كان: “نظرة ما” تحتفي بمبتكرها..

كان (جنوب فرنسا): قيس قاسم

ماذا تعني عبارة “نظرة ما” التي أطلقها جيل جاكوب الرئيس السابق لمهرجان كانّ السينمائي على أحدى أقسامه وخصص لها جائزة ليست أقل أهمية عن جائزة السعفة الذهبية نفسها؟ حول هذا السؤال قال جاكوب، وقد بلغ من العمر عتيا، في حفل توزيع جوائزها لهذا العام كلاماً موجزاً عنها لم يتطرق الى المعنى الحقيقي لها فقد صار واضحاً ولعقود ما الذي تعنيه بالنسبة للمهرجان وللسينما وصناعها لكنه ذهب الى منطقة ظريفة تتعلق بصعوبة لفظ العبارة  وترجمتها بالنسبة للنقاد والصحفيين الأجانب وكأنه بهذا يؤكد معرفته طيلة تلك الفترة بما كان يدور من جدل حول دقة ترجمتها والخلاف المستمر حولها ليضفي على كلامه جواً حميمياً أراده أن يكون مسك ختام لرحلة أبداع طويلة وتذكير بأبتكار شخصي له في نفسه موضع خاص.

فيلم افضل ممثل

تُوج هذا العام بعروض جيدة من بينها الفيلم الهنغاري الفائز بالجائزة “إله أبيض”  والسويدي “سائح” لروبين أوستلاند الى جانب فيلم “بلاد تشارلي” الذي خرج بجائزة لافتة منحتها لجنة التحكيم الى ممثله الرئيسي ديفيد غولبيليل لكونه ليس ممثلاً بالمعنى المتعارف عليه بل رجل حقيقي من المتبقين من سكان أستراليا الأصليين المهددين بالأنقراض الكامل وعنهم أنجز المخرج رولف دي هرّ ثلاثية بدأت ب”المطارد، 2002″ و”عشرة قوارب، 2006″ أعتمد فيها أسلوباً وثائقياً حين ترك لممثليه حرية التحرك والكلام على سجيتهم دون ألتزام بنص معد مسبقاً ولا بترتيب مدروس للمشهد الواحد وكأنه بذلك يريد نقل حياتهم كما هي في أفلام روائية أستحق ثالثها الخروج بجائزة لقوته وأهمية موضوعه الذي يخص شعب نكر “الأستراليون” القادمون من خارج الحدود وجودهم وأقاموا فوقها دولتهم على حسابهم فيما لعبت السينما دوراً في اعادة قراءة سجلهم التاريخي عبر مجموعة أفلام من بينها “أستراليا” الذي لعبت فيه نيكول كيدمان دور البطولة ولكنه لم يرتق الى مستوى أفلام دي هرّ المدهشة واللصيقة بتفاصيل حياة شعب مسالم تعرض لأبادة ممنهجة يقدمها فيلم “بلاد تشارلي” عبر شخصية مركزية تجسد مصير شعب بأكمله.

توثيق الحياة بالمتخيل
حياة تشارلي تبدو في ظاهرها وفي تفاصيلها اليومية حياة كسولة معتمدة على المساعدات الاجتماعية ومؤطرة بوسط معزول يميل الى تزجية الوقت بالمُسَكرات والتلاعب على النظام المؤسساتي الأسترالي، وفي أفضل درجات التكامل معه يقدم تشارلي وغيره من سكان أستراليا الأصليون خدماتهم كأدلاء لرجال الشرطة بسبب من معرفتهم بالمنطقة وتضاريسها وحتى في هذا الجانب لا يخلصون كثيراً لمكلفيهم كونهم لا يثقون بهم ولا بمهامتهم التي تبدو بالنسبة اليهم غبية وتستهدف الضعفاء المرتكبين لخروقات قانونية بسيطة. هكذا هو الظاهر الذي يعكس التصور الجاهز عند السكان “البيض” والذي يعبر بوضوح عن الموقف الرسمي من وجود بقايا شعب يريدون أزالته حتى لا يتذكرون أبداً طارئية وجودهم على أرض أعتبروها ملكاً لهم ووجود هؤلاء “الأبورجينيون” الدائم يزعج ذاكرتهم ويخدش جمال وجودهم، هكذا الظاهر لكن ما تحيله الأحداث المصورة بواقعية جد شديدة، يوصلنا الى جوانيات تشارلي المعذبة والتي تدفعه لممارسات هي في جوهرها وسائل يريد بها وضع حد لحياته التي لم تعد لها معنى في ظل حصار اجتماعي/ اقتصادي مدروس، يضعه وشعبه في زاوية لا تسمح بتجاوز ماهو مرسوم لهم بخبث المستعمر وعقليته المتفوقة والتي تتمثل في الجزء الأخير من الثلاثية بأجهزة الشرطة ورجالها الذي يلاحقون المساكين ويتصديون أخطاءهم لينغصوا حياتهم البسيطة ويزيلوا الضحكة البريئة عن شفاههم.

