موازين..إيقاعات العالم وموسيقاه تتفاعل على المسرح
الرباط ـ المصطفى الصوفي
تشهد العاصمة على مدار السنة تنظيم العديد من المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية الدولية، والتي تحتفي بمختلف أصناف الإبداع كالمسرح والسينما والفنون التشكيلية وغيرها، وهو ما يؤهلها لتكون العاصمة الثقافية للمغرب بامتياز.
وخلال الفترة الممتدة من 30 ماي الماضي والسابع من شهر يونيو الجاري، شهدت الرباط، حدثا فنيا مميزا، ويتعلق بالدورة ال 13 لمهرجان موازين – إيقاعات العالم، والتي تنظمها جمعية مغرب الثقافات برعاية العاهل المغربي الملك محمد السادس، كرهان حقيقي لجعل الفنون والإبداع والموسيقى بكل أشكالها وتجلياتها، نبع صافي لتفاعل الثقافات وترسيخ القيم الكونية، والإنسانية، تحترم التعددية الثقافية والحضارية، وتوطد الحوار والتواصل ببين مختلف شعوب العالم.

وحفلت هذه الدورة، ببرنامج خصب ومنوع، وطابق فني وموسيقي يغري بالمتابعة والمشاهدة، وذلك من خلال قيمة الفنانين المشاركين في هذا الكرنفال الفني، والذي يحتفي بالموسيقى في أبهى تمظهراتها وتجلياتها الرائعة، ويقدم للجمهور الفرجة البصرية والمتعة الروحية المشتهاة، والتي تتغنى معها الروم، بحثا عن هدوء وراحة بال.
الانفتاح الثقافي والفكري والأكاديمي
وكان المهرجان خلال دوراته السابقة استضاف أسماء مغربية وعربية ودولية لامعة كحسين الجسمي، وكاظم الساهر وأحلام، والراحلة وردة الجزائرية، وماجدة الرومي صاحبة الكلمات التي لا تشبه الكلمات، ووليد توفيق، وعبد الهادي بلخياط، وناس الغيوان، وعبد الوهاب الدكالي وغيرهم كثير، كالتون دجون، وريهانا، وخوليو اغليسياس، ووائل جسار، وجورج وسوف، ومريام فارس، وليونيل ريتشي، وبي بي كينغ، وأحلام الإماراتية ووليد توفيق، وموري كونتي من غينيا ومجموعة سكوربيونز، وشاكيرا، التي قالت في تصريح خلال مشاركتها العام الماضي ان “التاثيرات العربية تعلب دورا مهما في الموسيقى التي أقدمها، حيث العديد من أغنياتي تتوفر على بعض العناصر المشتركة مع موسيقى الشرق الأوسط، كما يبرز هذا التأثير من خلال طريقتي في الرقص الذي يعتبر جزء مهما من أدائي.. إن المغرب بلد ساحر وهو من الوجهات المفضلة لي…”. كل هؤلاء الفنانين ضجت حناجرهم الرقيقة وسط متعة كبرى للمعجبين من داخل وخارج البلاد.
وبحثا عن الانفتاح الثقافي والفكري والأكاديمي، جمع مهرجان موازين في السابق اكبر المفكرين والفلاسفة وعلماء الانتروبولوجيا والفنانين المرموقين، وذلك في لقاء دولي من خلال إقامة ندوات وموائد مستديرة، وبهذا يتحول المهرجان الى محطة ثقافية دولية تراهن على جعل الفنون والثقافة جسرا للحوار والتواصل وترسيخ قيم الهوية والمحبة وروح السلم والسلم والتعايش بين الثقافات والحضارات.
تكتمل الموازين الموسيقية من الماء إلى الماء
هكذا تكون الدورة ال 13 مناسبة حقيقية لتكريم أرق الأصوات العالمية، والاحتفاء بفيض إيقاعات لتكتمل الموازين الموسيقية من الماء إلى الماء، وليكون المهرجان، نافذة عالمية يطل من خلالها الفنانون من كل بقاع العالم وبكل اللغات، على الآخر لإسماعه صوت الحرية، والوجدان، ورنين آلات بإيقاعاتها الخافقة، تغني سمفوينية السلام في كل مكان.

