الفرنسي لويس دو فونيس: “مائة عام من الضحك”

ندى الأزهري- باريس

بعد ثلاثين عاما من غيابه ما زال لويس دو فونيسLouis de Funès الممثل الكوميدي الفرنسي الأكثر شعبية في تاريخ السينما الفرنسية. تنتمي أفلامه إلى ” السينما الشعبية”، ويعتبره سينمائيون فرنسيون ممثلا ” للتراث الثقافي الكوميدي الفرنسي”. توصف أعماله بانها “عابرة للزمن”  فما تزال تستقطب نفس الأعداد من المشاهدين في كل مرة تعرض فيها على كافة محطات التلفزيون الفرنسية الخاصة والعامة، فهو ينجح في إضحاك الأجيال الجديدة كما سبق واضحك الأجيال السابقة.
شهرته تجاوزت حدود فرنسا، ودبلجت أفلامه إلى معظم اللغات الأوربية و عرضت في كل أنحاء العالم. في هذا العام يُحتفل بمرور المئوية الأولى على ولادته وقد عرض بهذه المناسبة الفيلم الوثائقي ” مائة عام من الضحك” للفرنسي ماتيو آلارد على محطة “8 Direct” الفرنسية.

لويس دو فونيس

يبرز الفيلم الدور الكبير الذي لعبه هذا الممثل في السينما الفرنسية وفي نشرها محليا وعالميا. وتتناوب فيه مشاهد “تاريخية” حفظتها الذاكرة الفرنسية من أفلام دو فونيس، مع لقاءات من الارشيف معه ومع معاصريه من السينمائيين، إضافة إلى مشاركات مخرجين مثل كلود زيدي وجان بيار موكي والمخرجة وكاتبة السيناريو دانيال تومسون ابنة المخرج جيرار أوري Gérard Oury الذي عمل معه دو فونيس في عدة أفلام، وممثلين معاصرين مثل ميشيل غالابرو والفكاهي ايلي سيمون إضافة إلى منتجين وصحافيين فرنسيين.
اعتمد الفيلم على تسلسل أعمال دو فونيس ليبدي من خلالها مسيرته الفنية، ويظهر مدى جهده وعطائه للوصول إلى ما وصل إليه، فلم يسيطر ممثل فرنسي على صندوق الإيرادات كما فعل. كان نجاحه منقطع النظير، فكيف تمكّن هذا الممثل “الرمز” بحركاته وايماءاته التي لا تُقلدّ  من أن يصبح أحد العباقرة الكوميديين في القرن العشرين و يستمر تأثيره إلى اليوم؟

بدايات
كان دو فونيس ممثلا مسرحيا و في السينما كان يتنقل بين أدوار ثانوية لم يكن بعضها يتجاوز قول جملة. في ” عبور باريس” ( 1956 ) La Traversée de Paris بدأ بلفت الأنظار إليه رغم وقوفه إلى جانب كبيرين من كبار السينما الفرنسية حينذاك جان غابان وبورفيل، ففي هذا الفيلم تجلّت ملامح شخصيته التي بدأ برسمها. ثم أدى، سنة بعدها، دورا رئيسا نال عليه ” جائزة الضحك” و لقي نجاحا غير متوقعا. تتابعت أدواره مع المخرج جيرار أوري خاصة، حتى عام 1964 الذي كان حاسما في حياته المهنية، وكان عمره هذا حينها خمسين عاما. بدأ آنذاك تعاون هذا الممثل الساحر بخفة ظله مع المخرج جان جيرو، لقد بدآ سلسلة أفلام” الشرطي” وكان أولها ” شرطي سان تروبيه” Le Gendarme de Saint-Tropezحيث فرضه جيرو على المنتجين غير المتحمسين له تماما كما يكشف الوثائقي. يكرس الشريط وقتا للحديث عن هذا الفيلم” العلامة” الذي جسد فيه دو فونيس شخصية مارشال في الشرطة يفرض الامن في قرية سياحية صغيرة في جنوب فرنسا. لقد حمل عبء الفيلم على كتفيه وبدرت منه مواقف وعبارات ومشاهد علّمت السينما الفرنسية. ورغم اعتبار الفيلم من الدرجة الثانية والنظر إليه بشيء من الاحتقار لاسيما أنه تزامن مع ظهور “الموجة الجديدة” في فرنسا، فقد فاجأ الجميع بنجاحه المذهل وتصدره صندوق الإيرادات.

