“صائد الثعالب” في مهرجان “كان”: جنون الثراء!
أمير العمري- مهرجان كان
من أهم ما عرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي السابع والستين (14- 25 مايو) الفيلم الأمريكي “صائد الثعالب” Foxcatcher لبنيت ميللر المخرج الذي سبق أن قدم بنجاح كبير فيلم “كابوت” (2005) Capote وفيلم “كرة المال” (2011)- Monetball . والفيلم الجديد هو فيلمه الروائي الثالث (أخرج فيلمين تسجيليين أيضا).
لا يوجد هنا صيد للثعالب، فالإسم أطلقه الملياردير الأمريكي جون دي بونت John du Pontعلى ضيعته الشاسعة في فيلادلفيا، المليئة بحمامات السباحة، والمزارع وملاعب الجولف والتي أحاطها أيضا بأسوار محروسة بمعدات عسكرية ثقيلة. وهو يعيش مع والدته المسنة (تقوم بالدور فانيسا ريدجريف) التي تعشق تربية الخيول النادرة.

تعتمد أحداث الفيلم، التي تدور أساسا حول شخصية دي بونت، على أحداث وشخصيات حقيقية، ففي عام 1996 أطلق الملياردير الأمريكي جون دي بونت- وريث الأسرة العريقة التي تمتلك معامل منتجات كيميائية- ثلاث رصاصات على ديف شولتز، المصارع المرموق حائز الميدالية الذهبية، فقتله دون أن يكون هناك سبب محدد لتلك الجريمة. وقد قبض عليه وحكم عليه بالسجن وتوفي في محبسه عام 2010. ومن هذه النقطة التي تبدأ وتنتهي عندها الأحداث، اي جريمة القتل، ينسج كاتبا السيناريو الموهوبين دان فوترمان وإي ماكس فراي، E. Max Frye, Dan Futterman خيوط سيناريو الفيلم، فيطرقا كل الدروب التي تقود إلى تلك النهاية الدرامية العنيفة، ويطرحان الكثير من الافتراضات الدرامية.
طغيان المال
دي بونت نموذج لطغيان المال، أي عندما تصبح الثروة مصدرا، ليس للسعادة، بل للشقاء، للأسى والألم، خاصة عندما يكون الشخص الذي يتمتع بالثراء الشديد مثل دي بونت، شخصية مهتزة (إنه يعيش مع والدته التي تبدو شخصية مهيمنة لا يمكنه مواجهتها)، معزولا عن العالم، ليس له أصدقاء، يستند إلى قوته المالية في شراء احترام الآخرين بل وخشيتهم منه أيضا. وهو ذو ملامح تشي بالضعف بل والقبح، ضعيف البنية، قصير، ذو أنف بارز كثيرا، وأذنين مستطيلتين، يحيط نفسه بمظاهرالقوة، يمقت الخيول التي تقتنيها أمه، محب للطيور التي يستمد منها- كما يقول- بعض الحكمة، وقد ألف بعض الكتب في هذا المجال.
على الجانب الآخر هناك مارك شولتز (27 سنة) بطل المصارعة الحرة الذي حصل على الميدالية الذهبية في أولمبياد لوس أنجليس عام 1984، لكنه لم يحقق شيئا بعد ذلك وأصبح يعرض على تلاميذ المدارس أهمية رياضة المصارعة، يعيش حياته وحيدا في مسكنه المتواضع وحيدا بلا أصدقاء. أما شقيقه الأكبر “ديف”، فهو متزوج من”نانسي” (سيينا ميللر) التي أنجب منها طفلين والأسرة تقيم في كلورادو حيث يرتبط ديف بعقد عمل في تدريب المصارعين الشباب، وهو متفوق وناجح في هذا المجال بالإضافة إلى أنه يختلف في تكوينه الشخصي عن شقيقه الأصغر مارك، فعلى العكس من مارك هو قوي الشخصية، اجتماعي، ناجح في حياته الزوجية. وهو أيضا الذي قام بتربية مارك بعد وفاة والديهما وكان مارك في الثانية من عمره.

يتلقى مارك ذات يوم مكالمة هاتفية من ضيعة الملياردير دي بونت، يقال له إن الرجل يريد أن يلقاه، يرسلون له تذكرة سفر بالطائرة، ويتم نقله من المطار بمروحية الى ضيعة “فوكس كاتشر” حيث يمر أولا باستجواب تفصيلي عن مسار حياته من جانب مدير أعمال الملياردير، ثم يلتقي بالرجل فيجده متواضع المظهر بل يشي بالضعف الجسماني. يطلعه دي بونت على المركز الضخم الذي اقامه داخل الضيعة وزوده بكل مستلزمات التدريب على المصارعة، ويطلب منه أن يعمل لديه كمتفرغ يتدرب من أجل المشاركة في أوليمبياد باريس حيث يحصل على الميدالية الذهبية، ثم دورة سيول الأوليمبية في 1988 التي يريده أن يحقق فيها فوزا على الاتحاد السوفيتي ومصارعيه، ويسند إليه تدريب مجموعة من المصارعين الشباب الذي سرعان ما يلتحقون بالضيعة أيضا.
