قصص الغرقى السوريين

أمستردام – محمد موسى

يُشير الموظف الإيطالي الى صفوف من القبور العمودية المبنية على بعضها كطوابق عمارة سكنية ويغطي الرخام الأبيض جدرانها من كل الجهات:” هذه تعود لاثيوبيين وأريتريين، هناك في نهاية هذا الصف قبر رقم 13 الذي تبحثون عليه”. في القبر ذاك ترقد زوجة حسن،  الذي عندما سمع ما قاله الموظف، إقترب من القبر وبدأ بكائاً هادئاً. تنسحب كاميرا الفيلم التسجيلي الهولندي التي كانت توثق المشهد،  وتترك الزوج يقضي هذه اللحظة الخاصة لوحده، وعندما تعود اليه مرة أخرى، كان حسن، الفلسطيني الذي ولد وعاش حياته كلها في سوريا والذي كان واقفا هناك في المقبرة الإيطالية بظهر محنيّ، يتسائل عن القبور أمامه، ولماذا لا تشبه القبور الإسلامية في بلده، وكيف يُمكن أن تكون فوق الأرض ولا يُغطيها التراب.

تجتهد مرافقة حسن الشابة حنين حسان، الفلسطينية الأصل هي الأخرى والتي تعمل في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان التابع للإتحاد الاوربي، لتفسير ما حولها للرجل المثكول، وكيف إن هذه المقبرة مخصصة للغرباء المجهولي الهوية، لكنها هي أيضا لا تعرف كل شيء، فهما وصلا معا الى المقبرة، ولا تستطيع أن تقدم أجوبة وافية على أسئلة “حسن” المُلحة، خاصة إن هناك الكثير الذي يشغل بالها، كسلامة حسن نفسه، فهذا الأخير يعيش بشكل غير شرعيّ في جزيرة صقلية الإيطالية، ويُخيم على حياته شبح الإبعاد.

فقد حسن معظم عائلته في غرق الباخرة السورية أمام سواحل صقلية في الحادي عشر من إكتوبر من عام 2012. عندما إنقلبت الباخرة بسبب حملها لأكثر بكثير من قدرتها، وهي الحادثة التي قضى فيها أكثر من مائتين شخص (مُعظمهم من السوريين الذين كانوا متوجهين الى أوربا بشكل غير شرعي) غرقاً في البحر، ومنهم زوجة حسن وإبنته وأحفاده. أما السوري الفلسطيني الذي عمل نجاراً في حياته السابقة في سوريا فتم إنقاذه ونقله الى مركز مؤقت للاجئيين في الجزيرة الإيطالية، حيث يعيش كالسجناء، بقلب زلزله الحزن، جاهلاً مصائر عائلته.

قصة حسن ستكون إحدى محاور الحلقة الأخيرة من البرنامج التلفزيوني التسجيلي الهولندي “زمبلا”، والتي حملت عنوان “العبور القاتل”. تسير الحلقة على منهج البرنامج التسجيلي الذي صار معروفاً، بجمعها بين التحقيق الإستقصائي وتقديم قصصاً إنسانية صغيرة، من التي تسقط من المتابعات الإخبارية التقليدية. فرغم إن غرق الباخرة نال على نصيب جيد من الإهتمام الإعلامي الهولندي والاوربي وقتها الا انه بقى في حدود القصة الإخبارية اليومية الذي سرعان ما تلاشى من برامج الأخبار والإهتمام الشعبي. يعود التحقيق التسجيلي الى القصة الكبيرة كما يتناول بعض القصص الإنسانية الاخرى، محققاً بعدة إتجاهات، مسلطاً الإنتباه على الجحيم الذي يعيش فيه أهل الضحايا، والذين لايزالون لا يعرفون ما آل اليه أحبتهم.

يتابع التحقيق التلفزيوني حنين حسان. تسعى هذه الشابة، والتي تركت قبل سنوات مدينة غزة الفلسطينية وتوجهت لهولندا لدراسة القانون، ومن خلال عملها في الإتحاد الاوربي، للحصول على أجوبة تخص الباخرة وضحاياها ومسؤولية أجهزة أمنية أوربية فيما حدث للباخرة. ترافق الكاميرا إجتماعات حنين حسان مع زملائها في الإتحاد الاوربي وبعد شهر تقريباً من الحادثة، والتي تناولت التحقيقات الأولية عن إهمال أجهزة بحرية اوربية لندائات إستغاثة. حاولت القوى البحرية في إيطاليا ومالطا، التي تتلقى مثل هذه الإستغاثات يومياً، أن ترمي المهمة وقتها على جارتها. ستغرق السفينة غير الشرعية، عندها ستتدخل بواخر من كلا الدولتين لإنقاذ الأحياء من ركابها.

