مهرجان “سينما الواقع” في باريس،
ندى الأزهري
” همس المدن” للعراقي كاظم عبد فيلم من ثلاثة أجزاء منفصلة، مترابطة بصريا. تربطها راهنية اللقطة، حرارتها، احساس مصورها.
على مدى عشر سنوات صور عبيد في ثلاث مدن شرقية، من رام الله إلى اربيل مرورا ببغداد. عاش مؤقتا في تلك المدن وصوّر حياة الشارع السفلي، من خلف نافذة، من على شرفة أو سطح بناية… دائما من علو. جمع الصور يوما فأحس فيها “خصوصية هذا العالم القريب من قلبه”، وكان الفيلم. مقطوعة موسيقية لا حوار فيها ولا سرد. فقط رصد يثير لدى المتلقي أحاسيس عميقة.

هذه “رام الله” مصورة وقت الانتفاضة الثانية ما بين 2000 و 2003 . قبل حظر التجول في شارع نظيف خال إلا من بضعة عابرين: بائع كعك يترافق صياحه مع صياح الديكة، تلاميذ قلائل، بائع جرائد يستقر بتراخ فيما مكانس القشاشين تمر على أطراف الأرصفة، دهان يطلي اشارة مرور بالأحمر والأبيض… من حين لآخر يحدث طارئ: سيارة عرس، مدرعات المحتل تعلن بدء حظر التجول… وتسمع أصوات: اطلاق رصاص وتحطم زجاج، المحتل يعلن بدء منع التجول، وصوت مطر بدأ يهطل…
بغداد مسقط رأسه الذي غادره قبل ثلاثين ستة مصورة تحت الاحتلال الأمريكي( من 4004 وحتى 2012)، كأننا لم نخرج من رام الله إلا ليزداد “الهمس”، وليمتلئ المسرح اكثر بأبطاله. عمال وآلات وجنود وعابرون… بائعو الكعك هم أيضا هنا على عرباتهم، قشاشون ومتسولة عجوز تنتهز فرصة توقف السيارات أمام الاشارة الحمراء وتلاميذ، ورشة بناء وسقالات خشبية هشة، بنّاء لايبدو مهتما بخطر ما يقف عليه، و عمال يحفون أحجار بأدوات بدائية… صور لا ينفع معها الكلام، إنها السينما الحقيقية التي تستغني بالصورة عن أي كلام، وماينفع هذا مع صورة عامل يمسح رموش ابيضّت من غبار حف الأحجار، ورجل غافٍ على كرسي مائل؟
تتابع العدسة بناء بحرة في الشارع على مدى ايام او شهور، لا يهم. يبدو الزمن واقفا مع تكرار مجرياته، البحرة شُغَلت اخيرا ولم تنجو من بؤسها إلا بلعب الفتيان فيها بمرح وبهجة. لمحات أخرى من الأمل مع شباب يدبكون في الشارع و زراعة نخلات، هنا فقط يخفت ” همس المدن” ليعلو صوت موسيقى نصير شمة.
لقد التقط المخرج برهافة بالغة حيوات الناس اليومية، انفعالات الوجوه المتعبة المبتسمة. زوايا تصوير اختيرت بحس عال كتلك اللقطة التي تبين علامات مرور العجلات على أرض مبللة، وأخرى لشرطي مرور تائه وسط معمعة السير.. وثمة طرافة لا يخلو منها الشريط، فهذه لوحة “عراق، مستقبل واعد”! أو “حلوة الزهور” تكذبها كل الصور من دخان متصاعد في سماء المدينة، و مسلحون يطلقون الرصاص وسيارات اسعاف لا تكف عن الصراخ وهي تحاول اختراق الزحام. بغداد هي هنا ولا داع لكلام، أو لصور قتلى وشهداء…
ينتهي الشريط في اربيل((2002). هدوء نسبي. وهنا أيضا طنابر(عربات خشبية يجرها حمار أو حصان) وتزمير وطلاب مدارس…
وهنا أيضا أحد أروع مشاهد الفيلم. حين هطول المطر، لكل أسلوبه في الاحتماء: ركض، انتظار بصبر، انحناء لايجدي، أو خرقة لا تمنع، حيرة فتردد ثم اتخاذ قرار… صور تمس مشاهدها كما لا تفعل الكلمات يتفاعل مع المواقف ويبتسم لها. عدسة كاظم عبد حنونة وتقطيع موفق لمشاهدها.
