القتل عن بعد.. في اتجاهين
قيس قاسم
المخرجة النرويجية تونيه شَيّ ليست أول سينمائية التفتت الى الطائرات بدون طيار (درون) فقد سبقها آخرون تناولوا الموضوع من زوايا مختلفة ركزت جُلها على قدراتها القتالية وتقنياتها المتطورة وضحايها من المدنيين بخاصة في أفغانستان واليمن، دون ألتفات كافٍ الى “مستخدمها” والمسؤول عن توجيه الأوامر اليها بالقتل، وهذا ما حاولت العمل عليه النرويجية التي ربما هي من القلة التي نجحت في أقناع مجنديّن أمريكيين أشتغلوا على أجهزة التحكم بها، بالوقوف أمام كاميرتها والبوح بما يختلج دواخلهم وبمعاناتهم النفسية إثر ما قاموا به من أعمال ضد أبرياء في مناطق بعيدة من العالم.

في “طائرة بدون طيار” توازن مذهل ورصد دقيق للضحية من الجانبين، لا يصح مطلقاً على ضوء مشاهدتنا له أستخدام التعبير الشائع: “الضحية” و”الجلاد” لوصف العلاقة بين الطرف الضاغط على الزر عن بُعد وبين الإنسان الذي سيقسط أثرها جثة ممزقة، لأن صاحبة الوثائقي أعتبرت ووفق من التقت بهم أن مشغليها هم أيضاً ضحايا، بنسبة ما. ضحايا المؤسسات العسكرية والمخابراتية الأمريكية كما ظهر في بحثها السينمائي الجريء عن الساخطين على تجربتهم الشخصية ويقظتهم “المتأخرة” والتي سيوصلها الى قناعة بأن هذا النوع من السلاح ربما سيكون الأخطر على البشرية في مقبل السنوات بل أن حروب المستقبل ستطبع بطابعه السري والمكتوم والذي يعتمد بالأساس على التطور التقني الهائل وعلى حفنة من الموهبين في التحكم بآلية عمل الحواسيب وخسارتهم، كبشر أسوياء وتحويلهم الى قتلة، لن يكلفها الكثير في مطلق الأحوال.
في باكستان البلد الأكثر تضرراً بالطائرات الصامتة كانت تجري محاولات لجمع الأدلة الكافية لتقديم الولايات المتحدة الى المحاكم الدولية، بتهم أرتكاب جرائم ضد البشرية، لأن نسبة المدنيين هي الأعلى من بين قتلاها، مقارنة بال”الإرهابيين” المستهدفين والمسجلين في قوائمهم السرية. يكمل الخط الباكستاني الخط الأول الذي بدأه الوثائقي فأصبح يسير في توازن بين تتابع حالة المجندين في القواعد العسكرية الأمريكية وبين قرى باكستانية كان البحث والعمل يجري فيها لعرض عمليات القتل التي كانت تأتيهم من السماء وتشل حياتهم. لقد وصف أطفال منطقة وزيرستان حالة الرعب التي كانت تنتابهم كلما رأوا نقطة صغيرة في السماء ووصفوا شعورهم بالخوف منها ومن صمتها المبهم، الذي يعقبه دوماً صوت أزيز صواريخ تنطلق منها فتحدث دماراً وموتاً لهم ولأقرابائهم. مع كل ما يعرفونه عنها فالقانونيون يريدون أدلة دامغة عليهم توفيرها، مثل: أجزاء من الصواريخ التي تطلقها الطائرات عليهم أو عينات طبية من أجساد المصابين بقذائفها. في هذا الجانب تلعب منظمات انسانية عالمية ومحلية دوراً في عملية التوثيق ويسجل “طائرة بدون طيار” تعاوناً نادراً بين شخصيات أوربية معارضة لأستخدام الطائرات ضد المدنيين وبين الناس في تلك المناطق الذين يجهلون القانون الدولي وأشتراطاته، فكل ما يعرفونه وما يهمهم أن أحداً ما يأمر بقتلهم دون ذنب، والقاتل لا يرَّون وجهه ولا يدركون أين يُقيم؟!.

