فيلم “إنقاذ مستر بانكس”: السينما والخيال الأدبي

أمير العمري

ليس من الضروري أن تكون قد قرأت كتاب باتريشيا ديمرس الصادر عام 1991 الذي تروي فيه قصة حياة الكاتبة باميلا ترافيرس مؤلفة الرواية الخيالية الشهيرة “ماري بوبنز”، بل وليس من الضروري أيضا أن تكون قد شاهدت فيلم “ماري بوبنز” (1964) نفسه رغم ما يمكن أن تضيفه مشاهدته من فائدة، لكي تستمتع بفيلم “إنقاذ مستر بانكس” Saving Mr banks – إخراج جون لي هانكوك، الذي تقوم ببطولته إيما ثومبسون أمام توم هانكس. بل يكفي أن تشاهد هذا الفيلم فقط، بعقلك وقلبك وتستدعي خلال مشاهدتك له مما يكمن في وجدانك ومشاعرك عن الكثير من ما تعرفه في الحياة: عن الشقاء والطموح والقلق والرغبة في التعبير من خلال الفن، تداعيات الماضي عندما تطارد الحاضر، والصراع الداخلي الذي ينتاب الكاتب ويجعل شخصياته الخيالية تصبح مثل أفراد عائلته، يخشى أن يتخلى عنها بسهولة لغيره لكي يقوم باعادة تشكيلها وإلباسها ثيابا جديدة.. عن الصراع بين ما نتصور أنه “قيمة” راسخة في حد ذاتها، وبين الجديد الذي يدفعنا ولو رغما عنا إلى التخلي قليلا عن تشبثنا بتلك “القيم” العتيقة، وأن نصبح اكثر إنفتاحا على الأشكال الجديدة في التعبير الفني.. على السينما.

إن “إنقاذ مستر بانكس” فيلم عن الأدب وعن السينما، عن الكاتب وشخصياته، وعن التناقض بين عالمين مختلفين، الثقافة الإنجليزية التقليدية، والثقافة الأمريكية الحديثة، عن شخصين يتحدثان اللغة نفسها لكنهما يختلفان تماما في فهم مفرداتها وتفسيرها، وعن الماضي في إشتباكه الذي لا مفر منه مع الحاضر، وعن الحاضر الذي يريد الانفصال عن المستقبل، عن تقلص المسافة بين الخيال والواقع، وبين النفسي والخيالي والإنساني.
هذا باختصار فيلم عن عالم الفيلم.. عن هوليوود التي قد تلجأ إلى ما يتصوره البعض “أساليب” ملتوية، أو أنواعا من التحايل من أجل الحصول على ما ترغب ويرغب صناع الأفلام فى تحقيقه، عن النهايات السعيدة التي تخفي مشاعر مختلطة.
يروي الفيلم قصة تستند إلى أحداث وشخصيات ووقائع حقيقية، ويصور كيف تضطر الكاتبة الاسترالية الأصل باميلا ترافيرس التي انتقلت منذ عام 1925 للإقامة في لندن، إلى الموافقة على التفاوض من أجل بيع حقوق روايتها “ماري بوبنز” إلى شركة وولت ديزني الشهيرة في هوليوود، بعد عشرين عاما من الإلحاح من جانب ديزني وبعد أن اشتدت حدة أزمتها المالية.
في 1961 تسافر باميلا إلى لوس أنجليس حيث تلتقي هناك بوولت ديزني الذي يحاول إقناعها بتوقيع عقد بيع حقوق الرواية لنقلها إلى السينما. هنا يجسد الفيلم التناقض الكبير بين شخصية ديزني التي تتميز بالرحابة والدفء، وشخصية ترافيس المتعجرفة المتشددة التي تضع شروطا قاسية يجب أن يلتزم بها كتاب السيناريو من بينها عدم استخدام الأغاني والرسوم المتحركة وضرورة استبعاد اللون الأحمر تماما من الفيلم!
سيناريو الفيلم الذي اشتركت في كتابته سو سميث مع كيللي مارسيل، ينجح تماما في تجسيد ملامح الشخصيات، ولا يكتفي بتكثيف ذلك التناقض بين الشخصيتين الرئيستين بل يجعل من “باميلا” ضحية- على نحو ما- لماضيها، لطفولتها المعذبة. وعبر الفيلم نعود من خلال الانتقال المستمر من الزمن المضارع إلى الماضي وبالعكس، لكي نتعرف على الملامح التي شكلت شخصية باميلا وجعلتها على نحو ما أصبحت عليه الآن، كما نتعرف على عالمها ككاتبة كانت قد بدأت تكتب الشعر وهي في مرحلة الطفولة، ارتبطت كثيرا بوالدها مدير البنك الفاشل الذي يتم انزاله الى مجرد موظف في البنك بسبب إدمانه الشراب، ونهايته المأساوية بعد اصابته بمرض عضال وهو في الحادية والأربعين من عمره، كما نشاهد كيف ظلت محاولة أمها الانتحار غرقا محفورة في ذاكرتها.

