“سارقة الكتب”: ليس كل الألمان نازيين!

أمير العمري 

عن رواية الكاتب الاسترالي ماركوس زوساك أخرج بريان بيرسيفال فيلم “سارقة الكتب” The Book Thief. وقد تكون الرواية التي صدرت عام 2007 وأصبحت من أكثر الروايات مبيعا، مختلفة في الكثير من تفاصيلها وشخصياتها الثانوية العديدة عن الفيلم الأمريكي (من الإنتاج المشترك مع ألمانيا) الذي ينطلق أساسا من فكرة نقل صورة مصغرة للمشاهدين عما كان يحدث في ألمانيا النازية في الثلاثينيات- قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.

لعل أول ما يذكرنا به فيلم “سارقة الكتب”- ولو من على مسافة- الفيلم الألماني الشهير “الطبلة الصفيح” The Tin Drum لفولكر شلوندورف المقتبس عن رواية الكاتب الألماني غونتر غراس، من زاوية أن “سارقة الكتب” شأن فيلم شلوندورف، مصور من وجهة نظر طفلة شهدت وهي في بدايات رحلة المعرفة، الكثير من المآسي والأهوال التي تركت انعكاسها الأبدي على ذاكرتها. وثانيا: أن الفيلم يعبر- على نحو ما- عن رغبة طفلة في الاحتجاج على النظام النازي ومقاومته بالطريقة التي تختارها وهي القراءة والمعرفة والإقبال بنهم،على قراءة والتهام تلك الكتب التي إعتبرها النازيون من “الممنوعات” والتي نشاهد حرق أكوام هائلة منها في مشهد يدور في ساحة البلدة، على غرار ما وقع في معظم المدن الألمانية في وقت واحد ذات ليلة من ليالي أبريل 1933 في طقس همجي إحتفالي يقوده الدكتور غوبلز وزير داعية هتلر!
يبدأ الفيلم بداية موحية بمشهد مصور أولا من أعلى، بكاميرا متحركة للسحب البيضاء يخترقها كائن لا نراه بل نسمع صوته فقط، وهو يقول لنا كيف أنه “قدر الإنسان”، وأن لا أحد يمكنه الهرب منه، وأنه لذلك ينصح كل من تأتيه الساعة “ألا يشعر بالذعر، لأنه لن يفيد”. إنه صوت “ملاك الموت” شخصيا وهو يحلق فوق السحب قبل أن يتطلع من علٍ إلى قطار يشق غابة طبيعية تغطيها الثلوج البيضاء. نتحرف الكاميرا من وجهة نظر ملاك الموت إلى يمين القطار من أعلا، يتصاعد البخار الأبيض الكثيف من مقدمة القطار، ثم يعود الصوت: ربما يكون مناسبا أن أقدم نفسي لكم.. ولكني لا أرى هذا مفيدا فسوف تقابلوني قريبا.. ولكن ليس قبل أن يحل موعدكم بالطبع”!
الكاميرا تتحرك إلى الأمام وإلى أسفل وننتقل إلى القطار من الداخل، ولاتزال الكاميرا تتحرك بين الركاب.. إلى أن تتوقف عند “ليزل” ووالدتها وشقيقها الصغير الذي تحمله الأم ليقول لنا ملاك الموت إنه أحيانا ما يشد اهتمامه بعض البشر، ومن بين هؤلاء “ليزل ميمنغر” التي استولت على اهتمامه لسبب لا يدريه. وفي اللحظة التالية تلمح ليزل شقيقها الصغير وقد جمد وجهه جمود الموت.

الكتاب الأول
في المشهد التالي نراهم يقومون بدفن الطفل في مقبرة وسط الثلوج، يقوم قس بالطقس الديني، يسقط كتاب من يد أحد حفاري القبور بعد أن يردمون الحفرة.. إنه كتاب “دليل حفاري القبور”، تتلقفه يد ليزل، تسرقه وتخفيه. نعرف أننا أمام أسرة ألمانية ذهب عائلها أي الأب، ولم يعد. الأم في طريقها إلى مقصد لا نعرفه.. إنها هاربة من الاضطهاد السياسي المسلط على المعارضين السياسيين للنازية – وهو ما سنعرفه فيما بعد- أما ليزل فقد كتب عليها أن تذهب مع إحدى راهبات الصليب الأحمر، إلى بلدة أخرى، لكي تقيم مع أسرة ألمانية تتبناها، هي أسرة عامل الطلاء “هانز” الذي هاوي العزف على الأكورديون، وزوجته روزا.

