مدينة الأشباح اليابانية!
محمد موسى
نالت كارثة التسونامي في اليابان في مارس من عام 2011 وما تبعها من تلوث بيئي خطير اهتماما تسجيليا كبيرا في السنوات الثلاث الماضية، معظمه من مخرجين يابانيين وأحيانا من مخرجين أوربيين، من الذين أذهلهم حجم الكارثة (حوالي 24 ألف ضحية)، والدمار الذي ألحقته، وما فتحته من أسئلة عن مسؤولية الإنسان فيما وقع بعد الكارثة الطبيعية. فالهزة الأرضية التي بدأت بالبحر قادت إلى التسونامي، والأخير ألحق أضراراً فادحة بمحطات توليد طاقة نووية، لتنطلق الإشعاعات النووية بكل الاتجاهات، ولتصل الى عدة مدن ساحلية يابانية.

فتنت المدن والقرى اليابانية التي خلت من السكان لأشهر وأحياناً سنوات خيّال مخرجين كثيرين، فوجهوا الانتباه إلى الحياة المتوقفة، وكيف تبدو “المدينة” بدون الإنسان الذي شيدها. تحفل كثير من الأفلام المُقدمة بمشاهد شاعرية عن بيوت وشوارع متروكة، وآثار الطبيعة التي تسللت الى مملكة الإنسان الغائب، على هيئة أحراش بدأت تنمو بفوضوية في كل مكان، والصدأ الذي بدأ يأكل الأسطح المتروكة لرحمة عناصر الطبيعة.
يبدأ فيلم “مرحبا بكم في فوكوشيما” للمخرج البلجيكي آلان دي هالوكس، وهو واحد من الأفلام الأوربية التي تناولت كارثة التسونامي في اليابان، بمشاهد رائعة لمدينة ميناميسوما الخالية من السكان. منها واحد طويل لمحل الصحف اليومية الصغير، حيث كان الهواء يضرب صحف يوم الحادي عشر من مارس. لم يلمس أحد الصحف تلك منذ يوم الكارثة. هي هناك منذ أكثر من عام تجسيد زمني رمزيّ على ما لحق بالمدينة التي تركها سكانها بعد أن سمعوا بأخبار الإشعاعات النووية، التي بدأت تتسرب من محطات الطاقة، والتي تبعد بضعة كيلوميترات قليلة فقط من المدينة الصغيرة. في مقدمة الفيلم نفسها، هناك مشاهد سيريالية شاعرية (جرى التخطيط لها) من المدينة المهجورة، تلاحق فيها الكاميرات فارس ساموراي يابانيا يرتدي الزي التقليدي ويقطع شوارع المدينة على حصانه. بالإضافة الى المعنى الرمزي للمشهد وأهمية ما يتضمنه في القيمة الوجدانية الجمعية اليابانية، فحضور الفارس ليس غريباً على المدينة التي تنظم منذ عقود مهرجاناً تراثياً يقصده الآلاف من كل أطراف البلد.
تختلف مقاربات الأفلام التسجيلية التي قدمت عن الكارثة اليابانية الأخيرة، فبعضها بدا مأخوذاً بالثمن البشري، فقدم شهادات لناجين او لعوائل ضحايا الكارثة، فيما بحثت أفلام اخرى في مشهديات المدن المتروكة عن مادتها الصورية، والتي ستركز في الغالب على مدى هشاشة العالم المعاصر بوجه الطبيعة، وغاصت أعمال في الحنين لزمن ما قبل الكارثة. يختار فيلم “مرحبا بكم في فوكوشيما ” أن يسجل عودة سكان من ميناميسوما إلى بيوتهم، هذا التركيز سيمنح الفيلم بناءً واضحاً. يبدأ زمن الفيلم من بعد عام كامل على الكارثة. إذ لازال معظم أحياء المدينة خاليا من السكان، لكن البعض بدأ بالعودة إلى بيوتهم التي تركوها، وعليهم ترتيب حياتهم في ظروف مُعقدة ومستقبل غير واضح المعالم.
يركز الفيلم على بضع شخصيات، حزمت أمرها للعودة إلى المدينة، منها سيدة تملك محلاً لبيع الزهور. شهادة هذه السيدة ستكون مهمة بمكان، لكشفها تفاصيل لا تعبر بسهولة جدار الشخصية اليابانية التقليدية المحافظة والكتومة بطبعها. السيدة هذه هي إحدى شهود المدينة، في زمنها الماضي، وزمن ما بعد التسونامي. تواصل سيدة الفيلم عملها السابق ببيع الأزهار للسكان، والتي سينتهي كثير منها على قبور ضحايا الكارثة الأخيرة. تنهار مالكة محل الزهور عندما تتحدث عن الألم الذي يعصر قلوب معظم سكان المدينة، وقصصهم التي يفشونها لها عندما يشترون باقات الزهور تلك. من الشخصيات الاخرى أب وابنه. الأب الفرح بالعودة يملك مخاوف كبيرة على مستقبل الأطفال في المدينة، ويشكك بالرواية الرسمية، عن خلو المدينة من الإشعاعات الخطيرة، ويخشى أن آثاراً ما ممكن أن تكون بانتظار ابنه عندما يكبر أو الجيل الذي سيخلف ابنه.

ينحاز فيلم ” مرحبا بكم في فوكوشيما ” إلى تقديم المعلومات وأحيانا التحذير من آثار الكارثة، بدل أن يتيه تماماً في غابات الكونكريت المتروكة في المدينة المهجورة (وكما أوحت مقدمة الفيلم)، والعلاقة الجديدة التي يغلب عليها الاضطراب بين السكان وبيوتهم التي عادوا إليها. هذا الأمر قرب الفيلم إلى التحقيق التلفزيوني الذي لا يريد أن يترك مشاهديه بدون أجوبة. فالفيلم يقطع مشاهده، التي تميز الكثير منها بالجماليّة الكبيرة، ليقدم معلومات وإحصائيات، ليتعكر تسلل الإيقاع الذي وجده الفيلم، وخاصة عندما تناول العودة البطيئة المُترددة للسكان واكتشافهم مدينتهم مجدداً.
حيرة كثير من الأفلام أمام تقديم المعلومات ضمن سياقاتها هي واحدة من مشاكل السينما التسجيلية الكبيرة، والتي لا ترغب بترك مشاهديها (رغم أننا نعيش في عصر الإنترنت والمعلومة المجانية) ليقوموا بالتحري عما يرغبوه من معلومات بإنفسهم، وتصر على حشر زمنها بالأرقام، غافلة أن الصور السينمائية غير النمطية والتناول غير المسبوق يمكن أن يثيرا حماس الجمهور للبحث والمشاركة في النقاش العام الذي ترغب تلك الأفلام بإطلاقه.