إيزة جينيني : رائدة الفيلم الوثائقي المغربي
محمد اشويكة
سجلت المخرجة إيزة جينيني أفلامها الوثائقية على كل الحوامل البصرية المتاحة، مستعينةً بشتى التقنيات، بدءا بحجم 16 ملم، وكاميرات ال?يديو، ووصولا إلى الكاميرات الرقمية.. مُصَوِّرَة المغرب بالأبيض والأسود، وبالألوان.. دَوَّنَت الأصوات متفرقة، وممزوجة في آن واحد.. إنها صاحبةُ مسيرةٍ ضاربة في التوثيق للذاكرة المغربية الخصبة. التقطت الأهازيج، واحتفت بالفرح الفردي والجماعي.. جمعت شتات ذاكرة النساء والرجال، الأطفال والفتيان.. خالطتهم حيث هم: في البوادي والجبال، وفي المدن والسهول.. خاطبتهم بكل اللهجات، فغنوا لها أعذب الألحان…

اختلفت رؤيتها عن المقاربات التبسيطية، فكان لأفلامها وَقْعٌ مختلف على العقل والوجدان يجعل المُشَاهِد يدرك بأن امرأة مختلفة وراء الكاميرا؛ إذ استطاعت بعينها المغايرة أن تنفذ إلى عمق الأحاسيس، ودلالة الحركات، وتكثيف التمثلات دون السقوط في إعادة إنتاج الواقع.
نَقَّبَت في التراث، فدونت التعدد في أسمى تسامحه…
ساعد أسلوبها الفني على بلورة حالةٍ تكامليةٍ للفاعلية المغربية كجزء من الحضارة الإنسانية، وهو الأمر الذي تَأَتَّى لها عبر تنويع موضوعات أفلامها مما فتح أفقا خصبا للفيلم الوثائقي المغربي حين كان في أضيق مآزقه، لقد حاولت الابتعاد عن الجدل الإيديولوجي، ورامت هدفا توثيقيا ينأى عن السقوط في فخاخ السجال الذي يتربص بالثيمة العامة لاشتغالها الفيلموغرافي.
تسمح أفلام إيزة جينيني الوثائقية إلى عقد مقارنات، متقاطعة ومتوازية، بين جل مكونات الثقافة المغربية مُسَلَّحَة بمنهج أنطروبولوجي يستند على المعايشة ودقة الملاحظة والانغماس المديد، لذلك جاءت أفلامها راصدة لزخم من الأشكال والتعابير والرموز والأصوات التي تقدم بدائل فنية لا يضاهيها إلا حجم الفنانات والفنانين الذين جمعتهم في مدونتها السمعية البصرية الفريدة من نوعها.
استطاعت إيزة جينيني أن ترصد كثافة التعدد الثقافي للمغاربة وهي تشتغل بفرق تقنية قليلة، وميزانيات عادية، وذلك ما يدل على جسارة الإرادة، ووضوح الرؤية، ونجاعة التواصل الذي يصعب، أحيانا، مَدُّ جسوره الإنسانية عبر تعقيدات الحوارات والوثائق الراكدة في الأرشيفات، ولكن نفضَ غبارِ النسيان عن لحنٍ جميل، أو رقصة خاصة، أو لباس متفرد، أو أكسسوارات عتيقة، أو وشم غائر في جسد معزول.. يُوَلِّدُ إحساسا خاصا بالعواطف المُنْسَابَة عبر شريط وثائقي لا يقاس بطوله أو قصره، وإنما بصدق مادته الفيلمية.

