نساء…المركز السينمائي المغربي

أحمد بوغابة / المغرب

شهر مارس هو مفتاح فصل الربيع حيث تسترجع الحياة بهاءها، في الطبيعة كما في شتى المجالات، وهذا الشهر (شهر مارس) هو أيضا شهر المرأة بامتياز، فالطبيعة المجردة كالمرأة تماما في العطاء والإنتاج والحب وإعادة دورة إنتاج الحياة. إنها هي الأصل. وتشاء الصدفة أن يجتمع الاحتفال بالربيع مع الاحتفال بالمرأة، بعيدها يوم 8 مارس من كل سنة، وهو رمزي في عمقه بكونه يوما للنضال الذي تم إقراره مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية بعمق تاريخي، الذي يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، باستحضار مكانة المرأة في المجتمعات الحديثة.

لطيفة نمير

وعادة ما تلتجئ وسائل الإعلام المتخصصة في السينما للحديث عن الممثلات أو المخرجات السينمائيات بينما ارتأينا أن نقف عند نساء هن في قلب السينما وشرايينها، لكنهن في الظل والأضواء معا، ويتعلق الأمر بنساء في أهم مؤسسة سينمائية بالمغرب، وهي مؤسسة المركز السينمائي المغربي، حيث قدمن الكثير للسينما في المغرب. منهن من غادرن المؤسسة إما إلى التقاعد أو من فضلن التقاعد النسبي أو المغادرة الطوعية، أو أيضا لاستشراف القطاع الحر.
وتجددت دماء هذه المؤسسة مؤخرا بعدد مهم من الشابات اللواتي لم يكتفين بمواقع “الكاتبات” وإنما يتحملن مسؤوليات مهمة ورئيسية. لكن هذا لا يعني أن مؤسسة المركز السينمائي المغربي قد حققت تعادلا منصفا في النوع الاجتماعي والعدالة في الفرص. إلا أنها بداية موفقة من خلال الخريطة العامة للهيكل التنظيمي الداخلي.
إن المرأة حاضرة بقوة في المركز السينمائي المغربي، ومنهن من هن أكثر فعالية ومصداقية وإنتاجا من الرجال (ليعذروني إخواني وأصدقائي الرجال على هذه الحقيقة الصادمة) وليس هذا تملقا لها وإنما حقيقة ساطعة لمن يدقق في التفاصيل.

الإنتاج والتوزيع… بيد النساء
يوجد بالمركز السينمائي المغربي عدد مهم من نساء إطارات يتحملن مسؤوليات في أهم المواقع التنظيمية الإدارية فضلا عن أخريات في مراكز أساسية وليس كما يتوهم البعض بالسيادة المطلقة للرجال. وما يسر في هذه التجربة الاستثنائية – الغير المرئية عند الكثيرين – هو أن أغلب تلك النساء في مستوى عال جدا من الاحترافية بجمعهن مع حسن السلوك والتصرف، إلا ربما إثنتين تشبعتا بالعقلية الرجولية معتقدتين بأن ذلك يجعلهما أقوى في نظر الغير. وتتوزع هذه النساء بين العمل الإداري وفي المختبر. ومنهن من انتقلن بين ضفتي المركز السينمائي المغربي إما بالترقية أو الرغبة في التغيير لامتلاك تجربة مغايرة أو لتكتمل بينهما، إلا أنهن تجدهن حاضرات بفعالية في المهرجانات التي ينظمها المركز السينمائي المغربي بالأساس (المهرجان الوطني ومهرجان الفيلم القصير المتوسطي) وكذا في بعض التظاهرات الأخرى التي ينتمين إليهن كعضوات بها (مهرجان سلا لسينما المرأة).
فالسيدة سلوى زويتن التي كانت سيدة الإنتاج في المركز لسنوات قبل أن تقرر مغادرته سرعان ما عادت إلى السينما ككاتبة عامة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش (في هذه السنة). ولم تترك النساء هذا الموقع بعد مغادرته من لدن السيدة سلوى زويتن حيث احتفظن بإدارتهن للقسم من خلال السيدتين خديجة فضي كرئيسة لهذا القسم، وتخضع لها مباشرة ثلاثة مصالح جد هامة في سيرورة السينما، المصلحة الأولى وهي مصلحة مراقبة الإنتاج تترأسها سيدة أخرى هي السيدة ليلى التونزي، مهمتها هي السهر على تسليم رخص مزاولة المهنة لشركات الإنتاج بالمغرب، وكذا البطائق المهنية للتقنيين، ورُخص التصوير سواء للمنتجين المغاربة أو للأجانب. أما المصلحتين الأخريين فهي تركز على الإنتاج والخدمات.

