“لصوص الكهرباء” في الهند.. صُناع النور!
قيس قاسم
ظلت محاولات تخفيف عتمة المشهد الاحتماعي الهندي عند نقل تفاصيله الى الشاشة، من خلال اضافة عناصر بهجة شكلية عليه مثل الرقص والغناء، ملازمة لتيار واسع في السينما الهندية والتجارية منها على وجه الخصوص، لكن هذة المحاولة التجميلية تبدو عصية على التحقيق حين يراد تطبيقها في السينما التسجيلية.

ومع هذا نشاهد بين فترة وأخرى أفلاماً تنحو هذا المنحى وجُلها تمتاز بروح ساخرة لهذا تبدو الاضافات التجميلية فيها وكأنها تسخر من نفسها، من استخداماتها التجارية المبتذلة في السينما الهندية في العموم، وأقرب الأمثلة على ذلك الفيلم الوثائقي الجديد “عديم القوة” للمخرج فاهاد مصطفى ومساعدته ديبتي كاركار، الذي يتناول مشكلة اجتماعية تقنية جدية ويحاول تقديمها باسلوب مشبع بالسخرية من الواقع المر الذي تعيشه مدينة كانبور في أقليم البنجاب ويعاني سكانها مثل الكثير من الهنود من مشكلة قلة توفر الكهرباء وانقطاعاتها المستمرة والطويلة لتضيف معاناة اضافية لمعاناتهم الحياتية الكثيرة وتؤثر سلباً على تشغيل معاملهم المحلية، ويكفي لتوضيح الصورة نقل ما جاء في مقدمته من معلومة تقول “هناك حوالي مليار ونصف انسان في كوكبنا محرومون من نعمة الكهرباء، قرابة 400 ألف منهم يعيشون في الهند”. إذن نحن أزاء موضوع شائك له تداعيات اجتماعية واقتصادية من نتائجها احتدام الصراع بين ممثلي المؤسسات الحكومية المسؤولة عن توفير الكهرباء وضمان استمرار وصولها لساعات كافية، وبين متضررين يلجأون الى حلول ذاتية وحتى الى التلاعب والتحايل من أجل تجاوز دور الدولة وتجنب بيروقراطيتها التي تزيد من أثقال الفقر على كواهلهم لهذا نرى ظهوراً تاريخياً موضوعياً لأشخاص يلعبون دوراً محورياً في حل المشكلة ذات الأبعاد المركبة، والتاريخ البشري غني بنماذج منها، بعضها من صنع الخيال وبعضها الآخر حقيقي مثل شخصية روبن هوود الانكليزية التي صارت مثالاً للطيبين الخارجين عن القانون ومحاولاتهم الشجاعة للتخفيف من معاناة الفقراء عبر سرقة أموال الأغنياء. في فيلم “عديم القوة” هناك شخصية محورية على غرار روبن هوود تتمثل بالشاب الفقير لوها سينغ، ويطلق عليه سكان كانبور لقب “كاتياباز” أي الشخص الذي يقوم بسحب التيار الكهربائي، بطريقة غير شرعية، من خلال ربطه أسلاكاً خارجية بالسلك الرئيس المغذي لينقل عبره التيار الكهربائي الى البيوت المعدة والى المحتاجين الى نور يخفف قتامة الحياة.

يخلق صانعا الوثائقي الهندي معادلة درامية من: الخير والشر، كما في كل التراجيديات. الطيب هو لوها سينغ والشريرة هي المديرة التنفيذية الجديدة لشركة كيسكو المحلية لتوليد الطاقة الكهرباء ريتو مهشواري. يخلقانه عبر ترتيب السياق الدرامي لطريقة عرضهما، مضيفين اليه كماً من السخرية، تسهم في تعميق تنمطهما كغريمين وحيدين كما في أفلام “الكابوي”: شرير وبطل خَيّر، مع اختلاف كبير في طبيعة الصنعة السينمائية فما ينقل على الشاشة في هذه الحالة هو ما مسجل حقيقة على شريط الكاميرا، لهذا تبدو السخرية والمعبر عنها بوضوح في الأغاني السريعة، انعكاساً للواقع الذي يعيشه البطلان، الأول فقير ومعدم والثاني برجوازي مترف تمثله المديرة التنفيذية التي جاءت لتُغيَّر واقعاً بالنسبة اليها ولحكومتها غير مقبول السكوت عليه طويلاً. أرادت اجبار سكان المدينة على دفع فواتير الكهرباء وخلافه هددت بتقديم الممتنعين منهم بتغريمهم نقدياً أو حتى تقديمهم الى المحاكم.
الصراع ظاهر الآن وما على المُخرجين سوى ايصال الحكاية الى ذروتها الدرامية كما في معظم الأفلام الهندية التقليدية، فيشرعان في نقل مشاهد من عمل المديرة في مؤوسستها وبعض تفاصيل حياتها الشخصية المترفة وفي جانب ثانٍ، يسجلان مشاهد من الحياة اليومية للطيب لوها والأحياء التي يأتي اليها تلبية لنداء سكانها من أجل حل مشكلة انقطاع التيار الكهربائي فيها.
مشاهد الأسلاك المتشابكة التي تشبه شبكة عنكبوت وحركة أصابع “اللص” الحاذق بينها وكأنها امتداد لذراع روبوت آلي تأتي دوماً بعد عدة تكتيكات يقوم بها لإشغال خصومه من موظفي الشركة، كأن يتعمد ربط أسلاك المحولة الرئيسية في الحي بشكل خاطيء ما يتسبب في ايقافها مؤقتاً واشتعالها أحياناً حتى تتوفر له فرصه البدء بعملية نقل التيار من السلك الرئيس الى الأسلاك الفرعية التي يبدع في ابتكارها، ويفخر بأنها قوية وغير قابلة للتلف السريع. لعبة القط والفأر تجري بين مديرة الشركة وبين لص الكهرباء وهي بدرجة أكبر “لعبة” طبقية بين فقراء الأحياء البائسة وبين دولتهم التي تعجز عن توفير الخدمات لهم، فيضطرون للتعبير عن معارضتهم لها بالامتناع عن دفع فواتير الكهرباء التي لا تصلهم أصلاً إلا ما ندر من ساعات اليوم. لقد أخفقت الدولة في تأمين خدمة كهربائية يشعر الناس بضرورة دفع مبالغ مالية مقابلة لها.

