في مهرجان إسطنبول السينمائي: 100 سنة سينما
Published On 1/5/2014
أمير العمري- أسطنبول
صناعة المهرجانات السينمائية لا تتحقق بالنوايا الحسنة، ولا بمجرد صدور قرارات علوية من السلطات بإقامة مهرجان أو تظاهرة سينمائية ما، ولا لمجرد أن البلد الذي يقيم المهرجان له تاريخ طويل في إنتاج الأفلام كما هو الحال بالنسبة لتركيا، بل هي مزيج من الفن والثقافة والتجارة والترويج والاستعراض والسياحة. والشرط الأول والأساسي الذي يجب أن يتوفر في أي بلد ينظم مهرجانا سينمائيا دوليا أن يكون الجمهور في هذا البلد مهيأ للتعامل مع مهرجان دولي، أي أن يكون مستعدا لشراء بطاقات للمشاهدة يدفع ثمنها من جيبه، وأن يقبل على أفلام تنتمي لبلدان ربما لا يعرف الكثير عن السينما التي تنتج فيها ولا عن أفلامها، كما أن هذا الانفتاح الفكري والثقافي على أفلام الآخر، يجب أن يدفع الجمهور بشكل طبيعي، إلى الإقبال على مناقشة الأفلام بوعي ورغبة حقيقية في المعرفة.
نفتتح هذا المقال بهذه الحقيقة لأن زيارتنا الأولى لمهرجان إسطنبول السينمائي الدولي (5- 20 أبريل) أكدت لنا كل ما ذكرناه آنفا. أنت هنا في بلد سياحي من الطراز الأول، منفتح على ثقافات الآخرين، لا أثر فيه للتعصب أو الإقصاء، ولا وجود ملحوظا في المهرجان للقيود والمشاكل الرقابية رغم جنوح الكثير من الأفلام إلى الجرأة الشديدة والتنوع. أنت أمام مهرجان مضى عليه 33 عاما، دون أن تبدو عليه أعراض الكسل أو الشيخوخة بعد، بل تشغل القائمين عليه دائما فكرة تطويره، وتزويده بالمزيد من الأفلام التي تثري المخيلة، وتثير الفكر والنقاش.

من المهرجان
انقسمت الدورة الـ33من المهرجان إلى 25 قسما، عرضت 357 فيلما قصيرا تسجيليا وروائيا طويلا من إخراج 245 مخرجا سينمائيا من 50 دولة. وعرضت الأفلام في ثماني قاعات على مدار 16 يوما، وحضرالعروض 135 ألف مشاهد.
وخلال الـ16 يوما أقيمت ثلاث ورش تدريبية، و5 محاضرات (دروس السينما) شارك فيها عدد من كبار السينمائيين في تركيا والعالم، وعقدت ثلاث ندوات رئيسية، وثلاثة لقاءات بين موزعين من تركيا وموزعين ومنتجين من بلدان أوروبية لبحث قضايا الانتاج المشترك والتعاون في مجال التسويق.
نحن إذن أمام مهرجان كبير حقا لا يكتفي بالاستعراض، ولا تقتصر عروضه على نخبة محدودة من 200 ضيف محلي وعالم كما نرى في مهرجانات أخرى تقام في بلدان العالم العربي، ولا يقام داخل تحصينات دفاعية تحت حراسة المدرعات وقوات الأمن، بما يوحي بأجواء حرب وليس أجواء استرخاء ومرح واحتفال كما هو الحال في إسطنبول، المدينة الساحرة التي لا تنام، والتي تتوفر لها قاعدة أساسية كبيرة من المطاعم والفنادق، وشبكة مواصلات متعددة تعمل بكفاءة كبيرة، وأساسا، دور عرض صالحة وآلات عرض تحترم المواصفات العالمية في عرض نسخ الأفلام، وبرنامج متنوع يتم تنفيذه بدقة والإشراف عليه بواسطة مجموعة من الشباب المعاون لمديرة المهرجان السيدة عزيزة تان.
100 سنة سينما
كان من أهم الأحداث التي سلط المهرجان الضوء عليها الاحتفال بمرور 100 سنة على بدء السينما التركية، وبهذه المناسبة سلط المهرجان الضوء على تاريخ السينما في تركيا من خلال برنامج خاص أطلق عليه “ياله من ثنائي” تضمن عرض 38 فيلما مقسمة إلى 19 ثنائيا من الأفلام التي اختيرت من طرف مجموعة من النقاد الأتراك، والأكاديميين إلى جانب مديرة المهرجان.
من أهم الأفلام التركية التي شاهدناها في إطار هذا القسم فيلم “محسن بيه” Mohsen Bey للمخرج يافوز تورجال من عام 1987 وهو أحد أشهر الأفلام التركية وأكثرها نجاحا وشعبية، وكان قد حصل على كل الجوائز الرئيسية في مهرجان أنطاليا في تلك السنة (أحسن فيلم ومخرج وممثل وممثل مساعد) كما حصل على جائزة مهرجان سان سباستيان.
يروي الفيلم قصة تدور في أجواء الموسيقى التركية الشعبية القديمة، التي يعيش في ذكراها محسن بيه.. وهو رجل تجاوز منتصف العمر، يحبس نفسه داخل جدران مسكنه، يرفض أن يشهد ما يحل بمدينته، إسطنبول، من عمليات تحديث وهدم وإعادة بناء في حقبة الثمانينيات، يخرجه من عزلته ذات يوم، شاب يدعى “علي” يأتي إليه يطلب أن يتعلم منه الغناء الشعبي القديم. هنا تتحول حياة محسن رغما عنه، ويجد سلوى في نقل تجربته إلى جيل جديد ربما كان حريا به أن يتطلع إلى الجديد لا أن يرتد إلى الماضي. ولاشك بالطبع فيما يرمز إليه الفيلم من ضرورة الإبقاء على التراث القديم ونحن نتطلع إلى بناء الجديد، وهناك أيضا علاقة مدهشة من ناحية الصورة، بين العمارة القديمة التي تتميز بها مباني الأحياء العريقة في إسطنبول وبين الموسيقى القديمة التراثية التي تعتمد على النغمات العربية وعلى الموال العربي المعروف.