في المدرسة يسخر زملاء ليزل منها لكونها أمية لا تعرف القراءة والكتابة. وفي ليلة حرق الكتب التي يعتبرها النازيون متعارضة مع الفكر النازي، نشاهد ليزل بوضوح وهي غير مندمجة مع أقرانها من تلاميذ المدرسة الذين يرددون نشيد “ألمانيا فوق الجميع”. أنظارها تتسلط فقط على تلك الكتب التي تلتهمها النيران. وبعد أن يتفرق الجمع، تذهب ليزل وتنقذ كتابا من بينها تخفيه داخل معطفها. تلمحها سيدة ألمانية هي السيدة إلزا هيرمان، زوجة عمدة البلدة، وهو من أعضاء الحزب النازي. هذه السيدة، التي فقدت إبنها الوحيد في الحرب، هي التي تقوم روز زوجة هانز بغسيل الملابس والأغطية لها مقابل بضعة قروش تستعين بها في مواجهة شظف العيش في تلك الأيام الجافة. وعندما تقوم “ليزل” ذات مرة بتوصيل الملابس إلى منزلها الفخم، تستضيفها إلزا، وتطلعها على مكتبتها العامرة بالكتب، وتسمح لها أن تقضي فيها وقتا في القراءة والمطالعة، أما ليزل فهي تسمح لنفسها أحيانا، باختلاس بعض الكتب والاحتفاظ بها لنفسها.
يقوم والدها بالتبني- هانز- بتعليمها القراءة والكتابة في قبو منزله. ويأتي ذات يوم الى المنزل شاب يدعى ماكس، يهودي كان والده قد أنقذ هانز من الموت أثناء الحرب العالمية الأولى. إنه خائف ومذعور ومريض يوشك على الموت. تخفيه الأسرة في القبو. تتردد ليزل عليه وتقيم معه صداقة، تواسيه في فترة علاجه ونقاهته بأن تقرأ عليه ما تحصل عليه من كتب. يترك ماكس عليها تأثيرا لا تنساه. إنه هارب من الاضطهاد النازي لليهود. وهي أقسمت على إخفاء السر، لا تبوح به حتى لصديقها وجارها “رودي” وهو فتي في عمرها، رغم أنه يدرك من تلقاء نفسه فيما بعد أن لديهم أحد اليهود في المنزل لكنه يكتم السر. ومع بلوغ الحرب العالمية الثانية ذروتها، تبدأ حملات النازيين لتفتيش منازل البلدة بحثا عن اليهود الهاربين، وفي أحد المشاهد تشاهد ليزل صفا طويلا من اليهود الذين يسوقهم رجال الشرطة النازية إلى مصير غامض. ومع تكرار تفتيش المنزل وما يمثله وجود ماكس من خطورة على هذه الأسرة الطيبة، يضطر الى ترك المكان والمغادرة ويتجه نحو مصير مجهول. ويتم تجنيد “هانز” ثم يعود بعد أن يصاب إصابة تجعله معاقا.. وتستمر ليزل في القراءة والتردد على المدرسة ونهل المعرفة، كما تواجه مرات عديدة زميلها الأحمق المتعصب للنازية الذي يصر على إفساد علاقتها برودي، وتشهد ليزل غارة عنيفة تدمر الكثير من منازل القرية، يقتل خلالها رودي وروز وهانز، لكنها تلتقي بمعجزة ما، بعد نهاية الحرب، بماكس.

طابع الرواية الأدبية يلقي بظلاله على الفيلم: سيختفي صوت ملاك الموت بعد تلك المقدمة المؤثرة، سيصبح الفيلم كله مصورا من وجهة نظر ليزل، التجربة المرعبة ستجعل سكان القرية أكثر تعاطفا مع بعضهم البعض: في أحد المشاهد تأتي جارة هانز التي تم تجنيد زوجها وتوفي في الحرب، بزجاجة نبيذ معتق تعطيها لهانز قائلة: إنها كانت قد احتفظت بها للاحتفال عند عودة زوجها، وهي كل ما يمكنها أن تعطيه إياه الآن مقابل طلائه منزلها من الخارج. وبعد أن تفقد ليزل أسرتها تلجأ للعيش في كنف إلزا هيرمان التي تكون أيضا، قد فقدت زوجها في الحرب.
إننا أمام منظومة متكاملة من الألمان المناهضين للنازية، أو على الأقل، الذين يرفضون أن يندمجوا في النظام أو ضحايا النظام.. سنعرف مثلا كيف أن هانز يعاني من ندرة العمل لأنه رفض الالتحاق بالحزب النازي.
يقدم الفيلم ببراعة ورونق ومن خلال أسلوب رصين، صورة مصغرة لألمانيا زمن الحرب من خلال التفاصيل البسيطة التي تحيط بأسرة هانز.. الزوجة التي تبدو شديدة التزمت، لكنها في الوقت نفسه، تحب ليزل كثيرا وتحنو عليها. لكنها تفقد مصدر رزقها ورزق الاسرة بعد أن تتوقف أسرة هيرمان عن طلب خدماتها في الغسيل والكي. ويركز الفيلم على تجسيد شظف العيش الذي تعاني منه الأسرة وأهل البلدة جميعا بسبب تسخير كل الامكانات في خدمة الجيوش الألمانية.
ورغم أجواء التوتر والقلق والخوف التي تخيم على حياة أسرة هانز وخشيتها من اقتحام المنزل وتفتيشه في أي لحظة وملاقاة مصير تعس في حالة العثور على اليهودي ماكس- مختبآ عندهم، تنجح ليزل في خلق حالة من المرح عندما تأتي بأكوام من الثلج من الخارج الى القبو ليلة عيد الميلاد، وتشترك مع ماكس ثم ينضم إليهما هانز بل وزوجته – روزا- أيضا التي تبدي تبرمها من الموقف كله في البداية، ويشترك الجميع في تقاذف كرات من الثلج قبل ان يجلسوا جميعا يحتفلون وأمامهم تمثال من الثلج لدب أبيض، على صوت موسيقى الاكورديون الذي تداعبه اصابع هانز.

