أوربا في خطر!

قيس قاسم

قبل أسابيع قليلة من بدء انتخابات البرلمان الأوربي، انتهى الفرنسي أنتوني فتكيني من مشروعه السينمائي الجديد عن الشعبويين الأوربيين، فهل لهذا الموعد من أهمية؟ يقيناً سيكون جوابنا بنعم، لترابط الموعد الزمني بموضوع فيلمه الوثائقي ولتأثيره من جانب ثانٍ على التقييم النقدي النهائي للمنجز على ضوء نتائجها التي صارت معروفة. فالمخرج أعد مادته بوقت سبق  ظهور النتائج وجاءت استنتاجاته متطابقة إلى حد كبير معها ما يشير إلى وعي شديد بخطورة الموضوع الذي تناوله وأصر على أن يتضمن عنوانه إشارة واضحة عليه، فأوربا حقاً في خطر!؟ ولكن من أين يأتي الخطر اليها؟ من القوى اليمينية الصاعدة بقوة في مجتمعاتها أم من المهاجرين والمسلمين كما يدعي قادة الحركات الشعبوية ويتذرعون بوجودهم فيها من أجل  تشديد قبضتهم على الحياة السياسية الأوربية كما شاهدناهم في السمفونية الوثائقية “الشعبويون، أوربا في خطر”.

المخرج انتوني فتكيني

اشتغل أنتوني فتكيني على التنوع في الحركة الإيقاعية لمسار شريطه ليُغيَّر من التشابه في ترتيب جمله السينمائية التي اعتمدها أسلوباً في عرض ما كان يجري على الساحة السياسية الأوربية في بلدان عدة منها، والدور المتنامي للحركات الشعبوية المتشابهة الخطاب والتي لا تختلف عن بعضها البعض إلا في التفاصيل ولهذا السبب كتب نصاً واحداً عن إيطاليا، فرنسا، هولندا وهنغاريا ولكنه نوّع في إيقاعاته. كل نص بدأه بعرض موسع لأفكار وطريقة عمل الأحزاب اليمينية متيحاً المجال لقادتها في التعبير عن أفكارهم بإفاضة، يقوم بعدها بقطع كل ذلك الاسترسال بشكل صادم فيذهب بنفسه ليتحقق من صحة ما كان يقولونه ثم يمضي إلى تبيان التناقض الصارخ بين الادعاء وبين الحقيقة. سيكرر ذلك التوزيع في البلدان الأربعة وسيغير في كل واحد منها حركة مقطعه الأخير ليتناسق مع خصوصياته القومية والسياسية.
لم يستنكف قائد “حركة خمس نجوم” الإيطالي بيبي غريللو صفة  شعبوي التي تطلق عليه مع ما فيها من إيحاءات سلبية في الوعي الجمعي الأوربي كونها تعيد إلى الأذهان ثانية تاريخ بغيض من صعود الحركات السياسية الشمولية وبخاصة القومية منها والتي اعتمدت في تكتيكاتها على “تجييش” الجماهير واللعب على مشاعرها وقلة خبرتها وبالتالي تحمل في طياتها تناقضاً مع الديمقراطية والاتجاهات الفلسفية التنويرية، ومع هذا يعلن غريللو، السياسي والخطيب البارع الذي جاء من عالم الشهرة (ممثل تلفزيوني ومقدم برامج فكاهية) أنه شعبوي يقولها في تجمع حاشد سبق الانتخابات الأوربية “أنا فخور بكوني شعبوي مثلكم، فنحن شعبويون غاضبون”. “حركة خمس نجوم” حصلت على ربع مقاعد البرلمان الايطالي وسيطرت على كمٍ كبير من مقاعد المجلس البلدي في روما وفي طريقها للتوسع أكثر بفضل شعارات رنانة وقوة إقناع لخطيب جماهيري قادر على تحويل الأزمات السياسية الإيطالية لصالحه. فعلى تراكمات سياسة برلوسكوني الفاشلة وفضائحه يبني غريللو شهرته ومجده وعلى آثار الأزمة المالية المستعصية يلعب ويؤثر في قطاعات كبيرة من الشعب، الذي لم يعد يميز بوضوح بين الغث والسمين لهذا صار يمنح أصواته.

