المشهراوي: معظم وثائقيات فلسطين إنتاج أجنبي
غزة: تامر فتحي
لم يمنعه مقتل أخيه الأصغر في أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009 من استكمال تغطيته للحرب بل قدم حادثة أخيه بحيادية تامة، أراد أن يستمر في كشف جرائم الكيان الصهيوني لأن الجلوس والبكاء –بحسب رأيه- مشاركة في الجريمة. إنه المنتج والمخرج الفلسطيني أشرف المشهراوي الذي فاز فيلمه ” الطريق إلى تاورغاء ” بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان “ONE WORLD ” الدولي المتخصص بقضايا حقوق الإنسان في العاصمة البلجيكية بروكسل، وذلك لأن الفيلم “استطاع إيصال الفكرة عن قرب مع تناوله للقضية بشكل متخصص من خلال وجهة نظر الضحايا أنفسهم و بالحديث المباشر عن أنفسهم وليس نقلاً عن الآخرين”.

ويدور “الطريق إلى تاورغاء” حول قصة العداوة التي نشأت بين مدينتي تاورغاء ومصراته الليبيتين خلال ثورة فبراير على نظام معمر القذافي، وأحدثت جروحاً عميقة لدى أبناء المدينتين ما زالت آثارها قائمة حتى الآن، ويحاول وضع تصور لخريطة طريق للعدالة الانتقالية في ليبيا من خلال معالجته للقضية ودراسة التجربة في جنوب أفريقيا.
بدأ المشهراوي العمل في الإنتاج الإعلامي والإخراج منذ عام 2000، وشارك في إنتاج و إخراج عشرات الأفلام المختلفة والمتنوعة. فاز بعدة جوائز دولية من أهمها جائزة مارتن أدلر – بريطانيا وذلك كأفضل تغطية للحرب عام 2009 عبر مجموعة قصص صورها وقام بتغطيتها وبثها يوميا على الشاشات الغربية والبريطانية، كما فاز فيلمه “غزة تعيش” بالجائزة الأولى في مهرجان الأيام السينمائية الجزائرية.
إلتقته الجزيرة الوثائقية في غزة وكان هذا الحوار:
كيف كان الطريق إلى تاورغاء؟
قبيل مقتل القذافي ببعض الوقت أُتيحت لي الفرصة للذهاب إلى ليبيا. كنتُ أود التعرف على الوضع هناك عن كثب. سافرت بدون كاميرات أو معدات إلى بنغازي والمنطقة الشرقية ثم انتقلت إلى طرابلس. سمعت عن قصص كثيرة، لكن ما لفت انتباهي تكرار الحكي عن حوادث اغتصاب حدثت في مدن ليبية متعددة، إلا أن مدينة تاورغاء المتاخمة لمدينة مصراتة كان لها نصيب الأسد. قصص الاغتصاب التي قام بها أهل تاورغاء مع كتائب القذافي في مصراتة فاقت الوصف. بدأتُ في البحث فوجدت أن القذافي كي يحصن نفسه خلق قبل الثورة وفي أثنائها جوًا مهيئًا كالألغام لنشوب النزاعات بين الأهالي بعضهم ضد البعض ضمانة لبقاء سيطرته. بين مصراتة وتاورغاء مناصرًا لتاورغاء، وبين مصراتة وبني وليد مناصرًا لمصراتة، وبين بني وليد ومصراتة مناصرًا لبني وليد، ومدن أخرى. ومصراتة مدينة قوية صمدت 8 شهور تحت حصار القذافي وكان صمودها بداية لانهيار حكمه. ولم تكن مصراتة في نزاعها مع بني وليد كما كانت مع تاورغاء. فبني وليد أهل قوة وكانوا ندًا لمصراتة، لكن أهل تاورغاء أصحاب البشرة السوداء الذين حاربوا الثوار مع كتائب القذافي كانت النظرة إليهم أشد دونية، لذا كان الانتقام منه أشد لدرجة أن أهل تاورغاء تركوها وتفرقوا إلى أماكن مختلفة وسكنوا في مخيمات.

انتقلت إلى إحدى هذه المخيمات محملًا بازدراءات أهل مصراتة. توقعت أنني سأقابل ناسا متوحشين، لكن خلافًا لذلك وجدت ناس على قدر كبير من الثقافة والتعليم والأخلاق الطيبة. لديهم نظرة سلبية تجاه الإعلام بعد الحملة الإعلامية الشرسة التي استهدفتهم. ومع معايشتي معهم لاحظت مقدار الأمانة والكرم التي يتمتع بها أهل تاورغاء على الرغم من تحفظهم مع الغرباء. بيوتهم في المخيمات مع ظروف المعيشة الصعبة مرتبة ونظيفة. واكتشفت أن منهم ناشطون مواليون للثورة، وأن أعيانهم في مجالسهم يدافعون عن مصراتة ومشايخها موضحين أن ليس كل أهل مصراتة سواء. واكتشفت أيضًا كم نحن ضحايا للإشاعات والمعلومات المغلوطة فبعد تقصي لم أجد أحد يعرف حالة واحدة تعرضت للاغتصاب، كل من قابلتهم وحكي لي عن تلك الجرائم سمع بها ولم يرها رؤية العين. وهكذا لم يكن وراء العداء والعمليات الانتقامية أسباب حقيقية، وتحول الذين كانوا يحاربون الطاغية لطغيانه إلى طغاة جدد دون أن يدركوا ذلك.
إذن لابد من التسامح والمصالحة ؟
نعم لابد من التسامح. لكن قبل التسامح لابد من عدالة انتقالية ناجزة تعيد للضحية اعتبارها. لذلك اخترت نموذج جنوب أفريقيا كنموذج للمصالحة يمكن تطبيقه في دول الربيع العربي. وشهادة محمد دانجور سفير جنوب أفريقيا في ليبيا كانت لها دلالتها حين استشهد بما فعله نيلسون مانديلا حين فاز بالانتخابات الرئاسية وذهب إلى زوجة رئيس الوزراء الذي استصدر أمر اعتقاله ليبحث معها سبل المصالحة الوطنية. مثال رائع. أقوى رجل في الدولة يتوجه إلى شخص لا يملك سلطة على الأرض لتفيذ المصالحة لأننا بشر أولا ومواطنون في النهاية. ونموذج جنوب أفريقيا له خصوصيته لأن طرفي الخلاف مختلفان في اللون واللغة وينظر السود إلى البيض على أنهم دخلاء عليهم. وانظر إلى الكونغو التي تعد الأغني في ثرواتها الطبيعية بين الدول الأفريقية لكنها غارقة في الصراعات الداخلية التي أفقرتها. بدون مصالحة سنظل سجناء للماضي ومحبوسين في دائرة المشاكل، يورث كل جيل الجيل الأخر البغضاء والكره والعداء بأثر رجعي.

