مُخرجة إيرانية تُحاسب تاريخ بلدها
أمستردام – محمد موسى
تمهيدا لعرض فيلمها الجديد ( ثورتي المسروقة)، قامت قناة “أن بي أو دوك” الحكومية الهولندية باستعادة بعض أبرز المحطات السينمائية للمخرجة الإيرانية المقيمة في السويد ناهد بيرسون سارفيستاني فعرضت أفلام: “الملكة وأنا”، “يوم في إيران”. يترواح إنتاج المخرجة المولودة في عام 1960، بين أفلام القضايا الاجتماعية الإيرانية الراهنة واستعادة حقبة ما قبل الثورة الإسلامية الأخيرة في عام 1979، عندما كانت المخرجة نفسها جزءاً من حركة شبابية شيوعية رافضة لحكم شاه إيران، لكنها، وكحال حزبها وجيلها اليساري، وجدت نفسها سريعاً في خانة أعداء الثورة، لتُجبر على ترك البلاد، واللجوء الى السويد في بداية الثمانيات من القرن الفائت حيث تعيش هناك منذ ذلك الحين.

في “ثورتي المسروقة”، تسعى المخرجة لترميم ماضيها الشخصي وذاكرة البلد، فتبدأ رحلة ستأخذها إلى دول عدة حول العالم لمقابلة رفيقات الأمس الإيرانيات الشيوعيات، واللواتي تشتتن مثلها بين البلدان. وإذا كان الحنين لزمن مضى يبدو الدافع الأساسي لمشروع الفيلم، الا إن المُخرجة سرعان ما تبلور مقاربة ناضجة، فتأخذ قصص تلك السيدات بما تتضمنه من عذاب وخيبة، وتتخذها كمدخل للحديث عن إيران اليوم. فالمخرجة لم ترغب لفيلمها أن يكون فئوياً خاصاً، هي مشغولة بربط الماضي بالحاضر، والتذكير بما فعله جيلها، قبل أن “تسرق” ثورتهم، ووضع تجربتهم في سياق تاريخي واضح.
تُهمين السنوات القليلة التي سبقت الثورة الإيرانية، على فيلم “الملكة وأنا” أيضا ، والذي نجح في إقناع الإمبراطورة فرح ديبا (زوجة شاه إيران الأخير)، بأن تكون شخصية الفيلم الأساسية. يوفر الفيلم فرصة نادرة للمخرجة للحديث عما يشغل ويثقل روحها، لكن عبر تفاصيل العالم الخاص الذي تعيش فيه إمبراطورة إيران السابقة. لن يكون المشروع هيناً للشيوعية السابقة، فشعور الذنب سيرافقها طوال تصوير الفيلم، وستعرب المخرجة عن شكوكها وخوفها بأنها يُمكن أن تكون قد تخلت عن مُثلها وتركت زوجة الشاه السابقة تتصدر، ومثلما فعلت عندما كانت في إيران، الشاشة والحياة.
هذه الهموم، والتي تشارك المُخرجة مشاهديها بها، هي التي ستمنح الفيلم تركيبة خاصة مميزة. كما أن الفيلم يوفر أسبابا عديدة لعدم القسوة على زوجة الشاه، خاصة عندما يقدمها الفيلم بدون الهالة المعروفة السابقة، بل كسيدة إيرانية عرفت المآسي الشخصية ( فقد الزوج، وابنة ماتت شابة، وما يبدو من ضياع للأبناء الآخرين) وتعيش اليوم الوحدة، وكناشطة اجتماعية تسعى للمساعدة في جمع الأموال لمشاريع خيرية في إيران ( يصورها الفيلم في مشاهد لافتة وهي تفتح البريد الذي يصلها من إيران متضمناً طلبات بعضها غريب).
في العملين الأخيرين، تستعين المخرجة بتجاربها الخاصة وترجع إلى تاريخها الشخصي، كما تكشف عن آلامها وخساراتها. فهي تشعر بالذنب الكبير لنشاطها السياسي الذي جذب أخاها الأصغر، وقاد لإعدام هذا الأخير على أيدي الأجهزة الأمنية للجمهورية الإسلامية، هذه المسألة شغلت بال المخرجة وهي تحاور زوجة الشاه، وأيضا عندما التقت رفيقات الحزب السابقات، وجمعتهن في بيت ريفي في السويد لاسترجاع “الماضي” في فيلمها “ثورتي المسروقة”.

مازالت السنوات القليلة لبدء تفتح وعي المخرجة الشابة والتي سبقت الثورة الإيرانية، وإلى زمن تركها لإيران، متفجرة وحيّة في روح المخرجة، وهي التي منحت الحياة والحدّة لأعمال سينمائية حتى بعد 3 عقود من زمن تلك الأحداث. بدا الفيلمان وكأنهما تصفية حساب للمخرجة مع الماضي، لا بنية دفنه وتوديعه، بل للعودة منه إلى قلب المشهد الإيراني السياسي والاجتماعي المعاصر. ففيلم “ثورتي المسروقة”، انشغل كثيراً بعرض قصص الشيوعيات الإيرانيات، ضمن إطار الحريات السياسية العامة لإيران قبل ثلاثة عقود، وربطه بما يجري حالياً.
ليست ناهد بيرسون سارفيستاني أول مخرجة أو مخرج تسجيلي يَسّتل مواضيع أفلامه من تجاربة وتاريخه الخاص، فهناك كثيرون ساروا على الطريق نفسه، وخاصة من الذين مرت بلدانهم بحروب أو تغييرات سياسية واجتماعية حادة. تستدعي أفلام المخرجة الإيرانية تساؤلات وتثير التباسات، فهي ليست مُحايدة، لجهة تقديمها المشهد السياسي الواسع، هي بالمقابل مشغولة بالتفاصيل والخسارات الإنسانية ويغلب عليها الحنين، وبناؤها يرتكز على تقديم الثمن البشري الذي تسببه الأفعال الكبيرة التي تمر بها المجتمعات. ليس من الصعب، ومن خلال تتبع الأفلام السينمائية المذكورة، معرفة أي جانب تميل إليه المخرجة، رغم ذلك تحاول هذه الأخيرة، أن تذكر نفسها بمهمتها كمخرجة تسجيلية تنشد الحياد، بالبحث ونقل الحقيقية، حتى لو قاد ذلك الى تعارض مع أفكار المخرجة، والدور الذي تحاول أن تتمسك به، كإيرانية تملك رؤيتها الخاصة لما حدث ويحدث في إيران، مهمومة بقضايا بلدها، رغم بعدها الجغرافي الكبير عنه وسنوات اغترابها الطويلة.