بيبي غريللو غوغاء وخداع

وكرد فعل لحالة الإحباط التي يشعر بها، إلى أحزاب جديدة تخفي حقيقة نواياها وتتبنى شعارات شكلية لا تؤمن بها بل ومتناقضة إلى حد شنيع. فبرنامج الحركة كما يقدمه الوثائقي عبر قراءة مستفيضة فيه: خليط من اليمين واليسار، ضد الهجرة ومع الإصلاحات البيئية ضد الوحدة الأوربية ومع زيادة الأجور.. ضد رفع الضرائب ولكنه مع برامج الرفاه الاجتماعي.. موزع بين الديمقراطية والانفتاح الكلي أمام الجماهير وبين مركزة نشاط الحركة بيد زعيم واحد. برنامج سيغدو موحداً من حيث المبدأ مع بقية الحركات الشعبوية في أوربا ما يوقعها كلها في تناقضات صارخة راح الوثائقي ملاحقة مظاهرها في كل حركة على حدة. ففي إيطاليا خرج عدد من قيادي “حركة خمس نجوم” بعد اكتشافهم حقيقة غريللو وسلوكه الديكتاتوري بل إن بعضهم مضى أبعد وكشف وثائق سرية تثبت أن عمله التنظيمي والحزبي يتناقض مع مفهوم الديقراطية الذي يدعيه وأن شعارات “إيطاليا للجميع” كذبة كبيرة خدع بها قطاعات كبيرة من الشعب الإيطالي وقادته، أيضاً، حين منع عليهم الاتصال بوسائل الإعلام وطرد بعضهم حين تجاوزوا هذا الشرط بل حارب بوسائل إعلامه الخاصة كل من عارض توجهاته التي أراد من خلالها في النهاية الحصول على أكبر سلطة ونفوذ سياسي عبر استخدام أساليب قمعية وابتزاز شنيع لخصومه من خلال ابتكاره الجديد المسمى “مراقبة الدخل” والذي أراده وسيلة للدخول إلى حياة أعضاء البرلمان الإيطالي ـ بحجة الشفافية ومعرفة مصادر الثروة ـ  لتخويفهم وابتزار المعارضين منهم لسياسته مذكراً بأساليب الديكتاتوريين في العالم ومتناقضاً بالكامل مع الديمقراطية وشروطها.
في فرنسا لا يختلف المشهد كثيراً فالشعبويون بقيادة مارلين لوبان يلعبون بدورهم على وتر الأزمة الاقتصادية والبطالة من أجل كسب الجماهير الغاضبة من الأحوال الاقتصادية السيئة كما ظهرت في مدينة المناجم الصغيرة “فورباخ” والتي تضررت كثيراً نتيجة إغلاق منجم الفحم فيها والذي استغلته “الجبهة الوطنية” خير استغلال ومن خلاله راحت تحارب المهاجرين والمسلمين. ركز اليمين في المدينة على شعار وقف الهجرة وخوَّف الناس من “أسلمة” المجتمع الفرنسي وبدلاً من التركيز على معالجة الأزمة الاقتصادية يكشف الوثائقي كيف يعمل اليمينيون الجدد على رفع منسوب الكراهية لغير الفرنسيين من خلال مرافقته لأحد قادتها.