بالمناسبة قال رئيس(مغرب الثقافات) ورئيس مهرجان موازين – إيقاعات العالم منير المجيدي في كلمة له حول المهرجان، أن هذا اللقاء الفني الدولي استطاع منذ إحداثه العام 2001، أن يرتقي إلى صفوف أكبر التظاهرات الثقافية في العالم، حيث أصبح حدث إبداعيا بامتياز يتصدر المهرجانات الدولية باحتلاله المرتبة الثانية عالميا بالنظر إلى الرقم القياسي الذي حققه على مستوى الإقبال الجماهيري، وذلك استنادا إلى التحقيق العلمي الذي أنجزته المؤسسة الدولية(جي جي واي) و(ام تي في اي).
وأوضح أن هذه المعطيات جعلت هذا الحدث الدولي المتعلق بتراثه الحافل بالمفاخر، وبقيم الهوية المغربية والعربية الأصيلة، يصبح، مهرجانا لكل الأذواق، ومرجعا دوليا لمميـزاته المهنية ، استطاع أن يرتقي إلى درجة جعلته يحظى بإقبال جماهيري يزداد مع توالي الدورات، مؤكدا أن جمعية “مغرب الثقافات” أتاحت لروادها، من مغاربة وأجانب، فرصا سعيدة عبر برامج غنية ومتنوعة، تتجدد مع تعاقب الدورات، رغبة في إرضاء الجماهير الواسعة.
العاصمة مسرح فسيح في الهواء الطلق
ووفاء لرسالته النبيلة والأهداف التي يسعى لتحقيقها، حرص المهرجان ـ يضيف الماجدي ـ على برمجة فنانين من المغرب ومن الأقطار العربية ، ومن دول جنوب إفريقيا ، كما يستقبـل أكبر نجوم العالم إلى جانب مجموعات الفنون الأصيلة، وذلك في أفق تجديد الفرص لتعانق الثقافات وتلاقحها، وذلك بدعوته لمبدعين مرموقين من بقاع العالم، حيث اقترحت الدورة مالا يقل عن مائة عرض فني موزعة على سبعة فضاءات تشمـل مدينتي الرباط وسلا ، حيث كان للجمهور موعد مع ألمع نجوم الموسيقى المغربية والعربية والدولية.
وأشار إلى أن المهرجان يحتل مكانة مرموقة في الروزنامة الثقافة للمملكة، لا لكونه يحول العاصمة إلى مسرح فسيح في الهواء الطلق فحسب، بل لأنه في نفس الآن يقوم بدور رافعة للتنمية الاقتصادية. فوسائل الإعلام في مختلف القارات تولي فائق عنايتها للطابع الشعبي لهذا الملتقى من جهة، ولإسقاطاته ومردوديته الاقتصادية من جهة أخر.

كما لفت إلى أن هذه التظاهرة الدولية اخترقت شهرتها حدود البلاد، الشيء الذي ارتقى به إلى العالمية، حيث أصبح يعتبر من أكبر الملتقيات الفنية. هذا التكريس على الصعيد الدولي، ونموذجا وقدوة رهن الشبيبة المغربية التي أكدت، أكثر من مرة، أنها قادرة على السير بوطنها إلى الأفضل في شتى المجالات. وبهذا أصبح موازين موعدا يتجدد بالنسبة لعدد كبير من الفنانين الذين بصموا مشاركتهم بالتميز.
برمجة غنية لألمع الأسماء والأصوات العالمية
وانطلقت الدورة بالعديد من السهرات، التي تابعها جمهور عريض، على إيقاعات حالمة أداها عدد من الفنانين نذكر منهم النجم العالمي الأمريكي جاستن تيمبرلاك بمنصة السويسى، والمطرب ناصف زيتون من سوريا، ومراد البوريقي من المغرب، ومحمد عساف من فلسطين بفضاء النهضة، وهوك ماسكيلا من جنوب إفريقيا، والكاميروني مانو ديبانكو بمنصة نهر ابي رقراق، وآخرين استهلوا، إيقاعاتهم بميزان فني راق نال تصفيقات إعجاب الجمهور.
وكان من أقوى لحظات المهرجان المشاركة المتميزة للقيصر كاظم الساهر، الذي غنى واطرب أمام أزيد من 80 ألف متفرج، حيث أعاد إلى الجمهور حنين الذكريات الرائعة، مع الكثير من اغانيه الجميلة، ومنها،(أكون أو لا أكون)، (أشهد)، (قولي أحبك)، و(احبك جدا)، و(إني خيّرتك)، وهي الأغاني التي سافر معها الجمهور والصبايا مثل سرب حمام مع مغرب الشمس والحنين، إلى الصين، والى بغداد وكل زوايا الأحلام واللين، في مهرجان موازين.
