الفيلم والتأويل الايديولوجي
أمير العمري
يعتقد البعض، سواء من الكتاب أو من المهتمين بالسينما، أن الفيلم الجيد هو بالضرورة الفيلم صاحب التوجه السياسي الصحيح. و”الصحيح” تعني عندهم، التقدمي، الليبرالي، الذي ينتصر للخير على الشر، أو ينتقد الشر لحساب الخير، أو يدين ويشجب القهر والتخلف والعنصرية والاستعمار والإمبريالية وتدخلها في شؤون بلدان العالم الثالث مثلا، أي باختصار الفيلم صاحب الرسالة السياسية. ويطلق نقاد الغرب على هذه الرسالة the film politics أي الموقف السياسي للفيلم أو (سياساته) إذا شئنا الدقة الحرفية.

ويتوقف رفض الفيلم أو قبوله، في هذه الحالة، على ما يتخذه من “موقف” سياسي، فإذا كان الفيلم مثلا يدور حول العنصرية هنا ينحصر بحث نقاد (السياسات) على كل ما من شأنه أن يتفق مع نظرتهم التي تدين العنصرية وترفضها وتعريها وتفضحها. فإذا وجد هؤلاء أن بالفيلم بعض المشاهد أو الإشارات التي يمكنهم تفسيرها على أنها قد تصبح سلاحا ذا حدين، أي قد تحمل في طياتها أيضا نظرة عنصرية، يكون الموقف النقدي هنا رفض الفيلم واعتباره عملا فنيا رديئا لا قيمة له من الناحية السينمائية، بغض النظر عن جمالياته التي يمكن أن تكون ملهمة.
عند هؤلاء، لا يكون هناك نقد سينمائي بدون هذا الموقف النقدي “السياسي أو الأيديولوجي” في الأساس، بل يصبح هذا النوع من النقد، في رأيهم، نقدا في “الفراغ”، لا طائل من وراءه ولا فائدة، فكيف يمكن أن يكون هناك فيلم “جميل”، يدعم مثلا النظرة “البورجوازية” للصراع الطبقي، أو كيف يمكن أن نعتبر فيلما ما متقدما من الناحية الفنية، وهو لا يحتوي على ما يؤكد وجهة نظر أو حتى رؤية نقدية للمجتمع الأمريكي، خصوصا، وللمجتمع الغربي عموما: الاستهلاكي، السلعي، الاستغلالي، الفردي الأناني، العنصري..إلى آخر كل ما يمكنك وضعه من اتهامات وأوصاف تحمل صبغة الإدانة.
يتساءل أصحاب هذا الموقف العقائدي المتشدد: “ما قيمة أي فيلم إن لم يكن له موقف ما، سياسي واجتماعي؟ وفي هذه الحالة يتم رفض ما يراه آخرون ممن لا يتبعون المنهج السياسي العقائدي في تصنيف وتقييم الأفلام، واعتبار نظرتهم للفيلم متخلفة أو قاصرة أو تروج لـ”العنصرية” او للإمبريالية أوحتى، للنازية. وهم قد يتساءلون مثلا: كيف يمكن القول إن فيلما مثل “لورنس العرب” عمل بديع فنيا؟ فهل المسألة مسألة صنعة؟ وما أهمية الصنعة وكل الافلام الأمريكية الضخمة أو حتى المتواضعة الامكانيات، أصبحت- كما يقول أصحاب هذه النظرية- متقدمة في الصنعة؟ الا يعكس هذا موقفا رجعيا متخلفا؟!
في هذه الحالة يكون تصوير شخصية رجل شرير في الفيلم مثل تاجر العبيد مثلا، بطريقة جذابة رغم ما في شخصيته من قسوة ووحشية يكشفها الفيلم أيضا،أمرا مرفوضا من جانب النقاد العقائديين. وعند هؤلاء تتشابه كل الأفلام من حيث جودة الصنعة (من إضاءة وتصوير ومونتاج واخراج.. الخ) وهي صنعة لا قيمة لها عندهم فالعبرة بالرسالة النهائية التي يمكن أن نستقيها من الفيلم، أو بمعنى أدق، يستخلصونها هم من الفيلم محل النقد والتقويم والتقييم.

