الدورة 16 لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية

تسالونيكي (اليونان) ـ قيس قاسم

مرة أخرى، تتعزز الثقة بأهمية مهرجان تسالونيكي الوثائقي، وبقدرته على وضع برنامج غني ومتماسك يستوعب أهم الأفلام الوثائقية المنتجة خلال العام، وحرصه الواضح على استحداث ثيمات جديدة  والظهور بمستوى جيد، مستوعباً كما يبدو تقاليد مهرجان تسالونيكي العام، وخبراته المتراكمة عبر أكثر من نصف قرن، بالرغم من أنه لم يظهر كرديف له إلا قبل خمسة عشرة عاماً، تمكن خلالها من تقليص الهوة الزمنية والسير على نفس الخطى الواثقة من امكانية اقامة مهرجان سينمائي يحظى بإحترام الوسط المختص والجمهور على سواء، ويحظى بإعتراف عالمي كواحد من أهم المهرجانات المختصة لصرامة اختياراته وجودة سوقه التجاري.

برنامج هذا العام حوى على عدد جيد من الأفلام الوثائقية العربية التي ستعطي للمشاهد اليوناني صورة معقولة عما يجري فيها من نشاط سينمائي يعكس بالضرورة مستوى المنتج الوثائقي، الى جانب أفلام أخرى اتخذت من الشأن العربي موضوعاً كفيلم “كل يوم تمرد” للمخرجين آراش رياحي وآرمان رياحي الذي أدرج ضمن قسم “مَشاهد من العالم” الى جانب “أغنية يوسف” لليوناني كوستاس بلياكوس الذي يأخذنا معه في رحلة ممتعة الى عالم مطرب الراب الليبي يوسف الذي أخذ مكانه في الثورة أولاً ثم كسب شهرة أوسع  في بقية المنطقة العربية، فيما بعد. يلخص كوستاس فكرة فيلمه بالكلمات التالية: من خلال نظرة يوسف يمكن تلخيص نظرة الكثير من الشباب الليبي الى المستقبل، بعد نهاية مرحلة حكم القذافي. كاميرا الفيلم لاحقت يوسف في الكثير من الأمكنة التي كان يذهب اليها، وحرصت على تسجيل قسماً من أحاديثه عن الحياة اليومية والظروف الاجتماعية والسياسية، التي يجسد تصوراته عنها بمزيج موسيقي مفرداته: الكلمة المعبرة والايقاع الممتع. كما سيعرض في الخانة نفسها الفيلم الهندي “شموع في الرياح” لكافيتا باهل وناندان ساكسينا، ويحضر معه فيلم المخرج الروسي الكسندر جنتيليف “ألعاب بوتين” المثير للاهتمام لتزامن موضوعه مع انعقاد دورة الالعاب الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي وكيف استمر الرئيس بوتين موارد الدولة من أجل تسجيل منجز كبير باسمه الشخصي، وليظهر كرئيس طموح يريد اقران الحدث الرياضي بتاريخيه السياسي. أما فيلم “كيسمت” فيتناول ظاهرة المسلسلات التلفزيونية التركية ومقدار تأثيرها على المنطقة وعلى المجتمعات العربية بخاصة المرأة التي وجدت فيها نافذة اطلعت عبرها على عوالم قريبة منها ثقافياً، وفيها تتمتع المرأة بحريات نسبية تطمح هي نفسها أن تتمتع بها.

الفيلم من اخراج نينا ماريا باسكليدو وهو من انتاج يوناني قبرصي مشترك. أما الفرنسية كلير سيمون فترسم “جغرافية بشرية” من خلال رصدها للحياة اليومية للمسافرين المتواجدين في “محطة الشمال” الباريسية، وتشرك معها صديقها الجزائري سيمون الذي سبق وأن أجرت معه لقاءً قبل ثلاثين عاماً كان وقتها كان لا يملك أي جواز سفر، لا جزائري ولا فرنسي، لأنه امتنع خلال عوده من باريس الى الجزائر من أداء الخدمة العسكرية فعاد الى اغترابه الفرنسي، بعد أن شعر بإغتراب حقيقي في بلاده. الفيلم يرصد حيوات بشرية ترسم بذاتها جغرافية انسانية متنوعة اجتمعت كلها وفي لحظات عابرة في محطة قطار. الخانة تشمل أربعة عشر فيلماً اختيرت بعناية لتعطي تصوراً واسعاً لحركة العالم وقضاياه ومن هنا جاءت تسميتها “مَشاهد من العالم”.
في خانة “قصص لتروى” هناك أكثر من أربعين فيلماً، تأسست ثيماتها على حكايات وتجارب شخصية بسيطة، وعبرها تمكن صانعوها من سبر غور أعقد المشكلات في عالمنا ومن منطلقها الأسلوبي المبتعد عن تناول القضايا الكبيرة مباشرة واستبدالها بأخرى أصغر توفر لصانع الوثائقي حرية وقدرة على التحكم بمشروعه بما يتوافق مع امكانياته الانتاجية. من بين هذة المجموعة فيلم المخرج الكردي السوري مانو خليل “طعم العسل” والذي سبق وأن عرض في دبي، وسيعرض فيلم المخرج الفرنسي أكسيل سالفاتوري ـ سينز “شباب مخيم اليرموك” الذي يرصد حياة مجموعة من فلسطينيّ المخيم في مقتبل أعمارهم، وظل ملازماً لهم خلال عامين (2009 ـ 2011) سجل خلالها بكامرته أدق مشاعرهم وتصوراتهم عن واقعهم اليومي ورغبتهم في عيش حياة أفضل في المستقبل. الثورة الفلسطينية والحرب الأهلية السورية لا تظهر مباشرة، لكنها تأتي عرضاً عبر أحاديثهم التي تتوزع وفق رؤى شخصية متباينة عليها سيعتمد كل واحد منهم في خياراته الحياتية. أما المخرج  فريدون نجفي فأنه مضى في تتابع حكاية “الهجرة الأخيرة” للفلاح الإيراني مثلما ظلت السويدية كارين ايكبري تلاحق حكاية السيدة المطلقة بعد زواج دام أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً. فيلم “أن تنفصل” يغور عميقاً في  فعل الطلاق وما يتركه من آثاره واضحة على حياة المنفصلين.