لبنى بورحيل ونازك وسهام مرجان

السيدة سعاد الإدريسي زيزي هي من معالم المركز السينمائي المغربي وأكثرهن تجربة بحكم الرصيد المهني الاحترافي الذي راكمته. وهي تترأس قسم التوزيع والاستغلال الذي عايشته من خلال تراتبية أوصلتها الآن لتكون هي صاحبة الكلمة الرئيسية فيه. فهي من الوجوه المعروفة جيدا عند الموزعين وأصحاب القاعات، ومؤخرا عند عدد مهم من المهرجانات المُقامة بالمغرب التي هي “تحت رحمتها” خاصة حين قرر المركز السينمائي المغربي بعدم السماح بعرض الأفلام دون الحصول كتابة على موافقة أصحابها، وهي خطوة جد إيجابية واحترافية إذ أوقفت “السرقات” التي كان يمارسها البعض في حق أفلام دون علم أصحابها.

تأنيث… الإدارة والمختبر
ومن النساء اللواتي يتحملن مسؤوليات متقدمة في المركز السينمائي نذكر أيضا السيدة سناء بنمويسة كرئيسة مصلحة المختبر. ولا داعي للوقوف عند تفاصيل هذه المسؤولية المعقدة وذات حساسية خاصة في المنتوج السينمائي وما تعرف من تطور تقني وتكنولوجي. وكانت من قبلها قد تحملت نفس المسؤولية السيدة سميرة حمير، وهي مخرجة سينمائية أنجزت عددا من الأفلام القصيرة والوثائقية الآتية إلى السينما من الأندية السينمائية، حيث فضلت أن تغير مسار تجربتها والبحث على إغنائها من خلال انتقالها إلى الإدارة في مجال القاعات السينمائية ضمن فريق السيدة سعاد الإدريسي زيزي، عكس السيدة جيهان بنمبارك التي انتقلت من الإدارة إلى المختبر لتقترب أكثر من الصورة السينمائية في تشكيل جزئياتها. ويكمن ذكاء هذه النساء في تأقلمهن السريع مع الوظائف المختلفة والانتقال بينها بدون صعوبة بل العطاء فيها بغزارة فيكون إنتاجهن غني ومثمر قد تعتقد أنها بدأت فيه منذ البداية.
ونجد أيضا في المختبر نساء أكدن على احترافيتهن وكعبهن العالي كالسيدتين لبنى بورحيل ولطيفة نمير. هذه الأخيرة التي تشتغل في المونتاج قد أصبحت صديقة لكثير من هواة السينما بالمغرب. فهي حاضرة في كثير من الورشات المُنظمة في المهرجانات لصالح الهواة والمبتدئين في تقنية المونتاج الكلاسيكي والرقمي التي تشرف عليها شخصيا. تترك السيدة لطيفة نمير انطباعا جيدا عند أولئك الشباب بفضل أسلوبها البيداغوجي الذي يجعلهم يستوعبون خصوصية وقيمة المونتاج وفي ذات الوقت تربيهم على حب السينما. تتمتع لطيفة نمير بهدوء استثنائي عِلْما أن المونتاج يثير الأعصاب لأسباب عدة ليس مجال الحديث عنها الآن.

سلوى زويتن، جيهان بنمبارك وحسنية رحو

ففضلا عن الأسماء المذكورة أعلاه توجد أيضا أسماء نسائية أخرى كثيرة بالمركز السينمائي المغربي موزعة على مختلف الأقسام والمصالح، بين الإدارة والمختبر، يصنعن مجد هذه المؤسسة الذائعة الصيت – داخليا وخارجيا – حتى لا يتوهم بعض الرجال أنهم قوامون وحدهم على الشأن السينمائي بالمغرب. وهن كلهن في ريعان شبابهن: سهام مرجان وحسنية رحو وأمينة لهراوي وفاطمة الروادي ونعيمة زرياح وفاطمة العلمي وحليمة بوستة وحجيبة الشراف وحنان فضلي وعائشة بنطاهر وزينب الفيركازي ومريم السعدي وشيماء لعليوي ولمياء الشدي.

