الوثائقي الجديد “سالنجر”: بين العبقرية والجنون!
أمير العمري
لم تعرض النسخة الكاملة (التي أضيفت لها 15 دقيقة) من فيلم “سالنجر” Salinger إلا في الحادي والعشرين من شهر يناير من العام الجاري. وكانت نسخة أولية قد عرضت في دور العرض الأمريكية في الولايات المتحدة في الخامس من سبتمبر 2013، بعد أن كان من المقرر- حسب ما سبق أن أعلنه مخرج الفيلم شاين ساليرنو Salerno- الذي قضى تسع سنوات في إعداد هذا الفيلم- ألا يعرض الفيلم قبل عام 2015. لماذا؟ ربما لأن الكاتب الأمريكي الشهير جيري سالنجر- الذي توفي عام 2010 عن 91 عاما- أوصى بعدم نشر عدد من أعماله التي كتبها ولم يسبق لها أن نشرت، قبل هذا العام. وفي قول آخر فقد أصر سالنجر على عدم نشر أي عمل من أعماله غير المنشورة قبل مرور خمسين عاما على وفاته!
هذا الفيلم الوثائقي الجديد الذي أخرجه شاين ساليرنو ويثير حاليا الكثير من ردود الفعل المتضاربة في الولايات المتحدة، يسعى إلى إكتشاف ما خفي عن عالم وحياة الكاتب الأمريكي الذي تحول إلى أسطورة من أساطير عصرنا، فقد إختار منذ وقت مبكر الابتعاد تماما عن الشهرة والأضواء بل وعن الظهور العلني رغم موهبته الكبيرة، وآثر الانعزال عن العالم في مكان ما على الشاطيء في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، يقضي معظم وقته في الكتابة على آلة كاتبة عتيقة داخل كوخ خشبي ملحق بمنزله لدرجة أن زوجته الثالثة “كوليين أونيل” التي تزوجها عام 1988 وظلت زوجة له حتى وفاته، لم تكن تراه سوى لماما!

هذا فيلم من أفلام السيرة الشخصية “البيوجرافي” الفريدة، فهو يعتمد على الأبحاث المتعددة المكثفة التي أجراها المخرج- الكاتب وفريق مساعديه عبر سنوات للعثور على مادة تثري الفيلم، وقد عثروا بالفعل على عشرات الصور والوثائق والخطابات، منها صور فوتوغرافية تظهر للمرة الاولى لسالنجر، بل ولقطات مصورة نادرة اختطفت اختطافا له.. ومعروف أنه لم يكن يسمح بالتقاط أي صور له بل وقد أصر- كما يروي أحد الناشرين في الفيلم- على استبعاد صورته من على ظهر غلاف كتابه الأول، وظل يرفض الإدلاء بالمقابلات الصحفية والظهور في وسائل الاعلام.
شهادات
يقدم الفيلم شخصية سالنجر من الداخل، من خلال عشرات الشهادات للكثير من الشخصيات التي عرفته وارتبطت به بشكل أو بآخر، في شبابه، منها شهادة مصورة لابنته مرجريت (من زوجته الثانية).. وينجح المخرج في بناء صورة تفصيلية لعالم سالنجر في علاقته بعالمه الأدبي ككاتب مرموق للقصة القصيرة والرواية، رغم أنه لم ينشر له سوى رواية وحيدة هي “الحارس في حقل الشوفان” أو The Catcher in the Rye التي ذاعت شهرتها كثيرا وترجمت الى أكثر من ستين لغة عالمية منها اللغة العربية (ترجمها الروائي الفلسطيني الراحل غالب هلسا).
هذه الرواية تحديدا التي صدرت عام 1951، أصبحت أيقونة من أيقونات الأدب لدى أجيال من المراهقين الشباب في الولايات المتحدة والعالم، وظلت تطبع ويعاد طبعها منذ صدورها (توزع منها سنويا 250 ألف نسخة)، واعتبرت “مانيفستو” للغضب والتمرد على القيم التقليدية للمجتمع، وكان بطلها يرمز لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الرافض للزيف الاجتماعي.
في أحد مشاهد “الفوتومونتاج” في الفيلم نرى تأثير هذه الرواية من خلال فلاشات سريعة مصورة مع عدد كبير من الشباب من جنسيات مختلفة، وكلهم يعبرون عن إعجابهم الكبير بالرواية ومؤلفها الذي أصبح على نحو ما أيضا، شخصية جاذبة للفتيات!