اللبناني فيليب عرقتنجي صاحب “بوسطة” و”تحت القصف”  يمزج في فيلمه الجديد “ميراث” الروائي بالوثائقي ليسرد جزءًا من سيرته الذاتية والتصاقها بتاريخ عائلته ووطنه لبنان، في حين يرجعنا “رجلنا في طهران” للكندي لاري وينشتين الى أزمة الرهائن الأمريكان في طهران أبان الثورة الايرانية واختفائهم في السفارة الكندية التي رتبت بالتعاون مع المخابرات الأمريكية عملية تهريبهم سراً خارج ايران. الوثائقي الاسرائيلي “سجين مدى الحياة” لنوريت كادار ويارون شاني فيحكي سيرة الفلسطيني فوزي نمر وابنه: الأول أعتبره البعض رمزا وطنياً أما الثاني فظل طفلاً موزع الهوية. الأب دخل السجون الاسرائلية وحينما خرج أصبح سجين منظمة التحرير الفلسطينية وسجين جسده المريض، أيضا. انها بحق حكاية “سجين مدى الحياة” كما يرويها وثائقي مثير للجدل، لا يقل عنه اثارة الفيلم الفرنسي “دوي الرعد في بغداد” للفرنسي جون ـ بيير كريف، كونه سجل ولمدة أربع سنوات متلاحقة يوميات الاحتلال الأمريكي لمدينة بغداد. الفيلم وصف بالملحمي لرصده تفاصيل الغزو الأمريكي وتقديمه صورة واضحة عن التدخل وآثاره السلبية الواضحة على العراقيين، فيما ظلت دوافع الحرب التي بنيت على معلومات كاذبة موضع ملاحقة الوثائقي الأمريكي  “المجهول معروف” لصاحب الأوسكار المخرج ايرول موريس. في فيلمه الذي سيعرض في تسالونيكي بعد فينيسيا، ثمة سؤال يحاول الوصول الى جواب شاف عنه: هل كان وزير الدفاع رامسفيلد حقاً مصدقاً ما كان يقوله ويردده من أن العراق كان يمتلك  أسلحة دمار شامل؟ أم انه كذاب محترف صَدَق كذبته؟ في فيلمه المبني على ساعات  طويلة من التسجيلات والمقابلات الشخصية اضافة الى مراجعته لكثير من الوثائق ويوميات الوزير يتقرب كثيراً من رسم صورة لسياسي وضع مصالحه فوق مصالح ملايين من الأبرياء وساهم في شن حرب مبنية على الأكاذيب.

قسم البيئة محتشد كالعادة بأفلام ذات صلة بعالمنا الذي نعيش فيه والمشكلات البيئة التي تهدده من بين ما سيعرض فيها “إفراغ السموات”  للمخرج الأمريكي دوغلاس كاس والذي سبق وأن عرض في  الدورة الأخيرة لمهرجان أبوظبي السينمائي، وتناول ظاهرة الصيد غير الشرعي للطيور المهاجرة في جزيرة قبرص ومحاولة الناشطين المستميتة من أجل ايقافها.
في قسم “حقوق الانسان” سيعرض الفيلم السوري “العودة الى حمص” لطلال ديركي والحائز جائزة لجنة التحكيم في دورة مهرجان صاندانس الأخيرة، اضافة الى “أوكراينا ليست مبغى” لكيتي غرين و”تحت التعذيب” للمكسيكية كريستينا خواريز زبيدا و”اللّعب بالنار” لليونانية أنيتا باباثاناسيو، التي قابلت بعض الممثلات المسرحيات الأفغانيات وسجلت تفاصيل عملهن في مجال ابداعي يتعرضن بسببه الى خطر الموت والعيش تحت التهديد الدائم. فأن تكون الأفغانية امرأة أمر صعب أما أن تكون ممثلة مسرحية فهذا أصعب بمرات. فيلم أنيتا يدرج بين أفلام يونانية كثيرة خصصت الدورة لها حيزاً خاصاً كما خصصت برنامجاً احتفالياً بمخرجين بارزين في عالم السينما الوثائقية: الأول الكندي بيتر بينتونيك، بمناسبة رحيله العام الماضي عن عالمنا تاركاً وراءه قرابة 100 فيلم، وتخليداً لمنجزه استحدث المهرجان جائزة بإسمه ستمنح لأفضل فيلم أجنبي مشارك. أما المحتفى به الثاني فهو المخرج الفرنسي نيكولاس فيلبرت الذي يعد واحداً من أميز المخرجين السينمائيين لإتخاذه إسلوب عمل اختص به. ستقدم  الدورة    ال16 للمخرجيّن مجموعة أفلام تغطي جزءًا من ابداعهما الوثائقي خلال فترة انعقادها ما بين الرابع عشر من مارس/آذار والثالث والعشرين منه.
 
 


إعلان