“ايراني” و” كان يا ما كان”

” همس المدن” يعرض في مسابقة العمل الأول للمهرجان الدولي لسينما الواقع في باريس، الموعد السنوي لأهم الأفلام الوثائقية من 20 إلى 30 مارس. إلى جانب أفلام أخرى من فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، صربيا، الصين، فيتنام، وبوليفيا ….
أما المسابقة الدولية فتعرض أحد عشر فيلما من فرنسا واليابان وألمانيا وبلجيكا وكندا وتركيا والمكسيك والكونغو والأرجنتين.
الفيلم الياباني” الحملة رقم 2″، يتطرق لأمر حساس في اليابان و حُقق بميزانية لم تتجاوز ال 850 دولار أمريكي. اختار كازوهيرو سودا اسلوب السينما المباشرة، سينما ترصد اليومي وجوهره بأسلوب روائي، كحكاية مُختلقة. يتابع المخرج يوميات مرشح للانتخابات وضع ” ضد النووي” عنوانا لحملته وكان شعاره” لا مال، لا دعم لا لا شيء”. هذه هي المرة الثانية لياماوتشي المرشح لكنه بعد مأساة فوكوشيما اختار الخروج من حزبه مستاءا من تهاون السلطات وها هو يخوض معركته وحيدا بلا سيارة إعلانية كما جرت العادة في اليابان وبلا مصافحات ولكنه مسلح ” بترف الاستقلالية” وهو مفهوم يأخذ أبعادا أعمق في الثقافة اليابانية والمجتمع البعيد عن الاستقلالية.
أما الفيلم التركي” كان يا ما كان”، لكاظم أوز فهو عن عائلة كردية تترك الاناضول للعمل في الأرض وزراعة الخس قرب أنقره. يوم العائلة حافل بعقوق الطبيعة، لكن ليس فقط. فثمة نظرات الاحتقار للعائلة الفلاحة في محطة قطار أنقره والذل العائد للفوارق الاقتصادية والاجتماعية. فهل الحب ما سيغير الأوضاع؟ “سأهرب معها” يقول الشاب العاشق من الأسرة في غمرة انغماسه في زراعة الخس في الحقل.
ويعود الإيراني مهران تمدن في فيلم جديد يندرج ضمن سلسلة حواراته مع المسؤولين من حرس الثورة” الباسيج” و الملالي والمدافعين عن الجمهورية الإسلامية.
تمدن يعيش في فرنسا وهو في عمله الثالث هذا يدعو ثلاثة من رجال الدين إلى منزل العائلة، ويعترف بأنه ” لا يفكر مثلهم و لا يتورع عن قول ذلك لهم”. هدفه أن يري في فيلمه “إنتاج” قواعد للعيش المشترك بينه هو العلماني وبين رجال دين. كيف سيتصرف هؤلاء في الفضاء العام و كيف سيشغلونه؟! هل سيحققون ” الأمل المثالي” بالعيش معا وفقا لدستور عام وضعوه معا؟ حوارات تتطرق إلى العلمانية التي لا تعني الالحاد كما يشرح لهم تمدن، وإلى ” حيادية” الفضاء المشترك فلما لا يكون المجتمع علمانيا بمعنى ألا يكون لأمثاله هو الملحد أو لرجال الدين أو لآخرين من عقيدة أخرى. فيلم لا بد مثير للاهتمام الشديد وللجدل.