ليس بوسع هؤلاء الناقدين أن يستوعبوا معنى أن يكون الفيلم عملا فنيا بديعا، بعيدا عن جوانب الصنعة التي أشرنا إليها، وبعيدا أيضا عن الرسالة أو المضمون. فهم عادة يتساءلون بغضب: ما معنى فيلم جيد وعلى أي أساس يعتبر جيد��، فلابد أن تكون هناك معايير محددة، وإلا هل المسألة مسألة حرفة أي براعة في التصوير والمونتاج والتمثيل، وما قيمة هذه العناصر التي يمكن لأي سينمائي أن يتعلمها ثم يجيدها إن لم تكن مرتبطة بموقف سياسي واجتماعي متقدم.. وأليست المسألة، أي مسألة النقد- أكبر كثيرا من ذلك؟
سلاح الأيديولوجيا
لقد دارت الكثير من المعارك النقدية والسجال النقدي حول هذه المفاهيم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة. وخلال ذلك ظهر النقد العقائدي الأيديولوجي لدعم الأفكار التقدمية الإشتراكية تحديدا، وكان هدفه التنقيب والبحث في كل ما يأتي من ذلك المعسكر الآخر، الرأسمالي، من أفلام، بعضها كان بالتأكيد، موجها ومدفوعا من جانب الإدرة الأمريكية أو بعض الوكالات التي تمثلها في هوليوود، ومنها أيضا بعض الوكالات “الصهيونية”، لكن معظمها كان يظهر كمنتج إبداعي فردي، يمثل صاحبه، أي مؤلفه ومخرجه، ويعبر عن تطور الوعي السينمائي لديه. بل يمكن القول بثقة أيضا، إن معظم ما كان يظهر من أفلام توجه نقدا سياسيا شديدا للمجتمع الأمريكي وللسياسات الأمريكية، كان يأتي من الولايات المتحدة، وتحديدا، من هوليوود التي يميل الكثيرون ممن ينتمون للمنهج العقائدي، إلى الشطب عليها وإعتبارها قلعة من قلاع الترويج والدعاية للفكر الأمريكي والسياسة الأمريكية، كما لو كان “الفكر” الأمريكي شيئا واحدا مصمتا لا تنوع فيه ولا إختلاف، وكما لو كانت الأفلام تصن فقط طبقا لتوجهات السياسات الأمريكية.
في عام 1974 ظهر كتاب روسي في النقد الأيديولوجي هو كتاب “الفيلم والايديولوجية وشباك التذاكر” للكاتب أ كاراجانوف، نشرته وكالة نوفوستي السوفيتية. وكان يلخص حالة النقد الاشتراكي الأيديولوجي ونظرته المتوجسة تجاه الكثير من الأفلام الغربية التي كان البعض منها يعتبر من الأفلام “النقدية”، والبعض الآخر لاشك أنه كان يصنع بدفع وتخطيط من الوكالات الأمريكية المتخصصة في الدعاية المضادة مثل فيلم “القبعات الخضراء” The Green Berets مثلا الذي إشترك في إخراجه ثلاثة مخرجين وقام ببطولته نجم أفلام الويسترن الأمريكية الشهير جون واين، وبلغت تكاليف إنتاجه سبعة ملايين دولار، وهي ميزانية كبيرة بمقاييس الفترة. وكان الفيلم عملا مناهضا للشيوعية، يدافع عن ويبرر المجازر التي كانت ترتكبها القوات الخاصة الأمريكية في فيتنام خاصة مذبحة “لاي ماي” الشهيرة (مارس 1968) التي راح ضحيتها نحو خمسمائة مدني فيتنامي من المزارعين الفقراء بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، على أيدي فصيلة ذوي القبعات الخضراء.