بناء الفيلم
يعتمد البناء السينمائي إذن على ذلك الانتقال في الزمن بين طفولة باميلا، وحاضرها حينما أصبحت في أوائل الستينيات من عمرها (توفيت الكاتبة الحقيقية عن 96 عاما عام 1996 في لندن). ويعتمد تجسيد الفيلم على الميزانسين (مكونات البناء في الصورة وزاويا التصوير والتعبير بالألوان والموسيقى وحركة الكاميرا والممثلين في الديكور..) وعلى المونتاج الذي يرمي إلى استخراج أكبر شحنة عاطفية من داخل كل مشهد على انفراد، مع تصاعد التعبير عن المشاعر من خلال الإيقاع العام للفيلم.
غير أن الفيلم ليس فقط عن تلك العلاقة المعقدة بين باميلا ووالدها، بل وبينها وبين وولت ديزني، العلاقة بين الماضي والحاضر، وبين باميلا ونفسها في محاولتها تجاوز أزمتها، وبينها وبين السائق (هاري).. وهي علاقة مرسومة ببراعة كبيرة في الفيلم ولعلها من أهم ما يميزه دراميا.
باميلا تعتبر وولت ديزني مجرد رجل ثري، مشهور، سطحي يرغب مثل كل أقرانه من المشاهير الأمريكيين، في الحصول على ما يريد بأي طريقة، ودون مراعاة لمشاعر الآخرين. في حين أنه يحاول من البداية إغواءها بالحديث عن إسعاد الملايين من الأطفال والكبار في العالم عندما ينجح في انتاج هذا الفيلم الذي وعد بناته منذ عشرين عاما بتحقيقه. ويصل الأمر بينهما إلى أن ترفض باميلا توقيع العقد ويفشل ديزني في إقناعها بقبول أفكاره السينمائية (تلقي بصفحات السيناريو من النافذة)، مع تكرار التوتر والرفض من جانبها (ترفض الكثير من الأغاني وتتعامل بغلظة مع كاتب الأغاني والملحن وكاتب السيناريو)، وترفض زيارة مدينة الملاهي “ديزني لاند” محط اهتمام الملايين من البشر، وتتحتفظ على طريقة الحياة وسلوك الناس في لوس أنجليس، ترفض مناداتها باسمها الأول، وتشترط طريقة معينة في صب الشاي، رافضة استخدام كؤوس بلاستيكية.

بين الحاضر والماضي
ترتد ذاكرة باميلا طول الوقت الى الماضي، إلى طفولتها في استراليا.. إلى قصة عذاب والدها ومرضه ��م وفاته، كيف كان رجلا مرحا محبا لأسرته، ثم كيف أدى إدمانه الخمر إلى زيادة متاعبه في العمل، وحاجته للمال مع احتقاره له.. وتستخدم كل هذه المشاهد لتفسير ما أصبحت عليه باميلا الآن.. من أول فكرة احتقارها للمال، إلى كراهية فاكهة الكمثرى (تتخلص من بعض ثمار الكمثرى بالقائها من نافذة غرفتها في الفندق لتهبط في حوض السباحة!!).. إلى رفضها فكرة أن تصبح شخصية “ماري بوبنز” في الفيلم شخصية مرحة متفائلة تظهر “كمنقذة للأطفال”، أو أن يتم تصوير شخصية “مستر بانكس” كرجل جشع من رجال البنوك، لكن ديزني ينجح أيضا في فرض بعض ما يريده، لكنها تستسلم تدريجيا لوجود الأغاني والاستعراضات دون أن تتقبل أبدا فكرة وجود الرسوم.
في أحد المشاهد الرئيسية في الفيلم، نرى فريق العاملين الذين يجتهدون في كتابة وتلحين الأغاني ونسجها بالسيناريو، وهم يحاولون إقناعها بقبول الأغاني فينشدون لها أغنية يفترض أن تتردد على لسان مستر بانكس.. يتم تقطيعها عبر المونتاج الذكي في لقطات قصيرة تنتقل في ايقاع سريع يتطابق مع إيقاع الأغنية نفسها، من الغناء في الاستديو أمامها، إلى لقطات متبادلة لوالدها في الماضي وهو يردد كلمات تتطابق تقريبا مع كلمات الأغنية في ذلك الحفل الدعائي للترويج لعمل البنك الذي كان يمثله في ذلك الوقت من أوائل القرن العشرين، وهو المشهد الذي سبق أن شاهدنا تفاصيله بطريقة أخرى.