مشاركة نحو 1500 فنان، قدموا أجمل ما لديهم
وجمعت الدورة ال 13 من خلال برمجة غنية ألمع الأسماء والأصوات المغربية والعربية والعالمية، في شتى التقاليد والأصناف الموسيقية التي تروق الكبار والصغار، وذلك بمشاركة نحو 1500 فنان، قدموا أجمل ما لديهم على سبع منصات كبرى، فضلا عن شوارع العاصمة الرباط. حيث استضافت منصة السويسي ولأول مرة، العديد من الفرق والفنانين، منهم النجم(جاستن تمبرليك) كما أسلفنا وروبيرت بلانت، فضلا عن (ني يو)، والبلجيكي الظاهرة ستروماي، الذي غنى أمام أزيد من 100 الف متفرج، وريكي مارت و(اليشا كيز)، وسافر هؤلاء الفنانين من خلال سهراتهم بالجمهور إلى عوالم فنية تماهت معها الروح والجسد في شكل بديع، مما حول تلك السهرات إلى بحيرات ليلكية تموج بأحلام الشباب، وهم يرددون ما احلى الحياة، وما احلى الموسيقى حين تخاطب الروح والوجدان، وتذكر بالذي فات، وبأحلى الذكريات.

وبالمسرح الوطني محمد الخامس، استمتع الجمهور بأداء رائع للعديد من الأسماء الموسيقية اللامعة، ومنها المغنية الاسبانية(ليز كازال)، والفرقة العالمية(دي كومودورس) و(ايريك فرنانديز)، إضافة إلى فنانين مغاربة متميزين، واركسترا حنفي لاوبرا القاهرة التي شكلت تحفة فنية تابعها المئات من الجمهور الذي غصت بهم قاعة المسرح.
وفي مجال الموسيقى العربية المغربية خصصت لجنة التنظيم 35 سهرة فنية، حيث تم الاحتفاء بالموسيقى التراثية، كوثيقة إبداعية وفنية، تحكي ألف حكاية وحكاية من تاريخ مغربي وعربي عريق، يكتنز الكثير من المقومات الفنية، التي تحبل بعادات وطقوس الشعوب عبر زينة اللباس وسحر الإيقاعات والكلمات، فكانت موسيقى فن كناوة ذات الأصول الإفريقية حضارة بقوة، إضافة إلى الموسيقى الامازيغية الحافلة بكثير من الرموز الإبداعية البهية، والراي الأصيل والشعبي، لتشكل لوحات فنية بديعة قدمت للجمهور، عالما فنيا روحيا ومدهشا، يأسر القلوب والألباب.
كما كان للجمهور لقاء محبة وعبق تاريخي مجيد، مع موسيقى العيطة الشعبية المغربية التراثية التي تتغنى بالتاريخ والهوية وأيام زمان، وذلك مع الفنان جمال الدين زرهوني، كما استمتع الجمهور أيضا بروائع فن الملحون مع المطربة الشهيرة ماجدة اليحياوي، والموسيقى الأندلسية مع الفنان با جدوب الذي نظم جولات عدة وطنية ودولية خصوصا بالعالم العربي، حيث يتغنى في هذا اللون الموسيقى الأصيل، بالتراث المغربي والعربي والاسلامي في الأندلس، وذلك من خلال مواويل، غاية في الاناقة والسحر الموسيقي الجميل، الذي يعيد من جديد الى الأذهان تاريخ الاندلس وزمان ابن زيدون وولادة بنت المستكفي. بالاضافة الى المغني الجزائري عبد القار شاعو الذي قام بتحديث فن الشعبي الجزائري والمغاربي عبر إضافة آلات موسيقية كالبيانو والقيثارة.