لقد انسحب عجز الدولة على مستوى الحياة كلها في المدينة حين تراجع انتاجها من صناعة النسيج، التي كانت تفخر بها، الى مستويات متدنية ونسى سكانها يوماً ان مدينتهم كانت توصف ب “مانشستير الشرق”. لم يعد يقوى أصحاب المعامل على انقطاع التيار الكهربائي المستمر عن معاملهم ولم يعد بمستطاعة الجميع دفع ثمن محولات الديزل البديلة. لقد تراجع اقتصاد المدينة بسبب سوء خدمات شركة الكهرباء فما كان أمام المتبقي من معاملها الصعيرة سوى الاستعانة بالشاب الموهوب المتطوع لتوصيل الكهرباء اليها عبر سرقة الكهرباء من أسلاك “الأثرياء”. سيغدو الصراع مع شدة ضغط المديرة على سكان المدينة مفتوحاً وعلى خطه ستدخل أطرافاً كثيرة من بينهم رجال السياسية الذين سيلعبون على حبالها طمعاً في الحصول على أصوات مواطنيها. يسجل الوثائقي حقائق مذهلة طرزها بثوب السخرية اللاذعة لحركة السياسيين الهنود بدءًا من رئيس الوزراء الحالي الى شخصيات كبيرة جاءت اليهم واعترفت بتقصير شركات الكهرباء التابعة لحكومتهم في تأمين ما هو مطلوب منها ووعدوا بحلها. صدقهم البعض ورفضهم الآخر وكان من بين أكثر المتحاملين عليهم والراغبين في طردهم “اللص” البارع لوها. كان يحمل وعياً غريزياً تبلور إثر الصعقات الكهربائية التي كوت جسده.

لم يجنِ من كلامهم عملاً فظل عاطلاً إلا من شغله التطوعي كموصل دؤوب للكهرباء في كل وقت ولأي حي، ولهذا فهو لا يثق بوعودهم ولا يريد الاستماع اليهم أصلاً. كان مع التيار الشعبي الذي يريد تصعيد المطالب السلمية، وما سينقله الوثائقي لموجة الاحتجاجات يمثل الذروة الدرامية التي أراد صانعا الوثائقي ختام فيلمهما به ولكن ومع كل الآثار المريرة التي تركتها مصادمات المتظاهرين مع رجال الشرطة ظل لوها منفرداً، بحزنه، يسير في الشوارع المعتمة في انتظار فرصة مناسبة ليعيد النور اليها فبالنسبة اليه صارت سرقة الكهرباء صنعة لا يحصل منها على مال لكنها تريح ضميره فيظل مشبعاً بالرضى من صناعته للنور. في المقابل وحتى تكتمل عناصر صناعة السخرية الهندية وكي لا يبدو الفيلم منحازاً الى متجاوزي القانون والى “اللصوص” يكتب مخرجاه جملتين على الشريط الأسود تقولان: ان حجم خسارة شركة كيسكو الحكومية من التويصلات اللاشرعية لا تتجاوز 30%! وأن المديرة التنفيذية ريتو مهشواري قد نُقلت الى وظيفة أخرى في مدينة صغيرة. لقد ترك السؤال عن الأسباب المتبقية من نسبة الخسارة المئوية مفتوحاً لمن يريد معرفته، مع أنه في سياق عرضه للمشهد الهندي العام يحيل أسباب المشكلة الى فساد المؤسسات الحكومية بما فيها أجهزة الشرطة وكبار الموظفين الذين يرسخون دوماً مواقعهم على حساب فقراء البلد كما رأينا في حالة مدينة كانبور وشركة كهربائها التي أفرزت نتاجاً ما كان له أن يظهر لولا الحاجة الماسة لظهوره والتي تشبه الحاجة الماسة لوجود الكهرباء في مدينة تشبه مدن الهند الأخرى والتي تعاني أغلبيتها من شح في الكهرباء كما لمح عنوان الفيلم: “عديم القوة”، الى انعدام وجود القوة الكهربائية والأدهى انعدام الرغبة الحقيقية عند حكومات الهند المتعاقبة في حل مشاكل شعب فاق عدده المليار انسان.