يقيم مارك في مسكن فخم يمنحه له دي بونت داخل الضيعة. العلاقة بينه وبين دي بونت غامضة الى حد ما، لكننا نلمح ميول واضحة من جانب دي بونت تجاه مارك.. إنه يطلب منه مثلا، تدريبه على المصارعة من أجل التلامس الجسدي، ويعلن أنه يحبه مثل ابنه، وأنه يريد أن يصبح صديقا له. دي بونت يريد أن يجعل مركز التدريب الذي أسسه في ضيعته مركزا لتدريب اعضاء الفريق الوطني للمصارعة، وهو يتبرع بنصف مليون دلار لاتحاد المصارعة الأمريكي مقابل أن يقبلوا عرضه، وفي حفل كبير يقام تكريما له، يصر على تدريب مارك على القاء خطبة يشيد فيها به، ويعترف بفضله عليه ويقول إنه بمثابة الأب بالنسبة له.
لا يكشف الفيلم تفاصيل تطور العلاقة بين دي بونت ومارك، كما لا يكشف الكثير عن علاقة دي بونت بأمه، لكن هناك الكثير من التلميحات والإشارات الكامنة تحت جلد المشاهد، توحي وتشير، دون إقتحام أو مباشرة. ما نراه أن دي بونت يسيطر تدريجيا سيطرة تامة على مارك، يغدق عليه ويمنحه الكثير من المال، ويغويه بتعاطي الكوكايين، ويتناول الشراب معه، ويقنعه بالتخلي عن شقيقه ديف، والتحرر منه، والاعتماد على نفسه.

يتغير مظهر مارك الخارجي، ويصبح ضعيفا مهملا، ولكنه يبدأ، في الوقت نفسه، في الإحساس بالتمرد على سيطرة دي بونت المتصاعدة عليه، فالرجل يريد أن يصبح المتحكم الأول في تدريبات المصارعين، ويطرح نفسه أمام الإعلام باعتباره المدرب الحقيقي لهم، ويقرر استبعاد مارك من التدريب، والاستعانة بشقيقه ديف مهما كلفه الأمر. وسرعان ما يحضر ديف (ونفهم أنه قبل عرضا لا يمكنه سوى قبوله تحت الإغراء الكبير بالمال!). وتتعقد العلاقة بين ديف الذي يتولى تدريب المصارعين، وبين مارك، وفي سيول يفشل مارك في مباراة أولى قبل أن يتمكن بفضل مساعدة ديف من استعادة لياقته وتحقيق الفوز، ولكن دي بونت يعود فجأة الى أمريكا بعد وفاة والدته.
في مشهد رئيسي يأتي مخرج أفلام تسجيلية يضع الكاميرا داخل قاعة التدريب أمام ديف ويوجه له سؤالا أساسيا حول دور الملياردير دي بونت كمعلم وملهم له ويطلب منه تكرار هذا المعني أي الاعتراف بولاية دي بونت عليه كمعلم.. الأمر الذي يبدو مثل المزحة بالنسبة لديف، لكنه يبدو مضطرا لترديد ما يراد منه دون حماس ودون إحساس. ويكون مارك قد غادر الضيعة بعد أن أعلن بوضوح أنه لن يستمر في العمل مع دي بونت. وتمر سنوات، ونصل الى المشهد التراجيدي حيث يلقى ديف مصرعه بالرصاصات الثلاث التي يطلقها دي بونت عليه. هل فقد دي بونت عقله؟ هل وصلت حالة البارانويا إلى ذروتها؟ المعلومات التي نقرأها على الشاشة في نهاية الفيلم تقول إن المحكمة وجدته مذنبا ومسؤولا عن أفعاله وبالتالي حكمت عليه بالسجن المشدد.
دراسة الشخصية
هذا فيلم من أفلام دراسة الشخصية، من جميع جوانبها، مع إهتمام كبير بالتركيز على الملامح الجسدية، وطريقة الحديث، وتجسيد التناقض بين الضعف الجسدي والقوة المالية، وبين المصارع القوي المفتول العضلات، والملياردير الضعيف البنية. وينتقل الفيلم من مشاهد تصوير تطور العلاقة بين دي بونت ومارك، إلى مشاهد التدريبات ثم المباريات، التي يقدمها المخرج بنيت ميللر ببراعة كبيرة، مع القدرة على خلق إيقاع سريع متدفق مع تتابع شديد الدقة. والفضل يعود، إلى براعة مدير التصوير الكبير (من أشهر أفلامه “ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل” Zero dark Thirty لكاثرين بيجلو) وكذلك إلى المونتاج الممتاز الذي يميز الفيلم كله والذي قام به ثلاثة مونتيرين هم ستيوارت ليفي وكونور أونيل وجاي كاسيدي Stuart Levy, Conor O’Neill, Jay Cassidy .