ضحك للجميع!
بدأت سنوات التكريس، ولم يكن دو فونيس ينزعج من تمثيل فيلم تلو آخر، لقد نجح شهرين بعدها في ” فانتوماس” وخطف فيه الأضواء، خلافا لكل التوقعات، من شريكه البطل الشهير و الوسيم “جان ماريه”. وتأكدت شخصيته النادرة في الأداء التي ابتكرها والمعتمدة على الحركة والتكشير والتي من السهل إثارة غضبها ونرفزتها. في حركاته شيء ما يُذكّر بالرسوم المتحركة، يقول المخرج الفرنسي كلود زيدي و” ما يقوم به من فانتازيا وجنون يعود إليه وحده”، هو وحده الكفيل بهذا الأداء. لقد أدرك أنه بعمل تقطيبات وحركات أخرى بوجهه فسيخلق شخصية كما قال المخرج موكي. إنما لو كان أداؤه يعتمد على الحركات الجسدية فحسب لأضحك الأطفال فقط، لكن دو فونيس يضحك المثقفين كذلك، فما “يرويه عن الإنسانية هو سر نجاحه” كما يقول صحفي في الفيلم.

لقد كان يعرف ” كيف ينهي مشهد وكيف ينهي جملة”، وتلفظ بعبارات شهيرة مثل ” هذا ليس بسيء، إنه شديد السوء”! يمكن أن يكون الشرير والبريء الساذج، وحتى حين يمثل ” الشرير فإننا نتعلق به وهذا شيء سحري” يعلق صحفي في الفيلم.
ينجح الشريط تماما في السرد المتناوب وفي إيجاد المشاهد التي تعبر تماما عن تعليقات وآراء المشاركين، فحين تتحدث الممثلة آني كوردي عن طريقة لفظ دو فونيس، يأتي المشهد المطابق لتقليدها له.
وتطرق الفيلم طويلا للحديث عن الثنائي الفكاهي” دو فونيس، بورفيل” التي تركت أثرها للأبد في السينما الفرنسية. لقد قدم ثلاثة أفلام أشهرها ” لو كورنيو”Le Corniaud لجيرار أوري عام 1965. كان مخاطرة بحق لكنها نجحت. اعتبر الفيلم منعطفا في تاريخ السينما الفرنسية فقد شاهده أكثر من أحد عشر مليون شخص.. وكان على  دو فونيس فيه أن يجد مكانه بجانب هذا الممثل الكبير الذي رضي أن يضع اسم دو فونيس قرب اسمه..كان الحديث عن هذا الفيلم مناسبة لتحليل نقاط التشابه والاختلاف بين الممثلين وعن ايقاع الفكاهة لكل منهما وارتجالهما للحوار كما ذكرت تومسون صعوبة تعامل أي مخرج مع حساسية ممثلين كبيرين.
بات اسمه كفيلا بجذب الناس، وبدأ يصبح الرقم واحد في السينما الفرنسية. السنة التالية كُتب سيناريو آخر خصيصا لهذا الثنائي. فيلمه ” لا غراند فادروي”( النزهة الكبرى) La Grande Vadrouille، جذب 17 مليون شخص وكان حدثا بكل معنى الكلمة” عن فرنسا اثنان وعشرون عاما بعد تحريرها من النازية، حيث نضحك من الاحتلال بدون تفكير، لقد نجح السيناريو في ابتكار لم يسبب آلاما للفرنسيين”.

