمل فني يحتاج إلى نوع من المسافة، والذكاء، لكي يظل صَانِعُهُ بعيدا عن الإكراهات التي تواجه الصحافي وكذا المخرج الذي يشتغل لحساب القنوات التلفزيونية (خاصة الرسمية منها).

لذلك، لم يتطور الفيلم الوثائقي المغربي الذي ظلت إنتاجاته ومواضيعه – وكذا عروضه – مرتبطة بما يدخل في أولويات المركز السينمائي المغربي والتلفزيون باعتبارهما يخدمان الآلية الدعائية للدولة، مما جعل جل التجارب الفنية المهمة تقع خارج مسارات الرواج الرسمية كما هو الأمر بالنسبة لفيلم “اللوحة” (Le tableau) لمخرجه إبراهيم فريطح الذي يستعيد ذكريات طفولته، ومدينته الجديدة، من خلال لوحة رسمها، وهو القاطن بفرنسا، فتظل هي الرابط بينه وبين مسقط قلبه: عبرها نكتشف قصته الشخصية، وعلاقته بمدينته…
يعتقد الكثير من المتلقين أن الفيلم الوثائقي المغربي يعرض الحقيقة، ولكن ذلك يظل خاضعا للكثير من الرهانات المتعلقة بنوعية التقنيات المستعملة أثناء التصوير لأنه يؤثر في توجيه الرؤية وتؤثر على المعنى، إضافة إلى استعمال تقنية التعليق (Voix off)، واللجوء إلى إجراء المقابلات أو المحاورات التي يكون المخرج طرفا فيها أو يقوم بها شخص آخر مكانه للتحكم المسبق في الموضوع عبر لغة الحوار وحمولته الثقافية التي تؤطر خطاب الطرف الآخر كما حدث في الأفلام التالية: “ورزازات سينما” (Ouarzazate movie) لعلي الصافي، و”هذه الأيادي” لحكيم بلعباس.. وبالتالي، فالواقع يتحول ويتمفصل وفق التصورات الإخراجية والخطاطات المعرفية التي أراد أن يبثها من خلال الخطاب الفيلمي، إلا أن الرسائل لا تقل رزانة، بل تدفعنا إلى فتح نوافذ متعددة على الحياة وعلى الناس تجعلنا نتقاسم بعض شروط الوجود مهما كانت قاهرة، كما أن التعليق الذي يصاحب الصورة في الفيلم الوثائقي يمكن أن يقدمها بشكل مختلف.
لا يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي عاكسا للحقيقة أو الواقع كما يعتقد الكثير، وإنما تخضع الصور للعديد من التلاعبات والتعديلات، تماما، كما وقع في زمن ستالين من تحويرات للصور الرسمية، وما يجري أثناء الحروب اليوم، سيما وأن التقنيات الرقمية لا تجعل الأشياء تتمايز، ولا تجعل المُشَاهِد يفرق بين الحي والميت، الملموس والمجرد، عبر تقنيات تحويل الصور بواسطة عدة كاميرات والتسجيل على نفس الحَامِل، فضلا عن تعدد طرق النقل الرقمي (Digitalisation)، وتعدد توظيف الخدع البصرية في إعادة تأطير بعض الصور وتعديلها قصد إبراز بعض التفاصيل أو إضافة بعض الأشياء غير المُصَوَّرَة، أصلا، في اللقطة أو المشهد، وبذلك فالأرشيف لا يمكن أن يسلم، أيضا، من هذه الخُدَع.

وبذلك، نخلص إلى أن مناقشة الوفاء للواقع أو خيانته، في السينما عامة، مسألة نسبية، إن لم نقل أن ذلك يدخل في باب النقاش البيزنطي لأن ربط الخيانة بالدراما، فقط، أمرٌ متجاوز، ويرتبط، في عمقه، بالمتلقي.
لم يصل الفيلم الوثائقي المغربي إلى مستوى ما نتحدث عنه من خدع بصرية، وإنما لا يخلو بدوره من مسحة إيديولوجية بفعل بحث بعض المخرجين عن جعل مواضيعهم أكثر موضوعية، وتنويع طرائق المعالجة السردية، وضبط إيقاع المونتاج.. وهي تقنيات تتقاطع في جمالياتها مع الأفلام التخييلية.
رغم أن صناع الأفلام الوثائقية المغربية يستنزفون ذاتهم في إنجاز الأفلام المؤسساتية – حول مؤسسة أو مسار أو حدث معين – نظرا لطغيان الهاجس الاقتصادي وضعف البنية التحتية لاحتراف الفن، فهي لا تخلو من أبعاد نفعية وتربوية وتوعوية تتقاطع فيها بعض الأبعاد المفعمة بالقيم الإنسانية، وتتجاذبها هموم ذاتية وأخرى موضوعية، تؤثر بشكل ملحوظ على مستوياتها الفنية بفعل تبادل التأثر والتأثير الفني بين ما هو وثائقي ودرامي، والبرامج الخاصة بتلفزيون الواقع، والروبورتاجات التلفزيونية.. التي تحاول أن تضفي على إنتاجاتها نوعا من الموضوعية التي تلجأ إلى توظيف المعلومات والأخبار وغيرها. وعليه، فالمستويات البحثية والفنية تتفاوت من تجربة إلى أخرى لأن هذا النوع من الأفلام يتطلب مجهودا مضاعفا على مستوى التنقيب والحفر؛ إذ يتحول المخرج إلى باحث، وبالتالي فالفيلم الوثائقي فِيلْمُ بَحْثٍ بامتياز.