صدمة المسرح الأفغاني في وثائقي يوناني

قيس قاسم

آنيتا باباثنسيو، ممثلة مسرحية ومخرجة يونانية قادها مشروع ثقافي إلى العاصمة الأفغانية كابول، وهناك، حيث كان مقرراً لها أن تقدم محاضرات تطبيقية في قسم المسرح التابع لكلية الفنون الجميلة، التقت مجموعة طالبات أفغانيات سردن لها قصصاً عن حياتهن وعشقهن للمسرح الذي سبب ويُسبب لهن مشاكل لا تحصى ويُعرض حياتهن لمخاطر قد يكون الموت من بينها!  فقررت من هول ما سمعت تسجيلها في وثائقي أرادته صادماً، لمن لا يعرف البلاد وأحوالها، مكتفية بما يوفره لها الوقت ومساحة حركتها المحدودة لإنجازه متجنبة، رغم كل الظروف الصعبة التي أحاطت عملها، عبور فيلمها حدود الوثائقي إلى الريبورتاج التلفزيوني.

ملصق الفيلم

وزعت صاحبة “اللَعب بالنار” وثائقيها، الذي عرض في الدورة 16 لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية، على مستويات عدة، وعبرها حاولت تقديم جوانب جديدة، التقطتها عيناها وسجلها وعيها لأول مرة في بلد لم تعرف عنه الكثير، وبخاصة عن مورثه الثقافي الذي طمسته الحروب الأهلية ورسخت وسائل الإعلام صورة نمطية عنه تُولد في الذهن انطباعاً بأن الحياة فيه خاوية والموت المجاني سمتها اليومية الوحيدة!. المكان.. كان من بين المستويات المهمة، التي شجع انخفاض سقف توقعات مخرجته اليونانية من زيارتها للبلد، على بروزه بشكل استثنائي، ولهذا السبب كانت كابول نفسها من أشد الصدمات قوة لبصرها لأنها لم تتوقع وجود ما رأته  فيها من مظاهر مدنية فيها  الكثير من مشتركات المدن الحديثة التي تعرفها: عمران وبنايات، شوارع مكتظة بالسيارت، جامعات وطلاب يدرسون فيها علوماً وفنوناً. صدمة المكان الأولى امتصها وعيها بسرعة ثم انتقل إلى منجزها البصري، بوصفه شرطاً وثائقياً، لا يستقيم نقل الأحداث والشخوص التي تتحرك وسطه من دون الإحاطة بتفاصيله وأجوائه. لم تفتعل كاميرتها مشاهد يومية بل صورت ما وقع أمامها من تفاصيل الحياة في المدينة وحركة ناسها ما سهل على مشاهدها فهم ما سيليها من مستويات على صلة مباشرة بفكرة الفيلم، وأكثرها مدعاة للانتباه علاقة نساء المدينة بالمسرح ومن بينهن المممثلة طاهرة هاشمي التي اتفقت معها المخرجة على لقاء مطول حال وصولها كابول ولكنها اختفت فجأة!
اختفاء الممثلة قاد الوثائقي إلى تشعبات ودروب كثيرة، خاصة وأن المخرجة كانت قد رتبت لمقابلتها الكثير من الأسئلة المتعلقة بتجربتها في المسرح ونجاحاتها التي تكللت  بفوزها بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كابول المسرحي وقيامها بتأسيس أول مسرح نسوي في البلاد. قصة طاهرة وما سيليها من تفاصيل ستقوم المخرجة بالتعليق عليها لتمد من خلالها الوثائقي بعناصر شخصية يغدو بفضلها مزيجاً من انطباعات مخرجته وأحداثه المستقلة عنها.
من خلال السؤال عن طاهرة ظهرت ممثلات غيرها تشاركن معها نفس المصير: حب المسرح. حب شبه مُحرم على الفتيات في بلد ذكوري بامتياز ومع هذا كانت كلية الفنون ومعهد المسرح تشهد عروضاً تقوم ممثلات بأداء بعض أدوارها فيُعرضن حياتهن ومستقبلهن بسببها للخطر. في مشهد “مسرحي” ملتبس يغدو هذا المستوى الذي يعرض الوثائقي تفاصيله غير مفهوم كلياً. في صفوف المعهد تؤدي بعض طالباته أدواراً تجريبية بشروط تعجزية لا تفهمها الإغريقية الآتية من موطن المسرح، من بينها عدم السماح بأي اقتراب جسدي بين الممثل والممثلة ولا القبول بوجود تعابير عاطفية هذا غير تقييد النص بضوابط تفقده الكثير من معناه. شروط لا تتوقف عندها الممثلات كثيراً فبالنسبة إليهن المهم الاستمرار في الدراسة وتقديم العروض والأهم تجاوز الصعوبات والتخلص من الضغوطات الاجتماعية المسلطة عليهن، فالكلام المشاع عنهن مخز والأهل يعاملونهن كخارجات عن الطريق وكثيراً ما يُخيرونهن بين دراسة العلوم أو ترك المعهد إلى الأبد.

