لوحات خالد التونسي أشعار رقيقة وشموس وديعة تزهر
الرباط ـ المصطفى الصوفي
تشكل تجربة الفنان التشكيلي خالد التونسي إحدى التجارب التشكيلية المغربية المضيئة، التي بصمت ألوانها بالتنوع والخصوبة، والسحر والانجذاب الروحي إلى عوالمها الغيبية، والتي تفضي بالمتلقي إلى عمق الفن التصويري البهي، الذي يقدم الأسئلة، ولا يجب عليها، في إشارة فنية فلسفية إلى عمق اللوحة التشكيلية لدى الفنان وما تكتنزه من بلاغة وسحر عوالم وانتظارات تبهر المتلقي أينما كان وفي أي زمان.
الرسام خالد التونسي الذي أقام أخر معارضه الأسبوع الماضي برواق النادرة بالعاصمة الرباط، يقيم حدود التهجي الفني بين هيروغليفية الألوان، وبهجة اللوحات، مهما كانت زواياها تفيض عذوبة، وتسحر ناظريها بتعدد بيانها، وأبهة بديعها الذي يجعل من اللوحة التشكيلية في حضرة الفنان احتفاء بكل ما هو تراثي ومجتمعي، في قالب واقعي وتشخيصي رمزي، وإلهاما وجدانيا، وقصائد شعرية تحكي ألف قصة قلب وقلب، وتقدم للجمهور، بأسلوب لا يخلو من دقة ومهنية، خلاصات وجدانية، وفيض أحاسيس ومشاعر، قد تبرز ما يفكر فيه الفنان، او ما يفكر الآخر فيه من خلال الفنان، وذلك عبر مواضيع تتنوع وتزهر في الزمان والمكان.

قوالب شعرية جاهزة
بشاعرية لا تخلو من وداعة في المعنى ولطف في المبنى، وبسحر أخاذ يستلهم عبقه الزعفراني من بهاء اللون، وحكمة الذاكرة، وبلطف الشعراء حين يبوحون بخلجات الصدور، وبفنية عالية تدرك جيدا أن للون انعطافه، وتأثيره، وخلقه للمتعة البصرية المبتغاة، يسافر بنا خالد التونسي من خلال أعماله الجديدة، التي تزاوج بين هو واقعي وتشخيصي، وتشخيصي رمزي،، وبين عوالم جديدة، يكون فيها اللون سيد نفسه، حيث حركة الريشة البهية رمزية أخرى للخلق والإبداع.
بتلك الرقصات الفنية التي أوجدها الفنان عبر مسرح لوحاته، يكون قد قدم للمتلقي بكل الثقة في النفس، قوالب شعرية جاهزة، ترحل بالجمهور إلى ضفاف الأمنيات، ضفاف يطرح من خلالها أسئلة تارة تكون تجريدية موحية، وأخرى تكون، مفعمة برقة الورود، على أجنحة اليمام الذي كلما تلألأت الألوان على ريشه، كان أبهى، وكانت هي أكثر بهاء.
حس تجريدي على أوراق التوت
تلك هي أعمال الفنان الجديدة، التي يحاول من خلال انفعالاتها، وتجلياتها، توثيق الذاكرة المجتمعية المغربية والعربية على حد سواء، بكل تقاليدها وعاداتها وطقوسها، وبسط مواويل شاعرية خالصة، وابتهالات صوفية نقية لمبدع ناسك متعبد، يدرك جيدا ماذا فعلت به الألوان في محراب الفنون….تلك هي أعمال الفنان خالد التونسي أزهار تورق هناك وتسر الناظرين، بلون الياسمين، والزعتر، والحنين، حنين الذكريات الى خربشات الطفولة التي لا يمكن لأي أن ينساها، وقد تكون احد المرجيعات الفنية والإبداعية لكل فنان… تلك هي أعمال الفنان خالد التونسي، رقة نتلمسها بحس تجريدي على أوراق التوت، ووداعة مناديل الشوق، أطياف شاعرية، وأشياء وموجودات تتفسخ لوحدها بشكل يثير المتلقي برمزيتها الموغلة في البهاء، هذا الإبهام، الذي يكون فاتحة بلاغة وغموض، وفي ذلك ألف معنى ومعنى يزهر بين ثنايا الألوان… تلك هي أعمال الفنان خالد التونسي، أحاسيس تعبر أكثر ما تقول الحقيقية، ورقصة لغات فنية لها تعاويد الشعراء والناسكين والمتعبدين، حين يهيمون على أحلامهم بحثا عن الخلاص، وتحقيق المراد وما تصبو إليه النفس من راحة، وسلام، ويقين.
بحث عن صناعة الجمال

