“مياه فضية”: موسم القتل في سوريا!
أمير العمري- مهرجان “كان”
يمثل فيلم “مياه فضية” الذي يعرض خارج المسابقة في مهرجان كان السينمائي، نقلة جديدة في مسيرة مخرجه السوري أسامة محمد، في ابتعاده عن الشكل الدرامي الرمزي، لتقديم عمل وثائقي مركب، يمزج الذاتي بالموضوعي، السياسي بالأدبي والشعري، الحاضر بالتاريخ، الواقعي بالخيالي السينمائي، والقريب بالبعيد.
أسامة محمد اختار العيش في منفاه الاختياري في العاصمة الفرنسية باريس منذ 2011. وهو يقول في فيلمه إنه وصل إلى باريس في التاسع من مايو أي يوم النصر على الفاشية في أوروبا. لكن سقوط الفاشية في سوريا لم يأت بعد، وبعد ألف يوم ويوم من القتل لايزال القتل مستمرا.

تجربة مشتركة
هذا فيلم لم يكن بوسع أسامة محمد المقيم بعيدا عن وطنه أن يصنعه وحده، بل كان محركه الرئيسي لصنعه امرأة، كردية سورية من حمص تدعى وئام سيماف بدرخان. و”سيماف” كما تقول لنا في سياق الفيلم، هو ماء الفضة. وهي تتخاطب مع أسامة عبر الانترنت. ويعتبر عالم الانترنت وما ينشر فيه من صور ووثائق مصورة لما يحدث في سوريا، مصدرا رئيسيا من مصادر الفيلم. وئام تروي لأسامة ما يحدث حولها في مدينتها، ويطلب هو منها أن تقوم بتصوير ما تراه. وهي تبحث عن مصور، لكنها تدرك بعد شهرين من البحث أن قدرها أن تقوم هي بتصوير الفظائع التي تراها، سواء من شرفة البيت الذي تقيم فيه أو من الشارع، معرضة حياتها للخطر، مسببة ألما مضاعفا لأسامة محمد الذي يشعر بالذنب كلما تراءى له ما يمكن أن يحدث لها. إنها تقوم أولا بتهريب الكاميرا اتي ستستخدمها إلى حمص، ثم تتابع يوما بعد يوم دراما القتل في المدينة ، لكنها أيضا تروي لاسامة عبر التخاطب أو “التشات” على الانترنت، كيف أنها عثرت على ما تعتبره كنزا، أي على جرامافون قديم، وكيف أنها عثرت على نسخة من رواية “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي وأنها تعيد قراءتها الآن معلقة “طعم غريب للقراءة تحت القصف”!
ومن مزيج من آلاف اللقطات التي توفرت لأسامة سواء مما ينشره نشطاء سوريون على مواقع الانترنت، أو ما نجحت وئام من ارساله له بصعوبة بالغة عبر الانترنت أيضا، أو تلك اللقطات المحدودة التي صورها في باريس، يتألف هذا الفيلم المركب البديع، الذي يتميز بايقاع سريع مع نفس شاعري لا تكشف عنه الكلمات والتعبيرات التي تستخدم في التعليق الصوتي على مشاهده ولقطاته فقط، بل ومن خلال طريقة تركيب (مونتاج) الفيلم نفسه، الذي يظل ينتقل بين تلك الثنائيات التي أشرنا إليها طول الوقت، ببراعة ودقة وتحكم كامل. إننا أمام فيلم صادم، قاس، يمتليء بالعنف والدماء التي تسيل فتغطي الدنيا بأسرها، ومشاهد التعذيب التي لا تخطر على بال إنسان.
في البداية مع بدء ما يطلق عليه أسامة “الماراثون” نشاهد جنديا سوريا ضمن قوات النظام يضحك بهستيرية تحت صورة حافظ الأسد، ثم كيف يرغمون صبيا من الثوار على تقبيل صورة الأسد الممددة على الأرض.. مرات عدة نشاهد كيف يضغط الجندي بحذائه الضخم على رأس الصبي ويرغمه على تقبيل الصورة مرددا بهستيرية: أتريد حرية؟