يعتمد المخرج بنيت في بناء المشهد على الأداء والميزانسين والمونتاج: السيطرة المدهشة على الأداء، ويكمن أساس النجاح هنا، أولا في دقة اختيار الممثلين المناسبين للأدوار الرئيسية ثم بناء علاقة حقيقية بينهم وبين الشخصيات التي يؤدونها، والتي تقتضي الكثير من البحث والدرس والتعلم. أما مكونات الصورة فأكثر ما يميزها الديكورات التي تضيف إلى الشخصية بل وتساهم في تجسيد ملامحها: العلم الأمريكي الموجود فوق المكتب الكلاسيكي الفخم الذي يجلس وراءه دي بونت، ديكورات شقة مارك، ثم مسكنه في الضيعة، مكتب دي بونت، صورة (بورتريه) لينكولن وجورج واشنطن..وغير ذلك.

الأسلوب
إن بطل الفيلم (النقيض للبطل التقليدي أي البطل المضاد anti-hero) وهو جون دي بونت، نموذج للطبقة العليا الأمريكية التي تنتج نماذج متعصبة وطنيا، أقرب إلى الفاشية، تتمسك بالقوة الأمريكية، دافعه الرئيسي كما يقول، أن تنهض امريكا مجددا، وهو يلوح كثيرا بقدرة السوفيت على تكوين رياضيين لا يقهرون، يريد أن يصنع مصارعين يبرزون القوة الأمريكية ويقهرون السوفيت في دورة سيول. وهو يحرص على إحاطة قلعته بالمعدات العسكرية بل ويصر على الحصول على مدفع سريع الطلقات من مقاس 50 مم: المال الوفير، القادر على خلق الاهتمام بالرياضة والمصارعة الحرة تحديدا كمظهر من مظاهر القوة، مع القوة العسكرية، والتدريب العنيف بلا رحمة، كلها تجسد تلك الرغبة في فرض الإرادة، بغض النظر عن المشاعر الإنسانية، إنه طغيان المال والقوة الذي ينتج بالضرورة، الفاشية الأمريكية، والروح العدوانية والرغبة في التفوق وقهر الآخرين.
هذا فيلم متكامل، تضافرت له كل العناصر لصنع تحفة سينمائية حقيقية: السيناريو الإخراج والتمثيل، مع عدم إغفال دور التصوير والمونتاج والموسيقى (نغمات البيانو العصبية الحزينة التي تشي بالتوتر الكامن تحت جلد الشخصيات). لا توجد هنا لقطة زائدة ولا لقطة ناقصة. كل مشهد يبدو في مكانه وكل لقطة داخل المشهد في موقعها، وتتابع اللقطات والمشاهد، يضيف ويراكم دون تصاعد خارجي، بل يلعب على الداخلي أكثر، على الحالة النفسية لبطليه الذي تكشف لنا مشاهد الفيلم عنها تدريجيا في كل مشهد.
ويبدو أداء الممثل ستيف كاريل Steve carell مدهش حقا ومفاجيء في قوته وشموخه وتأثيره في دور جون دي بونت، بصوته الحاد، وملامح وجهه الشاحبة، وأنفه النافرة، وعينيه الضيقتين. إنه لا يمثل الشخصية بل يعيشها، ويبدع في تجسيدها، بل إنه في صمته ونظراته الطويلة، يسيطر على الفيلم كله من أول ظهور له، يدفع بنظراته وصمته وتحركاته المحسوبة، بنوع من التوتر المكتوم إلى مقدمة تلك الدراما السينمائية الفريدة، وصولا إلى الذروة. وأمامه ممثل آخر هو تشاننج تاتوم Channing Tatum نقيض له في التكوين، بضعف الشخصية التي يؤديها (مارك شولتز) وعجزها عن أن تتحرر من سيطرة شخصية “الأب” المفترض: كان يجد الأب في شقيقه ديف، والآن تبهره شخصية دي بونت بقوته وتأثيره ونفوذه الكبير، ولكنه يجد نفسه تدريجيا عاجزا عن التأقلم مع كل ذلك الطغيان والرغبة في التملك، وهو يتمرد تمردا صامتا (الرجلان لا يتبادلان الحديث لفترة طويلة إلى أن يخرج مارك من تحت عباءة دي بونت)، ثم يكون انسحابه من حياة دي بونت، مفجرا لمزيد من العقد الشخصية للرجل. وربما يكون فعل القتل في النهاية، قتل ديف.. انتقاما من مارك. من يدري، فالنفس البشرية تظر سرا مغلقا مهما سعت الأفلام إلى الكشف عن أسرارها!
هل سيحصل “فوكس كاتشر” على السعفة الذهبية أم على جائزة أحسن ممثل لبطله ستيف كاريل؟ هذا ما ستكشف عنه نتائج المهرجان التي ستعلن في الخامس والعشرين من الشهر الجاري.