خوف من الفشل
تابع دو فونيس أدواره الكوميدية بعيدا عن زميله الذي كان ينوّع في ادواره. فهو لم يكن بحسب أحد السينمائيين في الفيلم يرغب بالاقتراب من الادوار الدراماتيكية بسبب قلقه من التجريب ومن اختفاء النجاح لأنه نجح متأخرا ” وبحسب ما قاله الممثل ” غالابرو” الذي شاركه في سلسلة الشرطي فإن ” السينما فظيعة ويجب عدم الفشل فيها و لذلك كان دو فونيس متيقظا”
تابع بنجاح مع ايف مونتان في ” جنون العظمة”La Folie des grandeurs وكان تعاونهما غريبا لا ختلاف شخصيتيهما ولكنهم اتفقا، وكما قال دو فونيس” في فيلم كوميدي وعلى خلاف الفيلم الدراماتيكي لا بد من اتفاق الأبطال”! ثم أثار الوثائقي شخصية الحاخام التي أداها دو فونيس في “مغامرات رابي جاكوب”Les Aventures de Rabbi Jacob الذي أخرجه جيرار أوري. وكما ذكرت  تومسون فقد أراد والدها الحديث عن الجالية اليهودية التقليدية في باريس، و رغب أن يُدخل في هذا “شخصية رجعية وعنصرية وتشبه الفرنسي العادي”. خرج الفيلم في ” سياق سياسي معقد “، كانت حرب أوكتوبر 73 قد بدأت. و رغم أنه ” كوميدي بحت”، فقد مرر فيه دو فونيس رسالة انسانية نادرة بحسب أحد الصحافيين. أما المخرج فكان واعيا لدوره” لم يكن دورنا ممارسة السياسة وكنا متيقينين أن ثمة ما سيلمس قلوب الناس خلف الضحكة”. ورغم هذه الظروف قرر الإنتاج توزيع الفيلم الذي استقطب سبعة مليون مشاهد.

كانت طاقته هائلة لا تصدق وفي منتصف السبعينات أصيب هذا الذي طالما أعطى من نفسه وجسده بأزمة قلبية، فاتبع استراحة إجبارية في قصره وتفرغ لشغفه الدائم: الاعتناء بالجنينة. عاد في العام التالي ليتصدر الواجهة وصندوق الإيرادات مع ستة ملايين ونصف مشاهد . لقد شاركه ممثل فكاهي جديد هذه المرة كان يصعد بسرعة في فرنسا، ” كولوش” اخذ دور ابنه في ” الفخذ أو الجناح” الذي يسخر من الغذاء الصناعي.
دو فونيس في النهاية مع إدراكه لضعف السيناريو في أفلامه، الأخيرة منها خاصة، عبّر لأحد زملائه عن حلمه بالتصوير مع المخرج الكبير ” بولانسكي”! لم يحصل هذا بل عاد إلى العمل مع جان جيرو ومّثل” البخيل” لموليير. وجاء النقد قاسيا. ثم جاء أخيرا، بحسب الفيلم، ” أحد الأفلام النادرة في العقدين الأخيرين من حياته, حيث لم يمثل فيه دور رئيس شركة أو شيء من هذا القبيل بل رجلا بسيطا”. وكان الانتقال يتم بثوان من “الضحك والمرح إلى الدراماتيكية”. فشل الفيلم ولكننا ” نغفر لدو فونيس كل شيء” كما عبر ايلي سيمون.
لقد وافاه الأجل عن 68 عاما في ” نانت” بعد خروج فيلمه الأخير ” الشرطيون والشرطيات” الذي استنفذ قواه وظهر فيه منهكا ولكنه مثله بشجاعة هائلة بحسب من شاركه. لويس دو فونيس 140 فيلم وبطل صندوق ايرادات السينما الفرنسية خلال عشرين عاما من الستينات إلى الثمانينات، إنه مثال السينما الشعبية الكبيرة. وكما عبر سينمائي ” إنه طفولتي وكل لحظات السعادة والضحك.. يرافقنا على الدوام شعور بالغبطة في نهاية أفلامه”.


إعلان