جوقة إنشاد سويدية في فلسطين

قيس قاسم

من زيارة فرقة إنشاد موسيقية صغيرة إلى فلسطين صنع المخرج السويدي فريد يونغستروم فيلماً وثائقياً غاية في البساطة والأهمية، لدرجة يبدو فيها وكأنه كان يتحين الفرصة المناسبة ليدخل تلك البلاد ويكمل مشروعاً سينمائياً اختمر في ذهنه طويلاً عن حياة شعبها في ظل الاحتلال، ولهذا وحين شدت “جوقة إنشاد فالو للسلام” رحالها كان هو أول المنضمين إلى مجموعتها المتوجهة إلى ذاك المكان الذي يشهد ومنذ أكثر من ستين عاماً صراعاً حاداً بين الفلسطينيين والإسرائيلين.

أرادت جوقة إنشاد السلام الاطلاع عليه عن قرب ومعرفة تفاصيله كي تسهم قدر ما تستطيع وكجزء من أهدافها في عرض وقائعه من خلال الغناء بوصفه وسيلة فنية لا تدعي القدرة على صنع المعجزات بقدر ما لديها من تأثير قوي على الناس ينبغي استثماره لصالح الخير وهذا ما زكته تجاربهم السابقة ووقفاتهم التضامنية المشهورة مع شعب جنوب أفريقيا الذي شكرهم عليها نيلسون مانديلا خلال إحدى زيارته إلى السويد.
أثناء التحضير لتسجيلات القسم الخاص بالجوقة في السويد اكتشف المخرج  ومساعده فريدريك كارستين، أنهما يعملان وسط مجموعة تدرك جيداً ما تفعله وتؤمن بقوة بأهمية أفكارها، فقررا أن لا يعاملونها كمجرد وسيط لتحقيق شريط عن فلسطين بل كشريك فعال يكمل ويُغني مشروعهم السينمائي،  سيما وأن مديرها الحالي، يعرف الكثير عن الصراع الجاري هناك من خلال عمله السابق كطبيب متطوع في أحد المخيمات الفلسطينية ويعرف شيئاَ من العربية. مرونته في التعامل مع مفردات العمل التسجيلي يعلنها صانع الوثائقي بنفسه ليشرك من خلالها مشاهدي فيلمه في التعرف عليها والتفاعل معها وربما لهذا السبب فضل يونغستروم الانطلاق على أرضية الحوار الذي كان يجري في السويد، وليس في فلسطين، بين أعضاء من جمعية مؤيدة لإسرائيل واثنين من أعضاء جوقة الأنشاد التي زارت فلسطين ورأت بأم أعينها ما يجري هناك فتحصنت بقوة الحجة لدرجة بدا فيها الطرف الثاني ضعيفاً يقول كلاماً إنشائياً غير مقنع. الحوارات في السويد والصور من الأراضي المحتلة بهذه التوليفة سيمضي التسجيلي “حين ذهبت جوقة السلام إلى فلسطين” في طريقه، متنقلاً بين مدن فلسطينية ومخيمات سرعان ما تفاعل سكانها مع ضيوفهم الجدد الذين صاروا جزءًا منهم، يغنون معهم وينشدون أغاني تجسد أحلامهم في الحرية والسلام.

الجوقة

لا يشي المشهد الصباحي في مدينة القدس بصراع واضح، فحركة أسواقها عادية بخاصة لمن لا يعرف خباياها، لكن ما أن يتوغل المرء قليلاً في أحيائها القديمة وفي القسم الفلسطيني منها خاصة كما فعل بعض أعضاء الجوقة الموسيقية حتى يظهر الجانب الآخر، المؤذي للروح، ليدفع أشد الناس هدوءًا إلى إعلان تذمرهم من حجم العذاب والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون في هذه المدينة وحالة المرأة الفلسطينية العجوز التي لم تترك عتبة بابها منذ سنين خوفاً عليه من سطو المستوطنين واحتلاله، أحدثت صدمة عندهم عمقتها أكثر حواراتهم مع سكان الحي وتوضيحاتهم للطرق الخبيثة التي يستخدمها سكان المستوطنات للزحف على بيوتهم وقضم أجزاء منها عنوة، أول الأمر، ثم ومع الوقت يزحفون على ما تبقى منها.  مشاهد قاسية هزت ضمائر الزوار ودفعت أحدهم للسؤال بغضب؛ كيف يمكن للمستوطن أن يفعل هذا؟  كيف يقبل أن يعيش في مكان ينبذه وفوق كل هذا يرفع علم إسرائيل فوق بيت لفسطيني ورثه عن أجداده؟.

