كان (جنوب فرنسا): قيس قاسم
جاء أسامة محمد الى مهرجان كانّ السينمائي بفيلم له صلة مباشرة بالحرب الأهلية التي تجري في سوريا وكان منطقياً لهذا السبب أن يسبق عرضه بروز مجموعة أسئلة عند زوار الدورة 67 تتعلق بمستواه بخاصة وأن الجميع يعرف مقدماً صعوبة أنجاز وثائقي بمواصفات سينمائية جيدة وسط تلك الظروف ناهيك عن المخاوف من أن يكون دعائياً ومباشراً.
تمبكتو
لكن كل تلك الأسئلة والمخاوف أزيحت جانباً وأستبدلت بأخرى تتعلق بالكيفية التي صنع بها أسامة فيلماً جمع فيه الموضوع مع الطيف الجمالي الذي يؤطره بطريقة أحالته الى منجز يحسب للسينما العربية في دورة قلت فيها مشاركتها فأنحصرت بأسامة والموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي قدم بدوره فيلماً جيداً عالج فيه ظاهرة التطرف الديني وممارسات تنظيم “القاعدة” في مدينة “تمبكتو” المالية التي يدخلها من بوابتها الصحراوية بقصة أبطالها سكانها البدو الذي وجدوا أنفسهم فجأة أسرى عند مجموعة منهم سرعان ما بسطوا حكمهم فوق رمالها وأحالوا الحياة فيها الى سجن ومحاكم منعت كل متع الحياة البسيطة فيها، فلم يعد مسموحاً للغناء أن يرتفع صوته في بيوتهم وحرمت على صبيانها لعبة كرة القدم. تعمد سيساكو الى حقن كثير من مشاهد فيلمه بجرعات كبيرة من السخرية الى جانب تبريزه القساوة التي يفرضها وجود المتشديين الاسلاميين فيها وصعوبة العيش الى جانب وجود متراكم تاريخي من العنف الاجتماعي كلها جمعها المخرج الموريتاني المعروف وصنع منها فيلماً جميلاً ومقنعاً وبه الى جانب الوثائقي السوري عوضا النقص العربي في المهرجان بالجودة.
الوجع السوري في “ماء الفضة”
يترك أسامة في فيلمه الوثائقي “ماء الفضة” للحوار وللصور حرية السير بأنفراد متداخل، يجريان في نسق درامي متناظر لا يعبر أحدهما عن الآخر مباشرة بالضرورة لكنهما يؤديان وظيفتيهما التقنية والسردية في أنسجام داخلي قلما يجربه المخرجون العرب لكونه يشترط معرفة جيدة بالتيارات الحداثوية في السينما التسجيلية التي تخرج عن الأطارات التقليدية في الشغل السينمائي وترتكن في طريقة معالجتها على عناصر تقنية تبدو ظاهرياً خارجة عن النسق العام للمشهد الواحد، كما فعل أسامة محمد حين ترك الحوار بين صاحبة الكاميرا الديجتال “سيماف بدرخان” وبينه يأخذ مساراً شبه مستقل عن الذي تسجله كاميراتها من وقائع على الأرض في مدينة حمص في حين ظل تعليقه يقارب بين الوجع الشخصي وبين الجحيم الذي يعيشه الشعب السوري في حرب طاحنة مخيفة لدرجة يبدو فيها الكلام الموازي للصورة يعمل على تخفيف صدمتها العكسية عند المتلقي وبهذا سيكتب أسامة فصولاً شعرية تعبر عما في داخله ودواخل صديقته في الداخل والتي ستكون صوت الناس هناك في “الجحيم السوري”.