وقد تردد أن هذه الرواية كانت السبب في قرار سالنجر اعتزال الحياة والعيش في بقعة نائية معتكفا وراء أسوار محصنة محتميا بمجموعة من الكلاب، يقاوم- عن طريق فريق محاميه- كل محاولة لإعادة نشر أعماله أو تحويلها للسينما أو حتى نشر أي كتاب يروي سيرة حياته، أو أي مادة صحفية يعتبرها مسيئة لصورته أو تكشف جانبا لا يريده من حياته الشخصية.
يظهر في الفيلم عدد كبير من أصدقاء وصديقات سالنجر في الماضي، كما يظهر عدد من الممثلين مثل فيليب سيمور هوفمان وجون كوزاك ومارتن شين، والكتاب مثل غور فيدال وتوم وولف، وكتاب السيناريو والناشرين والصحفيين وكتاب سيرته الشخصية وغيرهم كثيرون. ويبلغ عدد الشخصيات التي تظهر في الفيلم 150 شخصية.
تجربة الحرب
يتوقف الفيلم أمام علاقة سالنجر العاطفية بأونا أونيل، إبنة الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير يوجين أونيل التي قابلها في بداية الأربعينيات ووقع في غرامها لكنها تركت نيويورك وقررت البحث عن فرصة للتمثيل في هوليوود، وهناك ارتبطت بشارلي شابلن وتزوجته عام 1943 رغم أنها كانت في الثامنة عشرة وكان شابلن في الرابعة والخمسين من عمره. ويناقش الفيلم التأثير المدمر الذي تركه تخلي أونا أونيل عن سالنجر ، ثم سرعان ما جاءت التجربة الأكثر ثراء في حياته، والأكثر تأثيرا على كتاباته، وهي تجربة مشاركته في الحرب العالمية الثانية وتحديدا في غزو الحلفاء لفرنسا وتحريرها.. وهنا يقدم الفيلم الكثير من اللقطات النادرة، من الصور الفوتوغرافية أو الشرائط المصورة بالأبيض والأسود، التي يظهر سالنجر في بعضها مع زملائه، ويعود لكي يستمع لشهادة أحدهم ثم لشهادة إبن لزميل آخر، وهو يروي كيف كان يشعر سالنجر، ونعرف أنه كان يقضي ساعات داخل الملجأ متحصنا يكتب روايته التي ستحقق له الشهرة والمجد الأدبي فيما بعد “الحارس في حقل الشوفان”. هنا يستخدم الفيلم أيضا المادة التسجيلية المصورة لغزو نورماندي ثم الفرنسيين في شوارع باريس عام 1944 وهم يحتفلون بالتحرير ويقابلون قوات الحلفاء بالورود.

لكن سالنجر يمر بتجربة موت الكثير من زملائه من حوله، ويشهد على معسكرات الاعتقال الجماعية الألمانية وما شاهده من فظائع داخل معسكر داخاو تحديدا الذي دخله مع القوات الأمريكية. لقد تركت تلك الفظائع تأثيرا كبيرا عليه وعلى أدبه. تقول مرجريت إبنة سالنجر في الفيلم إنه قال لها: من المستحيل أنه يتمكن أنفك أبدا من التخلص من رائحة اللحم البشري المحترق!
يضع المخرج أمامنا على الشاشة الكثير من الإقتباسات المصورة من صفحات قصص سالنجر القصيرة الشهيرة، ويربط بين بعض الأوصاف التي تتردد فيها وبين ما شهده في حياته. ونعرف أيضا أنه ألحق بالعمل في الاستخبارات المضادة لجمع المعلومات عن الفرنسيين والثقافة الفرنسية وحياة الناس في باريس وكيف يفكرون تمهيدا لدخول الحلفاء، وكيف أنه في هذه الفترة سعى للتعرف على الكاتب الكبير إرنست هيمنجواي وقدم له بعض كتاباته التي أثنى عليها هيمنجواي، وكان يعمل مراسلا حربيا في العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت.
في ألمانيا يلتحق سالنجر بالعمل في مشروع إستئصال النازية، ويروي الفيلم من خلال الشهادات والصور، كيف وقع في غرام فتاة ألمانية قيل إنها كانت ضالعة في النشاطات النازية هي “سيفيا ويلتر” ثم تزوجها وأتى بها إلى الولايات المتحدة لكن الزواج انتهى بعد أقل من ثمانية أشهر، وكيف أنه وصفها فيما بعد بأنها “شريرة” أرادت تدمير روحه!