ترفض باميلا الأغنية وتقنعهم بأن شخصية مستر بانكس ليست على هذا النحو من الغلظة وتطالبهم بتصوير الجوانب الإنسانية في شخصيته، فيعود الفريق بأغنية جديدة في مشهد آخر لعله مشهد الذروة في الفيلم: أغنية ينشدها مستر بانكس.. ويرددها الجميع.. تعجب بها باميلا كثيرا.. وفي لقطات كلوز أب- قريبة نرى كيف تدق بقدميها مع إيقاع الأغنية، ثم يتصاعد الإيقاع وتتصاعد المشاعر مع تصاعد الإيقاع الموسيقي إلى أن تنهض باميلا وتندمج مع المجموعة ثم ترقص معهم في مشهد يدخل السعادة على نفوس الفريق، ويدفع المساعدة للهرع إلى مكتب وولت ديزني تخبره “بأنها”- أي باميلا ” وجدت أخيرا ما يرضيها”!
ولعل المشهد الأكثر تأثيرا في الفيلم هو مشهد المواجهة التي تحدث قرب النهاية، بين ديزني وباميلا في مسكنها في لندن بعد أن تغادر هوليوود، رافضة التوقيع على العقد، فيلحق بها ديزني بعد ساعات، وهناك يقص عليها كيف أنه لم يولد وفي فمه ملعقة من الفضة كما تتصور، وكيف كانت حياته قاسية في طفولته، ومن اين استمد شخصياته الخيالية، وكيف أنه وجد أن التعبير عن طريق الفن والإبداع الفني، أفضل وسيلة للتخفف من قسوة الماضي، وكيف أنه يسعد بإسعاد الآخرين. هذا اللقاء يمهد لموافقتها على انتاج الفيلم ثم حضور حفل عرضه الأول بعد ثلاث سنوات رغم عدم توجيه الدعوة لها خشية أن تفسد الحفل بإعلان رفضها للفيلم.
أنتج فيلم “إنقاذ مستر بانكس” إنتاجا مشتركا بين تليفزيون بي بي سي البريطاني، وشركة وولت ديزني الأمريكية، ولم يكن من الممكن إلا أن تكون شركة “ديزني” طرفا مباشرا في الإنتاج، أساسا، لأنها تمتلك حقوق رواية وفيلم “ماري بوبنز” وأغانيه وموسيقاه، مما دفع البعض إلى الاعتراض على الفيلم بدعوى أنه يضفي الكثير من الرقة والإنسانية على شخصية ديزني، في حين يجعل من “باميلا” شخصية فظة عديمة الحياء.. بينما الحقيقة أن المشاهدة الموضوعية للفيلم تجد أن الفيلم وضع كلا الشخصيتين ضمن “الحالة” الإنسانية بتعقيداتها وتناقضاتها. هناك مسحة حزن ما كامن داخل شخصية ديزني، وهناك الكثير من ملامح الضعف الإنساني داخل شخصية باميلا، تحاول هي إخفاءها عن طريق المغالاة في التعنت والتشدد، ولعل ما يعادل الجانب الجامد في شخصيتها، تلك العلاقة الجميلة التي نشاهدها في الفيلم بينها وبين السائق “هاري”. في البداية ترفض هي الحديث إليه، وتستنكر أسئلته عن حياتها الشخصية التي تراها متطفلة، لكنها تدريجيا تكتشف أنه رجل لطيف لا ينشد سوى تبادل الود الإنساني معها، يتعامل مع الجانب الإنساني المباشر فيها في حين أنه لا يعرف أصلا شخصيتها الحقيقة بل ولا حتى إسمها كما نرى، وهو ما يجعلها تقول له في النهاية “أنت الأمريكي الوحيد الذي راق لي”!

عن التمثيل
وإذا كان المخرج هانكوك (صاحب “الجانب الأعمى” The Blind Side”) ينجح في التعبير ببراعة عن المشاعر التي يمتليء بها سيناريو الفيلم، موازنا بين الشخصيات على نحو دقيق، مدققا في تصوير ملامح الفترة في مشاهد الماضي، فقد نجح أيضا في جعل فيلم “إنقاذ مستر بانكس” فيلما بارزا من أفلام التمثيل الرفيع. والحقيقة أن جميع من شاركوا بالتمثيل في هذا الفيلم يستحقون أن نرفع لهم القبعة: أولهم الممثل البريطاني الكبير كولن فاريل في دور والد باميلا، الذي يجعل من مشاهدة الأداء متعة، في تقلبه بين الحنو الشديد والرقة والدماثة كأب يعرف كيف يتعامل مع أطفاله، إلى رجل معذب يشعر بالتهديد في عمله، تتدهور حياته الاجتماعية والصحية كأنه شخصية تراجيدية تسير إلى مصيرها.
ولكن لابد من التوقف أمام العملاقين: توم هانكس وإيما ثومبسون، فالاثنان يخوضان مباراة مذهلة في الأداء، يؤديانها بكل سلاسة وبساطة رغم تعقيدات الدورين، ومن خلال حوار متدفق، بسيط، واضح ومعبر، دونما حاجة إلى الصراخ أو المبالغات. بطبيعة الحال تتقلب ثومبسون في أدائها بين التعالي والغلظة التي توحي بدرجة عالية من التوتر الداخلي، وبين الحزن الذي يعود إلى ذلك الهجوم الذي لا يتوقف من تداعيات الماضي.. بين العجز عن استيعاب الجديد، وبين النجاح أخيرا في تحقيق التواصل الإنساني البديع مع ذلك السائق الذي يقود السيارة التي خصصها لها ديزني، والذي يقوم بدوره الممثل العملاق بول جياماتي (طرق جانبية Side Ways) بهدوئه وقدرته على التحكم بدقة في كل عبارة من عبارات الحوار مع المحافظة على تلقائيته وبساطته الآسرة.

 


إعلان