عبد الرحمن سيساكو
لا يهتم أسامة بنوع الصورة المرسله اليه فنياً، بل يركن أحياناً على غشاوتها ليعزز من قوة مصداقيتها سيما وأنه لم يشرف بنفسه على خلقها ولم يعرف ظروف تصويرها لهذا راح يحول الصورة نفسها الى مادة تواصلية بينه وبين البلاد التي تركها مقهوراً وهي من ولدت لديه فكرة فيلمه الذي أراده أحتفاءً بالسينمائيين المجهولين الجدد وبالشهداء منهم. لقد أراده فيلماً عن السينما في زمن الحرب والدمار فكان. أراده فيلماً عنه عن السينمائي السوري المنحاز لشعبه في صراعه غير المتوازن مع آلة قتل مخيفة لم يرض بترك ما أحبه فتحايل على نفسه وأقنع صديقته لتكون عيناه هناك فيما راح هو يوثق عذابه الشخصي في منفاه بكامرته، فتجمع أمامنا أكثر من شريط سينمائي كلها كانت تسير في زمن سينمائي واحد متباين في تنوعه الجغرافي والخطابي في ذات الوقت، لدرجة يبدو وكأن خاماته البنائية قد ترك لها كامل الحرية لتقرر الشكل النهائي الذي سيظهر به والنتيجة جاءت: صورة مؤثرة وموضوع متماسك لم تغير التفاصيل الكثيرة من ضياعه فظل السينمائي المجهول حاضراً والمخرج الجديد صانعا متعاوناً مع “صاحب” الوثائقي الذي لم يتركنا دون أن يذكرنا أنه قد ورط صديقته معه وخاف عليها أن يكون مصيرها مصير الذين سبقوها في أقتناص اللحظة /الشهادة والإدانة غالية الثمن.
وسط كل الصخب الذي يملأ الجو والصراخ وعويل الجرحى وبكاء الأمهات الثكالى كان ثمة شغل مدروس على علامات ثابتة في المشهد العام تجلى في الطفل الذي خسر والده وفي حيوات الحيوانات المنتمية الى نفس المكان وكيف تتقاسم معهم نفس المصائر الدرامية.
من ماء الفضة
لقطات قطط الحي وكلابه أضفت على المشهد حزناً تراكم فوق الحزن الذي تسببته مشاهد الدمار البشري في مدن سورية كثيرة فصار وجودها والطفل وتفاصيل الحياة في حمص على وجه التحديد جزءًا عضوياً من الفيلم الذي أنتقل بفضلهم من مجرد تسجيلي محايد لوقائع حرب دائرة الى فيلم عن الحياة وديمومتها، وبالتالي يمكن القول ان “ماء الفضة ” فيلماً تحليلياً، على رغم عجالة انجازه ورؤية صاحبه فيه تؤسس لقراءة مستقبلية على وقع الخراب ورغبة الناس في السير فوقه نحو الحياة نفسها وهذا بالضبط ما نعنية ب “مستقبليته” من ناحية تحليله لأحداث حرص أسامة على الرجوع اليها ليؤرخ وقائعها لا رغبة منه في تعزير المحاججة ضدالنظام فحسب بل أرادها تسجيلاً تاريخياً لحراك بدأ سلمياً في الوقت الذي أراده النظام صراعاً دموياً سمح لأطراف خارجية للدخول على خطه ولهذا حرص أسامة على العودة لبديات درعا وصولاً الى تدخل المتطرفين الدينيين على خطها وكيف صاروا عبئاً على من أدعوا أنهم جاؤوا لنصرتهم وفي الحقيقة ساعدت المراجعة النقدية للتجربة ولو من بعد على أضفاء قدر من الموضوعية لقراءة الوثائقي السوري لنفسه بوصفه شريطاً عن لحظة زمنية، يوميات حرب، مكثفة تعبر عن تناقضات تتجاوزها نحو تفكيك مبسط لمكونات الصراع السياسي الاجتماعي في سوريا الذي يفسر بدوره لماذا قادت تلك المظاهرات العفوية السلمية الى دخول البلاد في “جحيم” بشري مروع قربه “ماء الفضة” لينا في منجز يحسب لصانعه ولمهرجان أقتنع في أفساح حيزا له في برنامجه المكثف والمتشدد في ضوابطه كما فعل مع المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي أشركه في مسابقته الرسمية ليتنافس مع الكبار في فيلمه “تمبكتو”.