امتازت الصورة في فيلم الطريق إلى تاورغاء بفنيتها العالية فكيف أمكن المزج بين التوثيق ولغة بصرية مبهرة؟
في بداياتي كنتُ مولعا بالصورة الحلوة وكانت اللغة البصرية تشدني كثيرًا، بعد ذلك اكتشفت أن المضمون أهم. طبعًا الخبرة لها دور في إدراك ذلك. لأن المضمون هو الذي يختار صورته. وفي مرحلة التحضير والبحث والتقصي تظهر العناصر البصرية الملائمة. مثلًا في فيلم “الطريق إلى تاورغاء” وعند تصوير شهادة جويد سويب، أحد سكان مصراتة، كانت العيادة، مسرح الأحداث، سيئة بصريًا، وحاولت استبدالها بمكان آخر، لكن جويد لم يتفاعل في ذلك المكان وعندما أعدته لمكان الحدث ثانية خرجت مشاعره الحقيقية المؤثرة وهو يحكي عما جرى له. الانتصار للمشاعر الحقيقية يصنع بصريا جيدا ومؤثرا.
ماهي الإشكالية الأساسية التي يواجهها الفيلم الوثائقي عربيًا؟
الأصل في الفيلم الوثائقي هو تحقيق المتعة للمشاهد وجذب اهتمامه طيلة مدة الفيلم بغاية توصيل المعلومة. الفيلم الوثائقي هو في الأساس وثيقة. تمام مثل رسومات المصريين القدماء على جدران المعابد فهي وثائق بصرية نقلت إلينا الكثير عن حياة الفراعنة. هي بصريًا رائعة برسوماتها لكنها هي لغة لنقل المعلومة. أذكر أنني كنتُ عضوًا في لجنة تحكيم بأحد المهرجانات السينمائية في الجزائر، وكانت الأفلام التي شاهدناها رائعة بصريًا، يبدو الفيلم في دقائقه الأولى شيقًا لكن سرعان ما نصاب بالملل وذلك لعدم الاهتمام بالمعالجة والسياق والمحتوى.

تمامًا كالرواية التي تكون حبكتها الروائية غير محكمة وغير جذابة. في الغرب، خلافًا لنا، يأتي الاهتمام بالمعلومة وآلية البحث، واتباع المنهج العلمي في تقصي الحقائق في المقام الأول، لذا لا يقل المنتج أهمية عندهم عن المخرج.
عُرضت عن القضية الفلسطينية عامة وعن غزة خاصة أفلام وثائقية عديدة ومنها ما هو لافت للانتباه مثل “خمس كاميرات مكسورة” مؤخرًا. فما هو تقيمك للفيلم الوثائقي الفلسطيني؟
مشهور عنا عند صناعة الفيلم الوثائقي أننا “Services providers” – يعني مقدمي خدمات- ولسنا “Content providers” –أي مقدمي محتوى. أغلب الأفلام الوثائقية الجيدة والتي فازت في مهرجانات فنية عن فلسطين والقضية الفلسطينية هي إنتاج أجنبي، مثل أفلام البي بي سي بعد الانتفاضة الأولى وأفلام غيرها. في حين ما زالت تجاربنا جديدة ويغلب عليها التجريب. عملت مع قنوات أجنبية مثل القناة الرابعة البريطانية وقنوات أخرى وعند صنع أفلام عن غزة وكنت أقضي أغلب وقتي في تصحيح مفاهيم المنتج الأجنبي عن غزة، فهو لغياب المصادر الأخرى أسير وسائل الأعلام الموالية لإسرائيل. وعلى الرغم من احترافية تلك الأفلام واتباعها للمعايير المهنية إلا أن بعضها لايسلم من التأثر بتلك الوسائل الإعلامية وأحيانا يغلب عليها النظرة الاستشراقية. ومع ذلك نحتاج لأن نتعلم من مهنيتهم وأن نعرض المعلومات بشفافية تامة وألا نخفي شيئًا بحجة أنه لا يصح عرض مثل هذا الأمر. لابد من تحييد المشاعر لأن هذا هو الأصل في المهنية.