وأصوات أسطورية تحاكي موسيقى بحيرة البجع
وتكريما للقارة الإفريقية استضاف المهرجان أعذب الألحان بطبولها الإفريقية، وأقواها، فكان للجمهور لقاء ساحرا مع عدد من الفنانين منهم انجيليك هيدجو، وهوغ ماسيكيلا، وما نو ديبانكو وآخرين، اما على مستوى الموسيقى الكلاسيكية واحتفاء بروح الفنان العراقي الراحل وعازف العود منير بشير، فقد قدمت اوركسترا الراحل، وتتكون من سبعة عازفي العود مقاطع للتراث والثقافة العراقية والعربية، إلى جانب مشاركات أخرى في مجال فن الموشحات أداها الفنان بدر رامي وزيد حداد من تونس، وذلك في قالب تقليدي أصيل غاية في الروعة والنقاء الفني الصافي.وعلى منصة شالة المطلة على نهر أبي رقراق الذي يصب في المحيط الأطلسي، خصص المهرجان برمجة استثنائية لموسيقى اكبر الأنهار في العالم بعنوان(غناء الأنهار)، وتقوم هذه الموسيقى باستكشاف الأنهار وعذوبتها المائية، وغموض مكنوناتها العميقة النابع من ضفاف الأنهار التاريخية والأسطورية كنهر النيل والمسيسيبي والفرات وأم الربيع بالمغرب والدانوب.
وشارك في هذه الوصلة العالمية الفريدة من نوعها، سارة سافوي من الولايات المتحدة، و(وسوندوركو) من المجر، ومجموعة (شانبي هزاداه) شط العرب من إيران، و(سلمانيش) من اثيوبيا، و(سكدام) من تركيا و(اكليكشان) من منغوليا وغيرها.

تلك الفرق التي تتدفق موسيقاها من نبع حنين، خالدة في الأعماق، ذات سكينة صوفية، وأصوات أسطورية،تحاكي موسيقى بحيرة البجع في سحرها الخارق. كما تحمل في طياتها تيارات فنية عديدة، ونبرات رقيقة تقشعر لها الأبدان، نابعة من مناظر طبيعية وأحاسيس وجدانية تجوب في سفر خالد وحالم إلى ابعد الحدود.
انها الموسيقى التي تعانق مختلف الثقافات والحضارات في شكل كبديع للغاية، انها تعبر بانسياب عن حب الطبيعة، وسحر الغابات الأسطورية، وسر المجوهرات التي تختزنها الأعماق، إنها الموسيقى التي ترتعش معها الروح إعجابا، فتنهض في الروح ما خمض بكل سكينة وهدوء وانتعاش لا يقاوم. إنها الموسيقى التي تنتشر بين الشعوب، وتسري في جوارحهم كالماء، ضرورية لجسم الموسيقى، كي تغني التنوع الذي تمتاز به القيم الإنسانية والكونية.
محمد عبو مسك الختام ومليونين و600 ألف مشاهد
ثمة إذن فقرات متنوعة وسهرات كثيرة، ومؤتمرات صحفية مع المشاركين، وورشات موسيقية وغنائية وعروض شوارع، عاشتها الرباط العاصمة على مدى تسعة أيام جابت فيها العديد من الفرق والمجموعات المغربية والدولية، مختلف مناطق العاصمة في شكل راقي، مجموعات غنت وأمتعت، فرق اختلفت أدوات فنها من المزامير إلى الأجراس والطبول الإفريقية المراكشية، وذلك بهدف تقديم فن في الهواء الطلق، للتواصل مع الجمهور، وإسعاده. وهي المناسبة التي استحسنها الكثير من المتتبعين لما لها ما أهداف ومرامي لتقريب الفن إلى الناس من غير بطاقات ولا حواجز.
هكذا يسدل الستار على هذا الكرنفال الموسيقى الضخم والبديع، الذي تابعه نحو مليونين و600 ألف مشاهد، وهو رقم قياسي، بسهرات باذخة وضخمة من أبرزها سهرة الفنانة الأمريكية اليشايا كيز، التي تعد من ابرز مغنيات(السول) و(ار اند بي) و(الهيب هوب) في العالم، فضلا عن السهرة الكبرى التي أحياها فنان العرب محمد عبد، بفضاء النهضة أمام ازيد من 60 الف متفرج، حيث بدا متأثرا للغاية بهذا الحشد الجماهيري الكبير، والذي ردد معه أغانيه على مدى ساعتين ونصف الساعة، ومنها(بنت النور) ولنا لله) و(شبيه الريح) و(الأماكن)، لتبقى الأماكن في العاصمة الرباط أحلى صورة وأحلى ذكرى تتماهى كموج المحيط في صورة إبداعية توثق لسحر الموسيقى ولرقتها التي تنفذ إلى الأعماق.