اطفال يحضرون عروض الشوارع

رحلات الجوقة في بقية المدن الفلسطينية، وفيما بعد في المناطق الإسرائيلية التي خططوا لزيارتها منذ البداية حتى يتمكنوا من التعرف على وجهتي نظر الطرفين المتصارعين، سترسخ قناعة لديهم بأن الطرف الإسرائيلي هو المعتدي وأن بناء المستوطنات هو العائق الأكبر لتحقيق أي سلام بينهما ناهيك عن طبيعة المجتمع الإسرائيلي الذي يغذيه العنصريون والمتطرفون اليهود بأفكار تُخيفه ما يدفعه للانغلاق والخوف من الآخر. وعلى الطرف الفلسطيني سيتأكد لهم أن الأغلبية المطلقة فيه تريد السلام، وقد تجلى لهم هذا بوضوح من خلال سلوك الناس العاديين وحماستهم للغناء والتفاعل معهم، ما شجعهم على تأليف أغاني جديدة متعاطفة مع حقوقهم بل ذهبوا أكثر من هذا فغنوا سوية أغاني وطنية فلسطينية باللغة العربية في رام الله وغيرها من المناطق التي تؤكد زيارة كل واحدة منها الظلم الكبير الذي يتعرض له الفلسطينيون من قبل قوات الاحتلال وسكان المستعمرات.
على حاجز قلنديا وفي طريقهم إلى تل أبيب ستصاب الجوقة الموسيقية بالهلع من ممارسات فظيعة عايشوها بأنفسهم تتعمد إذلال الفلسطينيين المضطرين للانتقال إلى الجهة الثانية بحثاً عن عمل. احتقار الجنود للعمال والعابرين شعروا به وهم يعبرون الحواجز الحديدية التي بُنيت بطريقة ذكرتهم بحواجز حظائر الماشية في بلدهم فكرروا هذا التوصيف أكثر من مرة في أحاديثهم الشخصية التي غلب عليها الانفعال والقهر، فهم لم يألفوا ولم يعرفوا في حياتهم تعاملاً لا إنسانياً كالذي يرونه أمامهم. أما وصولهم إلى تل أبيب وزيارتهم لشواطيء البحر فقد عززت عندهم شعوراً  جديداً بحدة انقسام البلد، وأن الحياة في هذا الجزء لا تشبه تلك التي يعيشها الفلسطينيون على الإطلاق، ومقابلتهم للكاتب جدعون ليفي لم تقلل من حدة الانطباع المُتَكون عندهم بل على العكس رسخته أكثر لأنه اعتبر زيارتهم للبحر ورؤية حالة الاسترخاء السائدة وعدم اكتراث الناس بما يجري في المناطق العربية يقدم بذاته تفسيراً للصراع وصعوبة حَلَّه.

لقد أعتبر الرفاه النسبي الذي يعيشه الاسرائيلي سبباً لخوفه من الفلسطيني الذي صَوروه لهم  وكأنه الشرير الذي يريد انتزاع كل هذا منهم، وقام السياسيون بترسيخ هذا الانطباع في أذهان الناس، والذي يفاقم المشكلة بين الطرفين أكثر. استعرض ليفي أمام الجوقة تجربته الصحفية في المناطق الفلسطينية  وكتب عن الفظاعات التي يرتكبها جنودهم هناك بصراحة لم يكتب أحد مثلها من قبل وبسببها صار هدفاً لهجمات المتطرفين الدينيين. ستخرج جوقة الإنشاد باستنتاج جديد بعد زيارتها الطرف الاسرائيلي مفاده: أن العزل المتعمد للفسلطينيين مشكلة جدية لا تقل عن سابقاتها خطورة وهي التي تفسر لماذا يحتاج هؤلاء دعم العالم لهم ولماذا يعتبرون زيارتهم مساهمة في كسر الحصار المفروض عليهم ما سيشجعهم للمضي في رحلتهم ويقرروا زيارة مخيمات داخل الأراضي المحتلة في محاولة لفك عزلتها بقوة الموسيقى والغناء. في معسكر الدهيشة في بيت لحم شعروا بقساوة العزلة التي يعيشها سكان مدينة كبيرة وليس معسكراً صغيراً كما تصوروه من قبل. أكثر ما أفزعهم الطريقة التي يتعامل بها الجيش الإسرائيلي مع مدينة يمكن لجنديين فقط عزلها عن العالم عبر إغلاق بوابتيها. مدينة يمكن أن تموت بقرار عسكري أمر لم يفهمه أعضاء الفرقة الموسيقية وظلوا يتناقشونه فيما بينهم باستغراب كبير، يشبه إلى حد كبير استغرابهم من الطريقة التي استقبلتهم بها  مدينة الكرمل، ولكن بطريقة مختلفة. لقد  استقبلوا بالترحاب والغناء وسط حضور جماهيري لم يشهدوا مثله من قبل، ما قوى الانطباع الذي تكون عندهم بأن هذا الشعب يستحق الحياة لتشبثه بها رغم كل الصعاب.
لشدة بساطته وقوته لا يحتمل فيلم “حين ذهبت جوقة السلام إلى فلسطين” قراءات تأويلية إضافية ولا تحميله فوق ما لا يحتمل، إلا في جانب تأثيره على جمهوره.. والذي نتوقع أن يكون عميقاً!


إعلان