ذبابة الضوء.. تطير عالياً
قيس قاسم
مع الفتاة الهندية تولاسي من مدينة تشيناي سنتشارك سوية تجربة وثائقية مثيرة، ذات صلة مباشرة بحياتها وطموحها في أن تصبح ملاكِمة محترفة، ومن خلالها سنتعرف على جوانب من النظام التراتبي “الطبقي” المعقد في شبه القارة الهندية والذي يقسم البشر الى مجاميع لايسمح لأي انسان من مجموعة معينة الانتقال الى آخرى في مطلق الأحوال بل يمنع على المنتمين الى الطبقات الرئيسية الأربعة (الكهنة، المحاربين، التجار، المزارعين والعمال) الأختلاط ب”المنبوذين”.

من الذين لا طبقة لهم والى هذة المجموعة تنتمي الشابة تولاسي، بل أن وضعتها قسمتها الاجتماعية السيئة بين مجموعة “داليت” الأدنى مستوى في البناء الهرمي المسمى “كاست” والذي مازال يُعمل به حتى يومنا هذا وبسببه يظل أهل البلاد مقسمين الى أثرياء أزليين وفقراء ومنبوذين على مدى الدهر، مهما تمتع الأنسان منهم بكفاءة أو موهبة ولهذا فتجربة الملاكمة الهاوية تولاسي تستحق حسب ما تقترحته علينا المخرجة النرويجية بيث هوفسيت ومساعدتها سوزان أوستيغارد المعاينة من منظور انساني تتسع حدوده الى تتبع مسار سنوات من حياتها وفتح المجال لها كاملاً لتقول ما تريد قوله دون تدخل إلا بمقدار ما يُعين المشاهد على فهم مجريات قصتها التي سردتها علينا تولاسي بطريقة شيقة مع كل ما فيها من حزن، وأضافت اليها المخرجة من عندها تعليقات أضافية لتُظهر وثائقيها وكأنه ينتمي من حيث الأسلوب الى السينما الصامتة (حركة زائد كلام مكتوب) بفارق انها أختارت اللقطات الواسعة المصحوبة بموسيقى تصويرية مؤثرة لتضفي بهما عمقاً درامياً على الحكاية التي بدأت من حلبة ملاكمة في نادي رياضي يديره رجل فاسد يتوقف مصير الفتيات الموهوبات ومستقبلهن بالكامل على ما يقرره لوحده.
تُظهر التدريبات الشاقة وقوة تحملها ومهارتها التقنية موهبتها كملاكمة في وزن الذبابة، ومن هنا أشتق الفيلم عنوانه الجميل “ذبابة الضوء.. تطير عالياً”. من هذة الرياضة التي كرست كل حياتها لها تأملت تغييراً في مستوى عيشها إذا ما توفقت في الفوز بالبطولة المحلية التي ستفتح أمامها المجال لدخول مدرسة الملاكمة الحكومية كمتدربة وعاملة في هذا الحقل الذي يؤمن لها راتباً شهرياً يساعد عائلتها أقتصادياً أو على الأقل يخفف عنهم أعباء الحياة والقروض التي أخذوها من البنوك لتسديد تكاليف ناديها، كل هذا كان جلياً من خلال حديثها المفتوح، لكن ثمة شيء كان ينغص حياتها وينعكس على شكل أحزان وآسى يظهران على وجهها ستبيح به بعد حين: مدير النادي، سير كارنو، يفرض على الملاكمات مبالغ أضافية غير أقساط النادي ويرغم بعضهن على القبول بممارسة الجنس معه مقابل توقيعه على شهادة تخرج لا يمكن للاعبة الانتقال الى مدارس الملاكمة الحكومية بدونها حتى لو أنها فازت بالبطولة.

وهذا ما كان ترفضه الشابة العنيدة أو على الأقل لا تريد فعله حتى لا تزيد من هموم عائلتها، وترفض الخضوع له لسبب آخر يعود الى تكوينها النفسي الذي أشتد عبر تجربة حياتية قاسية أضطرتها الى ترك بيت والديها وهي في سن المراهقة والعيش في مآوى للآيتام، قبل أنتقالها الى بيت السيدة الرحومة هلينيما التي صارت أماً ثانية لها. بفعل كل تلك المؤثرات صارت الملاكِمة تتمتع بشخصية قوية وبقابلية على مواجهة الحياة لوحدها، إذا تطلب الأمر، وقساوة ما مرت به ظروف جعل منها امرأة شديدة التعاطف والتضامن مع بنات جنسها ومن هنا يضع الوثائقي النظام التراتبي والمجتمع الهندي في الزاوية لا لمحاكمته بل لكشفه وعرضه تحت الضوء.
تكشف تفاصيل العلاقة بين المدربين ومدير النادي من جهة والشابات الملاكِمات من جهة ثانية سعة أنتشار الفساد الأداري في الهند وشدة الفوارق الطبقية والضغط الهائل على البؤساء من الناس وبخاصة ال”منبوذين” الذين يُعاملون بأحتقار شديد ولا يتمتعون بأحترام الناس ما يثقل على تولاسي أحمالها وهي التي جُبلت على العِناد والأصرار وقررت المضي بطريقها كإمرأة قوية متماسكة فقيرة ومن أسفل السلم الإجتماعي لكنها نزيهة ودرجة الأحساس بالعادلة عندها عالٍ جدا،ً وربما تمتعها بتلك المواصفات هو الذي دفع النرويجيتان الى التفكير في رسم بورتريه سينمائي لها في بلد ينخره الفساد والطمع والشهوة الذكورية الطافحة في أمتلاك الكائن الضعيف دون رحمة.