آنيتا باباثنسيو

في محاولة للإحاطة بعالم المسرح الأفغاني ينفتح الوثائقي على شخصيات قدمت حقائق مدهشة ذات صلة بتاريخ البلاد ومسرحها، الذي شهد فترات ازدهار كان يقدم خلالها عروضاً يومية تحظى بقبول وحب الجمهور، واستمر في تقديم الجديد  حتى آواخر التسعينيات عندما اشتعلت الحرب الأهلية وجاءت “طالبان” غلى الحكم فغدا الذهاب إلى المسرح جنوناً، في ظل وجودهم في السلطة وفي ظل ظروف عامة كان العنف فيها يخيم على كل زاوية من زوايا المدينة. إذن كيف نفسر حماسة وإصرار الطالبات. هل هو نوع من الجنون أم أنه مغامرة  تشبه مغامرة اللعب بالنار؟ أسئلة وقفت أمامها اليونانية حائرة وأرادت إيجاد أجوبة معقولة عنها عبر التقرب أكثر من الفتيات أنفسهن. اختارت الحديث مع منيرة أخت طاهرة، فما زال غياب الأخيرة محيراً ويدفعها للبحث. من تشعبات الحديث فهمت بأن أختها موجود الآن في برلين وأن أهلها طلبوا منها عدم العودة لتلقيها تهديات بالموت بعد عرض مسرحيتها “الجدار” في التلفزيون. لقد اعتبر المحافظون ظهورها أمام الناس وهي تؤدي دور المهرج بحركاته البهلوانية والمضحكة خروجاً عن التقاليد والأعراف ولا بد من إيقافها نهائياً. حكاية طاهرة  وعائلتها تفسر ما كانت تظنه المخرجة جنوناً أو لعباً بالنار. فالعائلة وخلال الحرب الأهلية هاجرت إلى إيران وهناك أرادت طاهرة دراسة التمثيل ولم تنجح، لأن الظروف في إيران لا تسمح  للمهاجرة أن تكون ممثلة فقررت العودة إلى كابول لتدرس الفن في جامعتها! لم تتوقف حماستها فأسست مسرحاً خاصاً، يقدم عروضاً للكبار والأطفال ويضم قسماً لإنتاج الأفلام السينمائية القصيرة. موهبتها وعشقها للمسرح كان وراء عودتها وهذا ما يفسر وجود غيرها رغم كل التهديدات. إنها الصدمة القاسية للإغريقية المُشبعة بتاريخ مسرحي حافل، جاءت في زيارة لبلاد يتعرض من يشتغل بهذه المهنة للموت والازدراء. أي ثمن تدفعه الفتيات من أجل عشقهن لفن تأسست ملامحه في بلادها ومنها انتشر في بقاع الأرض وازدهر؟ أسئلتها عن الأثمان الغالية قادتها إلى مقابلة عدد من الفتيات صرحن لها بخطورة وضعهن وخشيتهن من الموت بعد قتل ممثلة كانت تعمل مع طاهرة. لقد قتلها مجهولون بعد خروجها من المسرح مباشرة، وهناك غيرها خُطفن من الشارع وانقطعت أخبارهن.

صورة مركبة للعرض وجمهوره

من مفاجآت “اللعب بالنار” أن والد طاهرة كان من بين المتحمسين لاستمرار بناته في التمثيل على النقيض من الأغلبية التي رفضت بشكل تام ممارسة الفتيات لهذا “العبث” كما تجلى في لقاءات رتبها الوثائقي مع مجموعة أشخاص عاديين في شوارع كابول وكانت أجوبتهم قد اجتمعت أغلبيتها على أن: المرأة للبيت وتربية الأولاد ولا يصح أن تقف مع رجل غريب فكيف إذا سمحت له بمسها؟. تناقض يكشف عمق الهوة  بين عشاق المسرح والموقف الاجتماعي منه، ويفسر بدوره مخاوف الفتيات وتفكير بعضهن بترك العمل فيه رغم تطمينات أساتذة المعهد لهن وتكرار دعم الحكومة للعمل فيه باعتباره فناً لا يحرمه الإسلام ويساهم في توعية الناس. حيرتها وصعوبة تفسير مما تراه أمامها دفعها إلى المضي أكثر في تقصي الموقف من المسرح ولماذا يكُن الناس له كرهاً ما دام كان معروفاً عندهم منذ فترات طويلة؟ إلحاحها قاد الوثائقي للبحث في الموقف السياسي وتعارضاته مع التقاليد الاجتماعية الثقافية الأفغانية. فالكثير من الحركات السياسية الدينية الناشطة على الساحة الأفغانية تقوّي موقفها من خلال التقليل من شأن المرأة عموماً واعتبار كل نشاط توعوي مسعى للحد من نفوذ القيم الإسلامية والأخلاقية!؟. لقد تعكزت تلك الحركات على نظرية “قداسة” المرأة وعدم السماح للمسرح والسينما  بتنجيسها ولهذا بررت وقوفها ضدهما، يقابل موقفهم المتشدد قبول ضمني للمسرح بين الأوساط المتعلمة وحماسة شديدة له بين الفتيات يصعب تصديقها ما أذهل الإغريقية وجعلها أكثر التصاقاً بقضية الممثلات وطالبات الفنون الجميلة وعليه وبدلاً من أن تعود إلى أثينا قررت زيارة طاهرة في برلين لتتعرف على ما تصنعه هناك. كان لقاءً مليئاً بالحيوية التي نقلتها غليها الشابة الطموح وهي تقوم بالتدرب على عرض مسرحي جديد باللغة الألمانية يحكي عن تجربتها وتجربة عاشقات المسرح، توقعت له أن يحدث صدمة عند عرضه كالتي يحدثها الوثائقي “اللعب بالنار” عند مشاهديه.


إعلان