بحَثَت إيزة جينيني عن تفاصيل “الزاي” (Z) (?) في المغرب العميق، فسجلت الحكايات، واقتطفت الطرائف، لذلك جاءت أفلامها كَمَشْمُومِ يجمع في عقده وَرْدَ القبائل وعبقها.. قَارَبَتْ أفلامها بين جُزُرِ الثقافة المغربية من خلال الغناء والرقص.. تفوقت في المزج بين الطرب الأندلسي والملحون والغرناطي.. گناوة والشگوري والگدرة.. أحيدوس وأحواش.. العيطة والدَّقَّة.. أهازيج الصحراء والسهول والجبال والوديان والشواطئ.. أصوات الأفارقة والعرب والأمازيغ واليهود والموريسكيين.. فكانت الأصوات منسجمة، والمتعة حاصلة.
من أشهر أفلامها نذكر: “عيطة”، و”أَعْوادٌ ومسرات”، و”أمداح” (1988)؛ و”الأناشيد الدينية المطرزة” و”أغاني يوم السبت” و”ملحون” و”إيقاعات مراكش” (1989)؛ و”موسم” (1991)؛ و”اهتزازات في الأطلس الكبير”، و”أعراس في الأطلس المتوسط” و”گناوة” (1993)؛ و”استعادة اولاد مومن” (1994)؛ و”كونشيرتو 13 صوتا”، و”أصوات المغرب” (1995)؛ و”طريق الأترج”، و”من أجل متعة العين” (1997)؛ و”قرع الطبول” (1999)؛ و”قصص سيبيرنيطيقية” (2001)؛ و”نوبة الذهب والضوء” (2007)…
إنها فيلموغرافيا وثائقية مكرسة للفنون والثقافة بالمغرب، تسعى إلى تبيان التعدد الديناميكي للإنسان المغربي، واستجلاء حالاته النفسية وهو يتفاعل مع مختلف المكونات الثقافية للمجتمع المغربي، فعندما تصور إيزة جينيني الفن فإنها لا تفصله عن جوهره الثقافي المتمثل في انبثاقه من منظومة عيش ينسجم فيها الفرد مع العوامل الجغرافية واللغوية والدينية.. والتي لا تتناقض مع ظروفه الاجتماعية المتجلية عبر علاقاته مع الآخرين المتعايشين بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو الاختلاف الثقافي واللغوي…
استفادت المخرجة إيزة جينيني من تكوينها في مجال اللغويات عموما، واللغات الشرقية خصوصا، وذلك من أجل أن تبلور رؤية أنطروبولوجية مختلفة للقضية الثقافية بالمغرب، وخاصة مشروعها الذي وَثَّقَت مواده السمعية البصرية والمكتوبة على عدة أقراص مضغوطة تحت عنوان: “المغرب: إيقاعات وثقافات”.

لا تحس، وهي المغربية اليهودية، بأن أفلامهما منحازةٌ لثقافةٍ على حساب أخرى، وإنما يقع المغرب المتعدد والمتعايش في بؤرة كاميرتها المنفتحة على كافة ضروب الثقافات والفنون المغربية التي تمزج بين قوة الملاحظة المباشرة والبَعْدِية، والمزج بين اللغات: لغة السينما ولغات الأفلام (لغات المغرب). فالصورة لدى هذه المخرجة لا تؤرخ لما تصوره فقط، وإنما تتجاوزه إلى اللحظة التي تتفاعل فيها الأشياء، وبهذا يذوب الموضوع السينمائي أثناء فعل التصوير فيصبح للقطة والمشهد حيوية خاصة تنبع من المحيط الذي تمر فيه الأحداث لتنتقل إلى الشاشة ببساطة فنية عميقة…
تتميز تجربة المخرجة إيزة جينيني الوثائقية بطابع التوثيق السينمائي الفوري (Cinéma direct) الذي يعطي الأولوية لاستقلال الكائن على حساب العناية المفرطة بالمشهد، وذلك ما يجعل نظرته تلقائية ومعطاءة وصادقة.. تنقل أحاسيسه الداخلية بشكل متدفق، وتسند مصداقية الفيلم كما هو الحال في كل المَشَاهِد التي تعنى بالرقصات والأهازيج الشعبية حيث لا شيء يعلو على حركات الراقصين والمغنين، ولا تقنية تحجب انسياب انسجامهم واندماجهم أثناء الأداء أو العزف.. وبالتالي، يصعب فصل البعد الفني عن دلالاته الاجتماعية، وعن مرجعياته الثقافية، ويدفعنا إلى اعتبار طرق تصوير الكلام وتسجيله، بحثا متأنيا في العلاقات بين العلامات الفيلمية والعلاقات الاجتماعية التي تحمل أبعادا إثنوغرافية واقعية…