كورنيل موندريستو                                                  رولف دي هرّ

التقابل بين “الأبورجينين” والشرطة يفضي الى تصادم لا يمكن تجنبه لأنه في الأصل مواجهة بين وجودين لا يريد المسيطر أن يعترف بهما ومن هنا فالشرطة وفي سلوكها الوظيفي تعبر عن مصالح عليا، في حين تمثل سلوكيات تشارلي ونزعته الداخلية الشديدة في تجاوز المظاهر العصرية والذهاب عميقاً وسط الغابات الطبيعية معادلاً لها ومتناقضاً معها.
يغدو الفيلم وفي تطوره الدرامي بحثاً أنثروبولوجياً في تاريخ شعب أُطلق عليه تسمية تعود الى لون بشرته الى وجوده الحقيقي التاريخي الجغرافي في منطقة غاية في الغنى على المستويين الطبيعي والمعرفي والذي يعود تشارلي الى تجسيدها لنا من خلال ذهابه الى وسط الأدغال ليصطاد الأسماك بأدوات من ذات الطبيعة وليتخلص من شروط العيش في مدن هو وشعبه غير مؤهلين للعيش فيها وهنا سيغدو التناقض صارخاً بين أستخدام الأسلحة النارية الحديثة وبين وسائل الصيد القديمة والعيش وسط الغابة كحلم يستدعي في أذهان سكان الأرض الأصليين أسئلة عن سبب وجود الغرباء وسيطرتهم على كل شيء فيها؟ ومن هنا سيغدو عنوان الفيلم “بلاد تشارلي” أكثر تعبيراً عن حالة الصراع الوجودي بين الطرفين، فبالنسبة اليه هذه هي بلاده ويريد العيش فيها كما يحلو له فيظهر لهذا السبب وحين يتساوق في درجات عالية مع موروثه التاريخي الطبيعي غريباً ومعرضاً للمحاسبة والتهميش من قبل السلطات الأسترالية. خاتمة ثلاثية رولف دي هرّ ممتعة عميقة أستحق عليها ممثلها الفوز بجائزة أفضل ممثل وأستحقت لجنة تحكيم “نظرة ما” الثناء على خيارها الذي تجاوزوا به مُسلمات تقنية تتعلق بالممثل وتعريفه سينمائياً حين تعاملوا مع بطله كمؤدي بارع بغض النظر عن خلفيته الأكاديمية مركزين بالأساس على ما يقدمه على الشاشة، وما تعرضه الأخيرة من مشاهد لحياة شعب قيد الأنقراض. وعلى مستوى ثانٍ يسجل لها منحها جائزة أفضل فيلم للهنغاري “إله أبيض” لكونه يعد بفضل بعض مشاهده عملاً كبيراً على عكس ما توحي به تفاصيل الحكاية نفسها والتي تبدو عادية تتعلق بالمراهقة ليلي (الممثلة جوفيا بشوتا) وعلاقتها بكلبها هاجن من جهة وبعائلتها المفككة من جهة ثانية.

مسخ وعنف مضاد
 المشهدان الأفتتاحي والختامي رفعا من قيمة الفيلم كثيراً لأنهما أحالا العلاقتين الى رموز فكرية تحلل طبيعة الكائن البشري وخطورته على نفسه وعلى ما يحيط به لدرجة يحول فيها أحياناً كل ما هو سوي الى مسخ وعلى غير طبيعته، وحالة كلب ليلي مثالاً أراد المخرج كورنيل موندريستو عرضها في أطار مسار ما تعرض له من تجارب قاسية غيَّرته وأستدعتنا للتفكير بسلوكيات البشر وقدرتهم على صناعة الشر. التحولات التي طرأت على طبيعة وسلوك هاجن تحيلنا الى التفكير في  مفهوم صناعة “العنف” وكيف يَفرض في ظل تضافر عناصر مكملة شروطاً تخرجه من “الفردي” الى “الجماعي” وتقود عملية التحول القسرية الى أستحداث شروط جديدة مثل: بروز الحاجة الى “القائد” وسطوته اللاحقة الى جانب أمكانية أعتبار التحولات التغييرية وفي لحظة تاريخية ما ب”ثورة” ضد الإله المتخيل خالق العنف وهذه المرة سماه الفيلم بوضوح “أبيضاً” رغم أن الحكاية نفسها لا تتضمن تميزاً عرقياً أو سياسياً لكنها تشير الى قوة “مسيطرة” مسخت كلباً وديعاً وحولته الى وحش قرر الأنتقام بدوره منها بقسوة فاقت قسوتها وفسرت لماذا يكون العنف أحياناً تعبيراً عن ردود فعل مضاد للعنف المسلط على الضعفاء والذي يقود بدوره أحياناً وليس دائماً بالضرورة الى سلوكيات تُجبر البشر وحتى الحيوان على خيارات “متشددة” وبهذا المعنى يمكن تسقيط حالة الكلب الهنغاري على حالات كثيرة لم يسمها الفيلم ولكنها أستدعت الذهن للتفكير بها عميقاً بعد أنتهاء عرضه.


إعلان