لقطات كثيرة في الجزء الأول من الفيلم ملتقطة من خلال كاميرا أجهزة التليفون المحمول (الموبيل).. لقطات مهتزة، غير مسواة، لكنها تحمل الكثير مما لا يمكن تخيله. إننا نصل في هذا الفيلم الحداثي تماما في مادته، إلى قمة السيريالية التي لا تنتج عن أسلوب سينمائي قصدي بل عما يصل إلينا بصريا وذهنيا، من طريقة تعاقب الصور مع بعضها البعض، من غرائبية ما نشاهده من مناظر التعذيب والتنكيل والدماء التي تسيل فتغطي العالم، لكن أسامة محمد يبدأ من “السينما”.. من صورة لشاب كان قد تعرف إليه في نادي السينما بدمشق، طلب منه المساعدة في تأسيس منتدى سينمائي في بلدته، هذا الشاب الآن يراه أسامة ونراه نحن أيضا، ولكن عد أن تم التنكيل به وذبحه بوحشية بل ونراهم وقد أخذوا يسحلون جثته على الأرض. ونرتد ذهنيا من خلال ما يأتينا عبر شريط الصوت- إلى السينما، إلى الفيلم الشهير للمخرج الفرنسي الراحل آلان رينيه “هيروشيما ياحبيبتي” (1959).. الذي يقول لنا أسامة أنه شاهده بالأمس.. ولكنه هذه المرة يتذكر أنه سأل الشاب: أين تسكن؟ فقال له: في دوما.. ويعلق أسامة: إنها إذن.. “دوما ياحبيبتي”!
سينما واقعية؟ هل هذه يمكن أن تكون واقعية؟ أي واقعية تلك التي تتجاوز السيريالية؟ يطلق عليها أسامة “سينما القتيل”. ويروي أسامة في الفيلم كيف ذهب الى مهرجان كان في 2011 بدون أن يكون لديه فيلم، فقط لكي يتكلم عما يحدث في سوريا (سينمائي سوري بألف صورة وصورة). صورة تقبيل الصبي لحذاء الجندي تتكرر. وصوت أسامة يقول لنا إن اللقطة كانت “ثابتة”!
بكاء القطط
حوارات سيماف وأسامة هي حوارات بليغة شاعرية، حزينة، مرهقة، تأتينا على صور لانفجارات، تفجير منازل كاملة بل وأحياء كاملة في حمص، اعتقال نساء في الشارع والاعتاء الوحشي عليهن، وهي لقطة تتكرر كثيرا فيما بعد، مناظر لتعذيب الثوار الشباب، التنكيل بالجثث والتمثيل بها في عرض الطريق.. سيماف تعلق “أبي العجوز يبكي مثل القطط”. هل تبكي القطط؟ نعم فنحن نشاهد أولا كيف تهرب عشرات القطط من القصف العنيف، ثم نرى لقطة قريبة قطة تموء بلا توقف وقد احترق وجهها!

يستخدم أسامة محمد عناوين كثيرة عبر الفيلم للتوقف أمام مشاهده وكأنه يريد أن يصنع ملحمة للقتل والتعذيب والتمثيل والمغالاة في العنف. عناوين مثل “سبارتاكوس”، حكاية نادي السينما”، “الجندي المجهول”، “اليوم السادس”، “مياو”، ذاكرة الجسد”، كما يستخدم موسيقى أوبرالية وتراتيل دينية مسيحية، وموسيقى عربية شجية حزينة على العود وأغنية لاتينية شهيرة، ويلجأ أحيانا إلى تكرار الصورة، واستعادتها بالعكس، وتثبيتها لخلق تأثريات فنية درامية.
“مياه فضية” تجربة بصرية وصوتية مذهلة وفيلم ليس له مثيل في السينما العربية. إنه ليس فقط شهادة على مسلسل القتل المستمر في سوريا، بل ومحاولة فريدة لخلق معادل بصري وسمعي سينمائي حداثي يستخدم كل ما أصبحت تتيحه اليوم تقنيات كاميرا الديجيتال الصغيرة والكومبيوتر والانترنت، لذلك فهو عمل معاصر تماما، لكن السر الأول في تميزه عن عشرات الأفلام والشرائط التي تظهر يوميا وتستخدم نفس التقنيات، أنه صنع على يدي سينمائي خبير وموهوب، يتميز بثقافته الكبيرة وخياله السينمائي البديع الذي يجعله يقدم موضوعه دون صراخ مباشر أو تعليق صوتي فخيم، بل من خلال تلك اللغة الشعرية التي تخلق جدلية تتسم بالحيوية الشديدة بين شريطي الصوت والصورة، بل وبين كل الثنائيات التي ينتقل عبرها الفيلم دون أن يرهقنا. ولعل السر الذي يجعل الفيلم يحقق هدفه ويترك تأثيره على المتفرج، هو ذلك الصدق الشديد في الكتابة وفي المعالجة، في تلك اللمسة الشخصية التي تقربه منا، والتي تجعله تعبيرا عن تجربة رجل وامرأة من سوريا في زمن القتل.
كانت وئام سيماف بدرخان، شريكة أسامة في صنع الفيلم، قد تعرضت للإصابة كما نرى في الفيلم (هي تصور نفسها ترقد على الفراش في المستشفى) ثم تمكنت بعد ذلك من مغادرة سوريا بعد فترة.. ووصلت إلى باريس أيضا في التاسع من مايو.. أي يوم الاحتفال بسقوط الفاشية في أوروبا!