وتكشف العلاقة بين إدارة النادي والملاكمات، أيضاً، تناقضات المجتمع الهندي فبمقدار ما يبدو متسامحاً ومسالماً، يبطن أنتهاكاً لكل الأعراف الدينية والدنيوية وهذا الكشف الضروري بدأ يظهر في أفلام وثائقية جديدة أبتعدت عن نقل الصورة النمطية التي توحي بوجود سلام اجتماعي حقيقي نابع من الإيمان الروحي والقبول الدنيوي للنظام التراتبي الذي يجعل كل طبقة تعيش لنفسها دون أن تفكر بأقحام نفسها في مشاكل مع الطبقات الآخرى، وفي هذا مفارقة تتجلى في تصادم وتعاكس الوثائقي الجديد مع الفيلم الروائي البوليوودي التقليدي الذي يكرس صورة ميلودرامية لا صلة لها بالواقع بل أن جل همها جعل الأحلام المشروعة، والغير قابلة للتحقيق، واقعاً: كأن تحب الغنية فقيراً معدماً أو تتبنى عائلة ميسورة طفلاً من فئة “المنبوذين” على عكس السينما الجادة، القليلة، التي حرصت على عكس القضايا الاجتماعية بكل تشابكاتها في أفلام جيدة.
ثمة تضامن أجتماعي قائم خارج كل تلك الكليشهات المعروفة عن الهند، وسيظل على الدوام موجوداً لطابعه الانساني الصرف والذي تجلى في سلوك الملاكِمة الشابة التي جعلت من نفسها كبش فداء لأخواتها من الملاكِمات حتى لا يسقطن في فخ المتسلطين من الرجال وهذا ما سيشدد عليه “ذبابة الضوء .. تطير عالياً” عبر تجنبه التصعيد الدرامي التقليدي فينتهي بوصول ملاكمة موهوبة الى القمة أو الى موضع النجومية على العكس تماماً فقد أستثمر أضطرار تولاسي على ترك النادي والملاكَمة ليمضي في متابعة مصيرها العجيب الذي أنقلب بدرجة كبيرة حين تقدمت بشكوى ضد مدير النادي بعد تأكدها بأن الوصول الى حلمها سيكون على حساب كرامتها وغالياً وهي في كل الأحوال غير مستعدة لدفعه، فمضت رغم كل الضغوط والاغراءات في خطتها وقد ساعدتها في ذلك تدخل وسائل الاعلام على خط القضية التي وبعد أن أتسع نقاط عرضها أجبرت الدولة على التدخل فأمرت بالقاء القبض عليه وقدمته الى المحاكمة بتهم التحرش والأعتداء الجنسي ضد الفتيات. شيء جديد نتج عن التطور اللاحق للأحداث ونبع من الضغط الاجتماعي والاقتصادي على الفتات المحبطة.

فبعد ألحاح زوج “والدتها” قبلت الزواج برجل لم تتعرف عليه من قبل، فأصبحت مجريات المحاكمة وزواجها جزءًا من الوثائقي وعليه أستكمال تطوره، أما مستقبل الشابة نفسه فغدا خطاً نهائياً على المخرجتين الوصول اليه حتى تضعان به خاتمة معقولة لوثائقي بدأ ديناميكياً وتطور بإيقاع متوازن جمع الجانبين: النفسي والاجتماعي ولا بد من توفر نهاية معقولة له تتوافق معهما لهذا السبب ظلتا ولمدة سنتين تتابعان ما يحدث للفتاة التي طلقت زوجها بعد أن أكتشفت أن مطالبه الكثيرة تحد من حريتها وقيمتها كانسانة ولا يمكنها الرضوخ اليها وهي التي في الأساس لم تتحمس للزاوج الذي وجدت فيه على ضوء تجربة والدتها سجناً وعبودية، تمنت عدم الوقوع فيهما لكن الضغوط الهائلة أجبرتها على القبول به على مضض، في حين ظلت مجريات المحكمة مستمرة بعد عدة تأجيلات بسبب الأموال والرشاوى الكبيرة التي كان يقدمها المدرب للجهاز القضائي الهندي ويتوقع أن تستمر بهذا الايقاع البطيء لمدة طويلة من الزمن لم ترض تولاسي لنفسها التوقف عندها كثيراً فما أرادته قد تحقق في حدود فضحها لسلوكه اللاأخلاقي وسلوك النظام الذي يمثله، فقبلت بالعمل كمدربة ملاكمة في “جيم” رياضي، راتبه يساعدها على العيش بإستقلال وحرية طالما حلمت بهما أما أزالة الفوراق التي يكرسها النظام التراتبي الاجتماعي الهندي فمسؤولية المجتمع بأكمله وعلى الناس التحرك لتغييره.