بعد أجتماعات بروكسل، ستتوجه حنين حسان الى جزيرة صقلية في إيطاليا والتي نُقل إليها بعض من ناجين الباخرة الغارقة. عندما تصل الشابة الى مركزهم تجد إن معظمهم قد هرب طلباً للجوء في دول اوربية عدة. عندها تقابل “حسن”. الخمسيني الذي بدا إنه يحمل ثقل العالم فوق كتفيه. بقليل من الجهد ستكتشف حنين، إن إبن حسن تم إنقاذه أيضاً، وهو يعيش في قبرص. المشاهد التي تتبع للمكالمة الهاتفية بين الأب والإبن هائلة الحزن والتأثير. الإبن ذاك فقد زوجته الشابة وطفله الذي لم يتجاوز السنة في الباخرة الغارقة. تحصل “حنين” على شهادات ناجين آخريين. أحدهم وصف كيف كانت أم سورية تتمسك بطفلها الرضيع الميت، رافضة التصديق إنه فارق الحياة بعد أن قتله برد مياه البحر. شهادة إخرى تؤكد الطبيعة الإجرامية لمافيات تهريب البشر، فشاب سوري زعم إن الجهة التي رتبت سفرهم قامت هي نفسها بإغراق الباخرة، بسبب رغبتها بسرقة أموال ركابها، خاص إن بينهم سوريين باعوا كل ما يملكون في بلدهم وكانوا يحملوه معهم كنقود أجنبية في حقائبهم.

تستسلم حنين حسان، والتي بدت قوية في إجتماعات بروكسل، الى نوبات بكاء حادة في منتصف مهمتها، فالكارثة وما رأته كانا  أكبر من قدرتها على الإحتمال، خاصة عندما إقتربت من مواقع الأحداث وقابلت أهل الضحايا، فعندما رتبت زيارة الى قسم البوليس لمشاهدة صور فوتغرافية لقتلى، من الذين تم العثور على جثثهم وتصويرها قبل دفنها، ستنهال عليها المكالمات والتوسلات من كل دول العالم، من عوائل لازالت تجهل مصير أفرادها، تطلب منها البحث عن علامة ما في تلك الصور. شوه البحر معالم معظم الجثث، الأمر الذي جعل من العسير تماماً التعرف على أصحابها. لكن حنين ستعثر على صورة لزوجة حسن وحفيدته، فيما ظلت بقية الجثث بدون أسماء، مدفونة مؤقتاً في المقبرة الإيطالية.

لا ريب إن موت لآجئي الباخرة السوريين وغيرهم على أبواب اوربا، ساعد على أن تصل قصتهم سريعاً الى الإهتمام التسجيلي الهولندي. ورغم إن البعض يشعر بعدم الإرتياح من أن يمر الموت اليوميّ في سوريا وغيرها من البلدان المتوترة دون أن يحظى بإهتمام كالذي ناله غرقى الباخرة، الا إنه لا يمكن الا الثناء على جهود مؤسسات إعلامية بموارد غير كبيرة، تجتهد أن تنقل الحقيقية وما يجري في العالم الى جمهورها المحلي، المتوجهه إليه بالأساس، والى جمهور واسع أحياناً (قامت القناة البلجيكية الاولى بعرض الفيلم أيضاً). ما يتميز به فيلم “العبور القاتل” وغيره من التحقيقيات التسجيلية المهمومة بما يحدث من جرائم وانتهاكات، هو مَنحها وجه إنساني للكوارث العامة التي تحل بالعالم والتي تمر سريعاً او لا تلفت إنتباه كثيرين. “حسن” هو الوجه الحاليّ لمآساة الباخرة الغارقة في الحادي عشر من أكتوبر من عام 2012، والى أن يقوم فيلم آخر بالنبش عن قصص منسيّة من الباخرة تلك، التي كانت تحّمُل بؤس العالم.


إعلان