ضمن الاحتفالية الخاصة بالسينما التركية شاهدنا أيضا فيلم “كلينيك في اسطنبول” in Istanbul Kilinik الذي أخرجه يلماظ عطا دنيز عام 1967، وهو يختلف تماما عن الفيلم السابق في كونه يدور في إطار من “الفانتازيا” أي الخيال، ويعتمد على الاقتباس من أفلام مشهورة ناجحة حققت شعبية في الغرب، فهو يعتمد على إعادة تجسيد شخصية خيالية (شريرة) في القصص الإيطالية المصورة، ظهرت أيضا في السينما على غرار غيرها من الشخصيات الخيالية التي ابتدعها الخيال المصور في الستينيات، وكانت الأفلام التركية تنهل منها دون أدنى اعتبار في تلك الفترة (ستينيات القرن العشرين) للقواعد المنظمة للملكية الفكرية. هذا الشرير الخيالي الذي يدعى “كلينيك” يذكرنا بأشرار سلسلة أفلام “هالوين” وهو يتمكن من التنكر ببراعة، وينتقل في صور متعددة، إلى أن يحط رحاله في تركيا حيث يقتل زميلا سابقا له أصبح عالما الآن، لكي يسرق وصفته السحرية التي تكفل له السيطرة على العالم. لكن ابن البروفيسور القتيل (أورهان)، يسعى للانتقام من كلينيك ويستعين بساحر آخر لكي يتحول إلى كائن أسطوري لا يهزم ويتمكن من إنزال الهزيمة بغريمه، دون أن يقضي عليه تماما. ومن هنا أمكن إنتاج نحو عشرة أفلام أخرى في سلسلة “كلينيك” بنفس البطل الشرير الذي يواجه خصوما جددا متنوعين، وحققت هذه الأفلام نجاحا كبيرا في تركيا في الستينيات.
بحث عن الهوية
من أهم القضايا المطروحة في تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة قضية الانتماء: هل هو إلى أوروبا أم إلى الشرق الإسلامي، هل ينتمي الأتراك إلى الغرب أم إلى الشرق، وقد تركت هذه القضية دون شك، بصماتها على عدد كبير من الأفلام التي أنتجت في تركيا.
لتسليط الأضواء على هذا التناقض عرض فيلمان ضمن ثنائيات هذا القسم، هما “سقوط القسطنطينية” The Fall of Constantinople لأيدين أراكون (من عام 1951)، و”قصة أفعى” لكوتلوج اتامان (من عام 1994).

الفيلم الأول يصور غزو المقاتلين العثمانيين للمدينة، وتعاون بعض سكانها من البيزنطيين معهم كراهية في اللاتين الكاثوليك، كما يتوقف أمام موضوع خليل باشا، هل كان بالفعل خائنا وشى بالجيش العثماني لدى البيزنطيين. وفي الفيلم نرى ربما للمرة الأخيرة، أسوار المدينة القديمة التي كانت قائمة في الخمسينيات، كما نرى مشهدا يدور داخل كنيسة “آيا صوفيا” في إسطنبول التي تحولت منذ سنوات بعيدة إلى مسجد، ثم إلى متحف مفتوح للزوار من شتى أنحاء العالم مازال يجمع بين مواصفات المسجد والكنيسة.
أما “قصة أفعى” فيقدم رؤية شديدة الاختلاف عن تلك التي نراها في الفيلم السابق الذي يحتفي بالبطولة ويخلع النبل على العثمانيين الغزاة، ويصور وقوع فتيات بيزنطة الحسناوات في حب فرسانهم. هنا نحن أمام صورة داكنة خيالية للمدينة، تجسد تنوعها الشديد واستحالة السيطرة الفعلية عليها بفعل غموض الكثير مما يحدث فيها وتعدد الأعراق على نحو محير: هناك السكان البيزنطيون، العرب، الأتراك، الجواسيس الأمريكيون الذين يتظاهرون بالعمل في مجال بيع وتأجير العقارات، مصاصو الدماء الذين يتطلعون نحو مياه خليج البوسفور. صورة غريبة سيريالية لإسطنبول تقول إن المدينة هي التي استولت على سكانها وليس العكس!
وفي جعبة المهرجان الكثير والكثير من القصص والحكايات والأفلام وما وراء الأفلام، وهو ما تجلى في المناقشات العديدة التي حفل بها وكانت تمتليء عن آخرها بعشاق الفن السابع والثقافة السينمائية.