تستعين المخرجة تونيه بكُتاب وباحثين ألفوا كتباً عن الحروب المعاصرة ليوضحوا لها الفوارق بينها وبين الحروب القديمة فكلام الأطفال حمل اليها رسائل وأسئلة صبت في متن فيلمها، وفتحت له آفاقاً ليتوسع من خلالها ويُغْني مادته التسجيلية. تعددت أوصاف الكتاب لها لكن ثمة أتفاق بينهم على قلة تكاليفها مقارنة بالحروب القديمة الباهضة الثمن، على المستويين البشري والأقتصادي والجديد تماماً فيها أنها أكثر راحة بال للرؤساء، فلا أحد سيسألهم بعد اليوم: لماذا ورطتم شبابنا في هذة الحرب الطاحنة، أو.. ماذا جنينا من تلك؟ لقد كسرت الحروب الألكترونية الحديثة الجدار الجغرافي فصار بأمكان الرئيس الجلوس في كابينة صغيرة يتابع من خلال شاشة الحاسوب مجريات المعركة “الأفتراضية” التي تجري في مكان جد بعيد عنه، ويمكنه أن يضغط على زر صغير إذا تطلبت الحاجة الى ذلك فينطلق صاروخ من طائرة تطير لوحدها في السماء تصيب مَن تصيب وتقتل مًن تقتل دون أية أسئلة محرجة له. لقد غيَّرت الطائرات بدون طيار قواعد اللعبة العسكرية، فلم تعد هناك ساحة معركة يتطاحن فيها جيشان ولم تعد الحاجة لتوفير آلاف من الجنود، فشخص واحد مرتبط بشبكة أتصالات فضائية يمكنه تعويض وحدات كاملة. تخيلُوا أنه بأمكانكم قتل آلاف من الناس دون أن تطأ أقدامكم ساحة المعركة! لقد أستثمر أوباما الأختراع الجديد أستثماراً ذكياً، تخلص به من الألتزامات الثقيلة التي تركها له جورج دبليو بوش فعوضاً عن الدخول في معارك عسكرية مباشرة كما في العراق وأفغانستان صار بأمكانه محاربة “الإرهاب” ب”طائرة” خارقة تؤدي وظيفتها العسكرية بصمت وسرية وهذا ما كان يحلم به: أن يدخل حروباً، مثل غيره من قادة أمريكا، بإختلاف أنه سيظهر للعالم كقائد مُجدد لا يحب الحروب ويتجنبها.
في قراءة متمعنة أعتبر الوثائقي باكستان أولى حروب أوباما التجريبية “المجهولة” مثل طائرته، تلتها اليمن ولهذا ذهب لتدعيم أستنتاجه الى خبراء عسكريين أستراتيجيين وسألهم رأيهم كما راجع بإستفاضة تاريخ تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الشرق الأوسط منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لقد أكتشف أن الجيش الأمريكي قد أشرف على عملية تطوير مشروع “طائرة بدون طيار” وأنه عمل على تضليل العالم والشعب الأمريكي ليتجنب أية ملاحقة قانونية محتملة حين ألصق كل الأعمال الخاصة بها وحتى عملياتها الميدانية بجهاز المخابرات “السي آس أي”. لقد جرى العمل بكتمان وسرية بالغة لأنجاز وتحقيق المشروع بأومر من وزراء الدفاع في عهدي بوش وأوباما، وأنيطت مهمة أعداد كادر خاص بتشغيلها الى المخابرات تختار من تجد فيهم الكفاءة والموهبة في أداء الوظيفة على أن يكونوا مجندين في الجيش!

شهادات المجندين في قسم تشغيل الطائرات تعلن عن خفايا عملية جهنمية خططت لها وزارة الدفاع طويلاً وأستثمرت فيها قدرات البشر والتكنولوجيا بطرق ملتوية فراقبت لسنوات الصبيان الموهبين من الأمريكان عبر شركات تصنيع وبيع ألعاب الفديو وأختارت أكثرهم قدرة في التحكم بها وأقنعتهم بالتطوع في صفوف الجيش دون ذكر كلمة واحدة عن القتل أو الموت. كما أنصب تركيزها على تعليم هؤلاء تقنيات جديدة لها صلة مباشرة بتشغيل الطائرات بدون طيار وفي مرحلة متقدمة من العمل معهم عرضوا عليهم وظيفة “مشغل” طائرات عسكري براتب كبير وبشروط يقيدون بها حركتهم من بينها: أداء قسم الأخلاص وكتمان الأسرار. لسنوات تعامل المجندون مع الموت كلعبة فيديو. يراقبون عبر الشاشات الهدف المطلوب ثم يحددون مكانه بالضبط فيعطون الأوامر للطائرات بقصفه. بعدها ينتهي كل شيء، ولكن ومع الوقت بدأ الأحساس بأرتكابهم فعل القتل يزداد عندهم ويؤثر على معنوياتهم وعلى تفكيرهم وبالتجربة وبعد أكتشاف أن من يقومون بقتلهم ليسوا أرهابين كلهم، فهناك غيرهم أطفال وأناس أبرياء، أخذ الشعور بالذنب يتصاعد عندهم ما دفع قسم منهم لرفض الخدمة والبعض الآخر خرج منها لأسباب نفسية مرضية، بعد أن أصبحوا عاجزين عن الضغط على الزر الأحمر. ثمة أحساس مشترك عند هؤلاء بأنهم كانوا ضحايا خطة لئيمة حولتهم من “نوابغ” كومبيوتر وألعاب فيديو الى مجرمين عاديين، قتل البشر عندهم يمتزج بالغطرسة والتفوق.

وأكثر ما أوجعهم اكتشافاتهم المتأخرة بأن الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه كان معداً سلفاً، ساهمت الدورات التدريبية والتمهيدية في زعزعة الإحساس بالانسانية والرحمة لديهم عبر برنامج سُمي “حرب.. لا حرب” أعده خبراء نفسيون مهمتم خلق نوع من الشك عند “المُشغل” بأنه يشارك في حرب هي ليست بحرب حقيقية! هي أقرب الى لعبة فيديو وعليه فإن الأحساس بالندم يقل عندهم بل يختفي في باديء الأمر وبهذا يخلقون جيشاً “تقنياً” لا يموت في المعارك لكنه يقتل الناس في ساحات صراع لا يدرون عنها شيئاً. تُلخص أحاديث الخبراء في العلوم العسكرية ما ينتظر البشرية خلال العقود القريبة التي يتوقعون فيها أن تصبح الطائرة بدون طيار “لعبة” حقيقية متوفرة عند الكثير من الجيوش الغربية يدخلون بها حروبهم المستقبلية أما ضحاياها فيبقون في جهل بنوع السلاح الذي يقتلهم ومن أي أتجاه يأتي اليهم ومَن يديره عن بُعد! إلا إذا تقدم الواعون بمسؤولياتهم الأخلاقية وقالوا كلمتهم مثل المخرجة النرويجية تونيه شَيّ أو الناشطون الذين يتحركون في باكستان وغيرها لفضح جرائم حروب صامته، أكثر خبثاً من التي سبقتها، تستخدم فيها طائرات بدون طيار تقتل الناس عن بعد ومن كل الأتجاهات.