تحالف شعبوي هولندي فرنسي

لقد جال الرجل ودون كلل أرجاء المدينة وحرض الناس على منع بناء “بيوت مجهزة ومريحة” للغجر والمهاجرين ـ وحين طلب منه الذهاب لمشاهدتها تفاجأ هو بنفسه من عدم وجود أي مشروع بناء في المكان الذي حدده في السابق أثناء حديثه مع الناس. لم يبن أي شيء في المكان ولا يعرف الناس في الجوار عن أي منازل يتحدث هؤلاء؟!. لقد انكشفت كذبتهم ودعايتهم وعرف الوثائقي أن الهدف من الحملات المنظمة ضد الوحدة الأوربية وغيرها إنما كان يراد بها في الحقيقة محاربة المهاجرين وتخويف الناس من وجودهم ليكسبوا من خلالها الأصوات المترددة والسلطة ولا شيء غير هذا.
الحالة الهولندية مختلفة عن فرنسا وإيطاليا لهذا السبب كان فضول الوثائقي كبيراً في معرفة الطريقة التي سيدخل منها الشعبويون إلى الجماهير وبخاصة أن البلاد لا تعاني من مشاكل اقتصادية بل هي من بين أكثر الدول الأوربية غِنى. أخذ لإشباع فضوله والإلمام بالمشهد السياسي قبل الانتخابات الأوربية بالتقرب قدر المستطاع من زعيم “حزب الحرية” اليميني خيرت فيلدرز، المحاطة حركته برقابة مشددة، من خلال المشاركة “الخفية” في التجمعات الجماهيرية المؤيدة له والتي كان يحضر بعضها. لقد انتبه الوثائقي إلى حنكة القائد اليميني وتركيزه على منطقة معينة من مدينة لاهاي تقطنها أغلبية من المهاجرين وإصراره على وصفها بمدينة “الشريعة الإسلامية” كي يخيف بها جمهوره من احتمال توسعها إلى بقية المدن الهولندية.

هنغاريا : موت الديمقراطية

كان التخويف من الإسلام والمهاجرين من أكثر الأوراق الرابحة بيد فيلدرز الذي جاء الى الحركة الشعبوية من خلفية سياسية ليبرالية ما يلفت الانتباه إلى تنوع مستويات المنتمين إلى الحركة اليوم ودرجة التنسيق والتعاون فيما بينها، والتي لم تعد محصورة باليمين التقليدي، بل، ربما، صار الانتساب إليها مغرياً لساسة من خلفيات أخرى لم يجدوا طريقاً أقصر من طريق محاربة المهاجرين والهجرة للحصول على سطوة أكبر في البرلمان الأوربي وموقع سياسي أهم في بلدانهم، ولهذا راح الوثائقي الفرنسي الواسع التفاصيل يفضح كيف أن شعارات التأييد “للمثليّة” و حق”الإجهاض” التي كان ينادي بها القائد اليميني الشعبوي الهولندي سابقاً لم تنفعه كما نفعته مجاهرته ب”كراهية الأجانب” بطرق ملتوية، من بينها الإدعاء “بأننا لسنا ضد المهاجرين كلهم ولكن ضد غير المندمجين منهم والذين يريدون إقامة دولتهم الإسلامية وسط بلادنا” وعن هذا التوصيف يكشف معارضون له، انسحبوا من حزبه، كيف يشتغل الشعبوي الجديد والليبرالي القديم على ترسيخ موقعه في الخارطة السياسية الأوربية والهولندية بأكاذيب وحجج واهية تخفي نواياه الحقيقية: السلطة. على عكس رئيس وزراء هنغاريا الحالي فكتور أوربان وقائد حزب “فيديسز” الذي يجاهر دون خجل بعدائه للوحدة الأوربية وكراهيته للغجر واليهود ورغبته في العودة إلى عهد الإمبراطورية المجرية واستعادة روحها المبنية على القوة والنفوذ وترك كل ما له صلة بالديمقراطية، التي بفضلها وصل وغيره الى السلطة. مفارقة تشبه بقية المفارقات الأوربية الأخرى لكنها تشير ضمناً إلى صعود مخيف للأحزاب المتطرفة ونمو للشعبَّوية وشعاراتها القومية والوطنية المنغلقة ما يعرض أوربا وديمقراطيتها لخطر حقيقي يأتي منها ومن قادة أحزابها اليمينية وليس من غيرهم!.       


إعلان