الأنثى هي الأصل… في النجاح
وهذا الطاقم النسائي ليس معزولا أو متروكا في الظل بل هن في الواجهة الأمامية الفعلية سواء بالمهام التي يتحملنها – كما ذكرت سالفا – أو كمُسَاعِدَات (أرفض استعمال صفة “الكاتبات” لأن هذا الوصف غير صحيح ومُتجاوز) أو كإطارات أساسية في هذه المؤسسة. وحتى النساء المكلفات بالتنظيف ينشرن البهجة في ممرات المركز لأنهن جزء من الكل، متساويات في العطاء حسب التخصص. وهذه الروح الجماعية الموجودة بين نساء المركز السينمائي المغربي هي استثنائية في الإدارات والمؤسسات المغربية التي تجرني إليها المهنة أو الأغراض الخصوصية. وربما هذا هو سبب نجاح التظاهرات السينمائية، سواء المهرجانات أو اللقاءات المهنية، التي ينظمها المركز السينمائي مقارنة مع مؤسسات أخرى. ينتقل الطاقم النسائي بالمركز السينمائي المغربي إلى خارج أسواره للمشاركة الفعلية والملموسة في ترجمة برامجه على أرض الواقع بحيوية، وبذلك يستغني المركز السينمائي على توظيف الشركات المتخصصة حيث هذه الأخيرة لم تصل بعد في المغرب إلى مستوى الاحترافية التي تملكها نساء المركز، لأنهن لسن مجرد موظفات أو عاملات في مؤسسة سينمائية، ولكن لأنهن لَهُنَّ دراية سينمائية وأيضا بالمجتمع السينمائي المغربي، ويدركون خصوصية عملهن. لقد اكتسبن تجربة ميدانية فتسير الأمور سلسة في المهرجانين الرئيسين للمركز وفي لقاءاته المهنية.
كما تتمتع أغلبهن بثقافة عالية ومنهن من تتحدث وتكتب بأكثر من لغتين أجنبيتين بطلاقة مما يُسهل التواصل، إضافة إلى حسن خُلُقِهِنَّ وابتسامتهن الراقية بصدقها لا يشوبها النفاق العابر للحظة. ملتزمات بالعمل والمهام المنوطة بهن وفي ذات الوقت نجد أغلبهن منخرطات في العمل النقابي داخل مؤسستهن. هذا التكامل المهني والإنساني والنقابي النضالي يفرض عن من يعرفهن عن قُرب أن يحترمهن ويقدرهن ويضعهن في رتبة راقية، في مصاف الأخت والإبنة والزوجة.
ولا بأس من الإشارة أن بعضهن لهن علاقة وطيدة بالمركز السينمائي المغربي منذ صغر سنهن، منذ طفولتهن، وربما لم يسبق لهن أن اشتغلن في مؤسسة أخرى غير المركز، إذ يمكن القول أنهن كبرن في هذه المؤسسة ويعرفن بعض الوجوه الإدارية والفنانين من المخرجين والمنتجين والممثلين منذ الصغر بحكم أن أبائهن أو أمهاتهن أو هما معا قد اشتغلوا من قبل في المركز السينمائي المغربي، فكان حلمهن ورغبتهن أن يلتحقن هن أيضا بفضاء أحببناه واستأنسن به دائما وأبدا، إنه يعتبرونه جزء منهن لذلك يتفانين في خدمته دون إكراه من أحد. لكن للأسف بعض العيون تراهُن من منظار خارجي فيعتبرهن مجرد موظفات دون أن يجتهدوا في استيعاب خصوصية أغلبهن على أنهن سينمائيات بالفطرة وبالمولد. كان بالإمكان لبعضهن أن يهجرن المركز السينمائي المغربي للعمل في شركات خاصة، أو تأسيسها كما فعلت زميلات لهن من قبل، لكن ليس من أولوياتهن ولا في أفق قريب.
أنا الذي عايش المركز السينمائي المغربي بشكل مباشر لأزيد من 35 سنة ( أوضح أنني لم أشتغل قط في حياتي بهذه المؤسسة لكن بحكم مهنتي كصحفي متخصص في السينما وناقد سينمائي أنني احتكت بها طيلة المدة المذكورة) أن وضع المرأة تغير فيه كثيرا في السنين الأخيرة حيث نجحت النساء في تأنيثه “إلى حد ما”، وأصبحنا نرى بصمات جماليتهن في أركانه وممراته وفي إدارته. لقد نجحت نساء المركز السينمائي المغربي بإعطاء طابع إنساني لمؤسستهن التي كانت إلى الأمس القريب “قلعة عسكرية”، خاصة وأنها كانت إداريا خاضعة لوزارة الداخلية لأكثر من عقد من الزمن. وسبب نجاحهن هو تواضعهن بالتأكيد، وهذا التواضع الجميل يعتبره البعض – محدودي الأفق والنظر – بأنهن مجرد “موظفات” لأنهم لم يتساءلوا ليعلموا أنهن أمام إطارات في مستوى عال من المعرفة والأخلاق والوفاء. فهل يا تُرى يمكن لإحدى نساء المركز السينمائي أن تكون كاتبة عامة لهذه المؤسسة؟


إعلان