الولايات المتحدة للأسرار!

محمد موسى

قبل أن يكشف الشاب الأمريكي إدوارد سنودن في العام الماضي وبالوثائق عن تجسس حكومته الغير قانوني على الملايين من الأمريكيين وغيرهم، كانت هناك في العقد الاخير عدة محاولات لإيصال تلك القضية الحساسة لانتباه الاعلام الغربي الرصين، والتي تعثرت بسبب نفوذ الأجهزة المخابراتية الأمريكية. تلك المحاولات، مع خلفية تاريخية مستفيضة عن خلفيات القرار الأمريكي الامني الرسمي الجدليّ، والفرضيات التي تقول بتورط مواقع الكترونية عالمية شهيرة مع السلطات الأمنية الغريبة بالتجسس على مستخدميها، ستكون موضوعات الفيلم التوثيقي الضخم “الولايات المتحدة للأسرار” والذي عرض مؤخراً على قناة “PBS” التلفزيونية الأمريكية الحكومية.

ينتمي الفيلم، والذي انتجته مجموعة كيرك للأفلام التسجيلية، الى اتجاه شائع في السينما التوثيقية الأمريكية، من التي يغلب عليها الجانب التفصيلي ورغبتها بالإحاطة الكاملة بالموضوعة المقدمة على حساب البحث عن تجديد او تجريب فنيّان. فالفيلم، وخاصة في جزئه الأول، هو مجموعة من المقابلات التي تربطها مشاهد قصيرة، كالتي تستخدم بكثرة في التوليف التلفزيوني لتقطع التسلسل الرتيب للمقابلة الصحفية المباشرة. هذه المقاربة ستكون مفهومة في هذا الفيلم، باعتبار موضوعته التي تقدم تفاصيل سريّة غير موثقة باي شكل من الاشكال الملموسة، لتغدو معها تقديم شهادات المقربين على الحدث، هي المعالجة المتوقعة وأحياناً الوحيدة.
يبدأ الفيلم بشهادات لصحفيين من مكتب جريدة الغارديان البريطانية في الولايات المتحدة الأمريكية والذين سيتلقون رسائل ألكترونية من شاب امريكي يعرض عليهم قصة صحفية سيكون لها وقع مدوي. بعد تردد من الصحفيين، سيكون الاجتماع الأول مع ذاك الشاب في هونغ كونغ، والذي سيكون البداية لفضيحة أمريكية رسمية لازالت وقاعها مستمرة لليوم. الشاب هو إدوارد سنودن، والذي حصل على ملايين الوثائق الالكترونية التي تثبت تجسس جهاز “NSA” (وكالة الامن الوطني)، على هواتف وبيانات ملايين من الأمريكيين ولسنوات بدأت بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. عندما قامت الصحيفة البريطانية بنشر بعض من هذه الوثائق، ستحدث ضجة كبيرة، وسيتحول إدوارد سنودن الى مطلوب أمريكي، ولينتهي به الحال كلاجئ سياسي في روسيا حيث يعيش اليوم.
يركز أكثر من ثلثي الفيلم على الظروف التي قادت الوكالة الأمنية الأمريكية الى اتخاذ القرار بالتجسس على معلومات شخصية لأمريكيين. فيلتقي مجموعة كبيرة من موظفي الجهاز الأمني نفسه، والذين تركوا الخدمة في السنوات القليلة الماضية. هؤلاء سيرجعون السياسية الأمنية الجدلية الى فشلهم في توقع حدث كالحادي عشر من سبتمبر، والذي قاد الى خطوات صارمة لم تُعير انتباه كبير للقوانين الأمريكية التي تمنع التجسس على المعلومات الشخصية لمواطنيها. تكشف تلك الشهادات ان النظام السياسي الأمريكي كان على علم بالخطة الأمنية الجديدة، لكن تم تظليله أحيانا بالزعم ان التجسس سيكون مقتصراً على المشتبه بهم من غير الأمريكيين الذين يزورون او يعيشون بشكل مؤقت في البلد. كما ستكشف تلك الشهادات ان هناك من عارض التجسس من داخل الجهاز الأمني نفسه، وهناك من حاول كشف مخالفات جهازه الى الصحافة الأمريكية، لكن هذه الأخيرة عجزت عن نشر القصة الصحفية وقتها بسبب ضغوطات الحكومة الأمريكية وقلة الوثائق.

سيكون الثلث الأخير من الفيلم أكثر حيوية، بسبب سعة ما يتناوله وقربه من العلاقة اليومية بين كثير منا وشبكة الانترنت. فالفضيحة التي اثارها إدوارد سنودن، ستطال مجموعة من أهم المواقع الالكترونية العالمية، والتي ستتهم أحياناً بتوفير بيانات مستخدميها لوكالة الامن الوطني الأمريكي. رغم ان تلك المواقع نفت وقتها إنها تكون قد تعاونت مع المخابرات الأمريكية، لكن من دون أن تنفي تماماً حصول هذه الأخيرة وبطرقها الخاصة على معلومات شخصية من هذه المواقع. يقترح الفيلم إن هناك اتفاقا سرياً تم بين “غوغول” والسلطات الأمنية الأمريكية يقضي بتقاضي هذه الأخيرة عن مخالفات إرتكبها أكبر محرك للبحث على شبكة الانترنيت (منها ان يقوم غوغول نفسه باختراق الاميل الخاص بمشتركيه للبحث عن معلومات تخص سياساته الاعلانية). كما يتعرض الفيلم لفضيحة أخرى موازية تقول ان المخابرات الأمريكية قامت باختراق “الكيبل” الدولي الخاص بالأنترنيت، والحصول على معلومات شخصية لملايين من البشر حول العالم.
ينجح البرنامج في جمع مجموعة كبيرة من شهادات موظفين سابقين لجهاز وكالة الامن الوطني، والعديد من الخبراء، وأعضاء من أحزاب سياسية أمريكية، هذا سيرفع من القيمة التاريخية للفيلم، ويضعه في فئة التحقيقات الاستقصائية المتمكنة والتي ربما ستتحول الى مرجع عن الموضوعة ولسنوات طويلة قادمة. يعود الفيلم التسجيلي في خاتمته الى إدوارد سنودن نفسه، لينقل صورة مغايرة لتلك التي هيمنت عليه في الاعلام الأمريكي، والذي قدمه كخائن او حاقد. ينقل صحفيون قابلوا الشاب الذي لم يتجاوز عقد العشرينات وقتها، عن الاتزان الذي يميز سلوك الأمريكي، وكيف كان يحمل هَمّ نقل ما توصل اليه الى العالم، منطلقا من حبه ببلده وإيمانه بقيمه السامية.


إعلان