خيانة سالنجر
ومن أهم الفصول التي نشاهدها في الفيلم الفصل الخاص بصديقة سالنجر: جويس ماينارد.. وهي الفتاة التي نشرت لها مجلة “نيويورك تايمز” الأمريكية عام 1972 مقالا اعتبرته معبرا عن غضب الشباب في ذلك الوقت كما نشرت صورتها على الغلاف، وكانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها، وقد جعلها هذا تصبح من مشاهير المجتمع، وكيف أنها تلقت خطابا من سالنجر يبدي فيه إعجابه بها ويحذرها من الوقوع في إغواء الشهرة، ثم تطور الأمر إلى علاقة عاطفية وأدبية، فقد أقامت معه في منزله، وكان قد انفصل عن زوجته الثانية كلير دوجلاس التي كانت تشكو من العزلة التي فرضها عليها عن العالم.
تقول جويس إنها قضت معه حوالي 16 شهرا، وإنه قرر الانفصال عنها بعد أن اتهمها بخيانته بأن أعطت رقم هاتف منزله لصحيفة نيويورك تايمز. وقد عاد فاتهمها أيضا بخيانة أسراره بعد أن نشرت كتابا بعنوان “حارس الحلم” روت فيه قصتها مع سالنجر، كما كشفت عن الرسائل التي كان يكتبها لها.
يكشف الفيلم من خلال روايات الأصدقاء والصديقات أن سالنجر كان مولعا بوجه خاص بالفتيات الصغيرات، لأنه- حسب ما تقول صديقة قديمة له- كان يستطيع أن يترك تأثيره عليهن في حين أنه لم يكن يثق في قدرته على التأثير على فتيات أكبر من سن المراهقة. وهو لم يمانع من العيش مع جويس بينما كان في الرابعة والخمسين من عمره. وتقول ابنته في الفيلم إنه قال لها إن سبب تركه جويس أنها كان ترغب في إنجاب أطفال، بينما كان يرى أنه لا يمكنه أن ينجب وهو في ذلك العمر وقتها.

أحداث تاريخية
يعتمد الفيلم أيضا على إعادة تمثيل الأحداث وعلى الوثائق المصورة والصور والشهادات ويستخدم الكثير من المواد التسجيلية من الأرشيف ومن المحطات التليفزيونية، لكنه يتوقف أمام بعض الأحداث التاريخية الشهيرة التي ارتبكت بشخصية سالنجر وتأثيره الأدبي على غيره. فالفيلم يقدم ثلاث حالات تجسد هذا التأثير منها محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريجان عام 1981، تحت تأثير رواية “الحارس في حقل الشوفان” تحديدا من طرف شاب قيل إنه أراد أن يثير إعجاب الممثلة الشابة وقتها، جودي فوستر، ثم إغتيال نجم فرقة البيتلز الشهير جون لينون عام 1980 على يدي شاب يدعى مارك شابمان، الذي يظهر في الفيلم ليقول إنه قتله تأثرا برواية سالنجر فقد كان يرى أنه يرمز إلى التفاهة والشهرة الزائفة، ويضيف إنه كان يمسك في يد بالمسدس الذي أطلق منه الرصاصات القاتلة على لينون وفي يده الأخرى رواية “الحارس في حقل الشوفان”!
تقول الصحفية بيتي إيبس إنها نجحت عام 1980 في الوصول إلى لقاء سريع مع سالنجر بعد أن ذهبت إلى المنطقة التي يقيم فيها في نيوهامبشير وتركت ورقة في مكتب البريد تعبر فيها عن رغبتها في لقائه، وقد حرصت على أن يكون اللقاء في مكان عام (عبر الجسر المغطى الذي نراه في الفيلم) لكي لا يقال إنها إستغلته باي شكل من الأشكال. ونرى مجموعة من الصور الفوتوغرافية لهما معا. وتقول هي إنه عندما عرف أنها تكتب نصحها بضرورة ترك العمل الصحفي على الفور، قائلا إن أسوأ شيء بالنسبة لأي كاتب هو النشر، وإن الكاتب يجب أن يكتب لنفسه فقط، وأن أهم شيء هو أن يكتب فقط ويستمر في الكتابة مؤكدا أنه يكتب يوميا!
لم ينشر جيري سالنجر شيئا على الإطلاق منذ 1965 وحتى وفاته في 2010. ولكن على حين أنه يعتبر نفسه متمردا كبيرا على الشخصيات التي تستمتع باثارة الجدل حولها في الإعلام، وتبحث عن الشهرة الزائفة، يرى البعض أن سالنجر نفسه- بعزوفه المتعمد عن النشر والظهور وعزلته المثيرة- نموذجا لذلك الزيف الاجتماعي نفسه، وتلك الرغبة في لفت الأنظار وإثارة الجدل الذي لا يتوقف أبدا. ولا نظن أنه سيتوقف حتى بعد وفاته، وما الفيلم الجديد إلا البداية! .