بين آونة وأخرى، تتذكر ليزل شقيقها الصغير الذي توفي أثناء الرحلة بالقطار من خلال الكتاب الذي انتشلته بعد دفن جثة شقيقها، ويصبح هذا الكتاب الصلة الوحيدة بينها وبين عالمها قبل أن تلتحق بأسرة هانز.. إنه رمز لذلك الفاصل بين عالمين.

رؤية أخرى
نحن أمام فيلم يأتي مناقضا للأفلام التقليدية الشائعة عن الموضوع نفسه، فالألمان الذين نشاهدهم هنا (ومعظمهم من الطبقة العاملة) هم ضحايا للنازية وليسوا مشاركين في جرائمها، والفيلم مصور من خلال عيني ليزل (الألمانية) وليس ماكس (اليهودي). واليهودي هنا جزء من حالة الاضطهاد العام التي كانت تنال أيضا من المعارضين، فوالدة ليزل- على سبيل المثال- في إشارات كثيرة بالفيلم كانت “شيوعية”، وصديق ليزل “رودي” الألماني الأشقر، يميل مثلها إلى القراءة والتطلع إلى العالم من منظور أحلامه الخاصة، ويرفض أن يلتحق بزميله الآخر الذي يبدي تعصبا للنازية. وهو يلقى مصرعه في النهاية ويصبح ضحية تورط النازيين في حرب لم يكن لأمثال رودي شأن فيها ولا موقف منها. والفيلم يقول أيضا بوضوح، أنه كان هناك الكثير من الألمان العاديين، الذين آووا اليهود واخفوهم بعيدا عن السلطات النازية، ولم يكن الألمان جميعا، ضالعين في مؤامرة “الإبادة الجماعية”، أو متسترين عليها، بل كان هناك من يقول يعترض ويحتج ويدفع حياته ثمنا لموقفه كما فعلت والدة ليزل مثلا.
من أهم عناصر الفيلم من ناحية الإخراج، ذلك التجسيد القوي لكل مظاهر الحرب لحظات الوحدة والتوتر، ومساحات التنفس فيما بينها كما نرى عند خروج ماكس للمرة الأولى الى الشارع أثناء غارة ليلية بعد أن توجه جميع السكان إلى الملجأ، ولولا السيناريو المحكم الذي كتبه باقتصاد ودون أي إنسياق في دروب الرواية الأصلية “مايكل بتروني”، لم يكن الفيلم ليأتي على كل هذا التأثير والرونق.
ينجح المخرج البريطاني بريسيفال في تجسيد كل معالم الفترة التاريخية، بصورة دقيقة، سواء في الملابس أو الإكسسوارات والديكورات وطرز السيارات وتصفيفات الشعر.. إلخ كما ينجح فريق الإنتاج في إعادة تصميم الشارع الذي تدور فيه المشاهد. وجدير بالذكر أن المشاهد الخارجية صورت في برلين وفي مدينة جورليتز بمقاطعة ساكسونيا الألمانية كما في ستديوهات بابلسبرج التاريخية الشهيرة في بوتسدام قرب برلين.
ومن أمتع ما يمكن أن نراه في هذا الفيلم، ذلك الأداء البديع للممثلة الكندية الصغيرة صوفي نيلس في دور “ليزل”، والممثل أيضا نيكو ليرش” في دور الطفل “رودي”. ينجح الإثنان في تحقيق ذلك الانسجام والتآلف النادر بين الشخصيتين، خاصة في المشاهد التي تظللها روح المرح، وتضفي الكثير من الحيوية على الفيلم كما تخفف من قسوة ما نشاهده من أحداث.
وكالعادة- يتميز الأداء عند الممثل الاسترالي الكبير جيوفري رش في دور “هانز”، ببساطته الآسرة في التعبير عن المأساة دون أن يفقد أيضا قدرته على خلق الابتسامة وقت اللزوم. وتتلاقى معه الممثلة البريطانية إيميلي ووطسون في دور زوجته “روزا” التي تستخدم لهجة خاصة في نطق الإنجليزية لكي تبدو من الريف الألماني.
وبوجه عام يمكن القول إن الفيلم نجح في تقديم صورة جديدة لتلك الفترة المظلمة التي عولجت من قبل في الكثير من الافلام بصورة نمطية تلح على تكرار الفكرة نفسها، دون مراجعة حقيقية هي التي بدأت تظهر أخيرا في سياق سينمائي جديد كما رأينا أخيرا، في فيلم “إيدا” Ida  البولندي الممتع. 


إعلان