وكان جون هوارد لوسن John Howard Lasson (1894- 1977)، رئيس شعبة الحزب الشيوعي الأمريكي في هوليوود لعدة سنوات، ثم أحد من أطلق عليهم “العشرة الكبار في هوليوود” ، قد نشر كتابه الشهير “الفيلم في معركة الأفكار” Film in the Battle of Ideas عام 1953 (ترجمه إلى العربية أسعد نديم وصدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة). وهو يعد اليوم كتابا كلاسيكيا في النقد العقائدي الاشتراكي الذي يفسر الأفلام بمعزل عن جمالياتها، مركزا فقط على الجانب السياسي والمفاهيم الضمنية التي تكمن داخل الفيلم، وما تحتويه من “أفكار” معادية للفكرة الإشتراكية أو تشوه القضايا النضالية مثلا. ولعل من أبرز الأفلام التي سلط عليها الضوء في هذا الكتاب فيلم “فيفا زاباتا” Viva Zapata الذي أخرجه المخرج الأمريكي إيليا كازان وعرض عام 1952 أي قبل صدور الكتاب. وكان كل من كازان ولوسن من الذين وقفوا أمام لجنة النشاط غير الامريكي (لجنة ماكارثي) وإتهم كازان وقتها بالشهادة ضد زملائه في الحزب الشيوعي. أما لوسن فقد وضع إسمه في “القائمة السوداء” الشهيرة. وهو لا يعترف قط في كتابه المشار إليه بأي قيمة جمالية أو فنية في فيلم “فيفا زاباتا” Viva Zapata بل يتوقف فقط أمام كل ما من شأنه التشكيك في نوايا صناع الفيلم، ولو بلوي عنق الأشياء بشكل ملحوظ، ويتهم الفيلم بتشويه شخصية زاباتا وثورته (قام بدور زاباتا مارلون براندو) إستنادا إلى أن الموقف السياسي لإيليا كازان لم يكن موقفا “ثوريا” سليما، وأتهم بالتخاذل بل بالخيانة.
وعلى حين يتجاهل لوسن في كتابه أي أبعاد جمالية أو فنية في فيلم “فيفا زاباتا” يتوقف أمام مضمونه الذي يراه منحرفا ليصدر الحكم التالي “إنه لتشويه كبير للتاريخ أن يتجاهل المرء حقيقة أن حركة الفلاحين بقيادة زاباتا كانت جزءا من انتفاضة قومية تتجه أساسا ضد السلطة الامبريالية للولايات المتحدة. لكن الفيلم يصور المكسيك بلدا للجنرالات والسياسيين الفاسدين، دون أن يلقي أي مسؤولية على أي دولة أجنبية بعينها. ويعالج مطالبة الهنود والمكسيكيين البائسين بالأرض كموضوع صراع منفصل ومنعزل، والفيلم يزكي المطلب من الناحية الإنسانية، لكنه يبين منذ البدء، أنه مطلب مكتوب عليه الفشل لأن الفلاحين من “الجهل” و”السذاجة” بحيث لا يستطيعون أن يمسكوا بزمام سلطة الدولة”.
كان النقاش قد إتخذ منذ وقت مبكر، منذ السبعينيات تحديدا، منحى جديدا عندما بدأ نقاد كثيرون في الغرب يراجعون المواقف التقليدية القديمة مثلا من أفلام المخرجة الألمانية الشهيرة ليني ريفنشتال التي اتهمت بالتعاون مع النازية، وبصنع أفلامها للدعاية للفكر النازي والزعيم النازي أدولف هتلر. وكانت الكتابة بشكل إيجابي، إنطلاقا من منهج جمالي وليس أيديولوجيا، عن فيلم ريفنشتال “إنتصار الإرادة” (1937) Triumph of the Will مثلا، أمرا صادما للمعتقدات الراسخة حول ريفنشتال التي سجنت لمدة ثلاث سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم أنها حوكمت أربع مرات، إلا أن المحكمة لم تستطع إدانتها بالتعاون مع هتلر.
كان من الصادم للكثيرين الاعتراف بالموهبة السينمائية الكبيرة التي كانت تتمتع بها ريفنشتال (1902- 2003).. وبالجماليات الواضحة في أفلامها وخاصة “إنتصار الإرادة”، وهو الطرح الذي ردت عليه الكاتبة سوزان سونتاج في مقالها الشهير بعنوان “جماليات الفاشية”!
لا يستطيع كثيرون حتى يومنا هذا قبول فكرة أن الفيلم الجيد ليس هو دائما الفيلم الذي يتبنى موقفا سياسيا أو إجتماعيا متقدما بالضرورة، وليس هو الفيلم الذي قد تتميز فيه عوامل الصنعة على أهميتها، بل هو الفيلم الذي يعرف صاحبه أولا ما يريد التعبير عنه، ويعرف كيف يعبر عن أفكاره بطريقة سينمائية مبتكرة، خلاقة تتجاوز ما هو مطروق ومألوف وسائد.