إن يقين الفن التشكيلي عند التونسي، هو أن يقدم للمتلقي عملا تشكيليا صافيا، يخلخل الذاكرة ويطرح السؤال، ذاك السؤال الفلسفي الذي يجعل من النص التشكيلي لدى كل فنان محاورة خلاقة بين الفنان والمتلقي، وبين الذات والأخر، وثقافة مشتركة بين الطرفين بحثا عن صناعة الجمال، رحلة استمتاع بسحر الفنون التشكيلية أملا في العثور على الاشتهاء البصري التي يصبو إليه كل نص إبداعي، ومتلقي.
هكذا هي فلسفة أعمال الفنان التشكيلي خالد التونسي الذي يراهن من خلال أعماله التي عرضت بالعديد من الفضاءت المغربية عبر معارض فردية ومشتركة، وذلك في أفق ترسيخ ميكانيزمات فنية تكرم في العميق اليومي، والمعيشي، وتغازل سفر التكوين، حيث اللغة الموحية والتجريدية، رحلة إمتاع إلى ابعد الحدود، أعمال رغم سلها الممتنع تبتعد عن الفن العادي والمبتذل، وتضيف سحرا الى الفنون التشكيلية المغربية، وتسعى في العمق إلى بصم الذاكرة التشكيلية الوطنية وتوثيق صوفيتها ومحاربها ودروبها، بكثير من التأثير والجاذبية والجمال.
وصفاء الذاكرة الفنية
تلك هي أعمال الفنان خالد التونسي أوراق سحر على بعضها تلتف، تكبر كل فجر، بزهو الحالمين، تفوح بأريج اليقين، وصفاء الذاكرة الفنية التي يشمها الفنان في كل زاوية لوحة على حدة، وهو بهذا يكون احد رسامي المستقبل، الذي يدرك جيدا ان الفن التشكيلي سير بالتدرج وسفر حالم بين مختلف التجارب والفنون، ومشي بطيء بين دروب الألوان بحثا عن الحقيقة ـ السراب، التي لا يمكن القبض عليها، إنها سحر الماء الفني التونسي الذي ينجذب بين الأنامل في صورة شاعرية وحالة لا توصف، تعاويذ شعبية سائغة لها سلطة التشويق، قراءة للكف حول مستقبل الغد المشرق، لعبة بين الألوان حين تفيض، من بين زوايا اليدين، واغتسال كبير للريشة كي تتطهر، انه الطهر الفني الذي يوجده الفنان، بكل تقنية عالية، وفي قالب إبداعي رشيق، يسر المشاهدين هنا وهناك.
تصوف وطبيعية وخيول

ثمة كان الفنان الطفل، ابن العاصمة الرباط، الذي بدا في مداعبة الألوان في حقول الذاكرة، يرسم بكل بعفوية الخربشات الأولى لعالمه الخاص، حيث طائرة ورقية تسافر به بعيدا بكل سرور، رسم الأشياء كما هي لا تخلو من رائحة الأولين، كما رسم العديد من الفنانين الآخرين كمصطفى لبيض، والبحتري والهبولي، وغيرهم كثير، وكان لهذا التكوين الشخصي والتدريب الذاتي، وقع كبير على تجربته الفنية التي أينعت فيض أعمال تستحق المتابعة والقراءة والتأويل، ذلك من اجل البحث فيها عن الصلاحيات، وكل ما يستحق المشاهدة، حيث بدأ برسم كل ما يحس بد سواء عبر المناظر الطبيعية والخيول التي تعدو باتجاه المستحيل، فضلا عن مشاهد تشخيصية تثير الروح والغرائز، كما ان تدرجه المهني أهله للبحث عن معنى جديد للوحة بتقنية جديدة، وهو ما فسح له المجال ليستقر حتى الآن على هذا الأسلوب الشيق، الذي يقدم اللوحة كرقصة شاعرية، وسؤالا فلسفيا، وقصيدة شعرية تثير المتلقي، وتقول له، (هل تفهمني أنا التي انكتبت كي تفهم قوافي معناي)، دون ان تطرح سؤال (انا لا افهم ما يرسم يا عالم).
ثقافة جديدة وسريالية وجدانية
في كل لوحة لذة وألف حكاية، وفي كل حكاية ألف سرد وسرد لما كان وسيكون، انه التونسي يدرك جيدا، ان اللوحة التشكيلة في حضرته تتحول إلى سفر حالم وشاعري باتجاه عوالم غيبية، ورؤى حالمة لعدد من الافتراضات والتأويلات لكن على كل حال، تقدم ثقافة جديدة وسريالية وجدانية، بفيض ألوان تتغير حسب الفصول وما يود الفنان أن يوصله إلى الجمهور، الأمر الذي يحول اللوحة إلى نص إبداعي له بداية ونهاية، وقد لا تكون له أي بداية أو نهاية، على اعتبار إن اللوحة التشكيلية لديه مشروع فني قد يبدأ لكنه لا ينتهي، وهو ما يجعل كل أحاسيسه الفطرية ومقايساته الفنية الجميلة، تصبو إلى الاحتفاء في العمق بقيم الهوية، وتحويل العلامة إلى نص إبداعي سيميائي تتداخل فيه الكثير من الرغبات والانجذابات، حتى تؤدي اللوحة التشكيلية دورها الفني المبتغى.
غرائبية تسبح ضد التيار

تلك هي تجربة الفنان خالد التونسي، في شكلها الجديد، بحر من الألوان الداكنة حينا والفاتحة حينا آخر، ألوان تزهر بأديم الأرض، وقت كل الفصول، تارة حزينة وأخرى بهيجة، ألوان تزهر بفيض أمواج، أسراب من الطيور الفردوسية المهاجرة إلى ابعد مدى، شبه تجاعيد قديمة لها بياض الذكرى، مخلوقات غرائبية تسبح في ضد التيار، إنها، بصمة راقية لفن راق، يهب الجمهور سحر الفنون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
إنها أيضا لغة الطين تنكتب على ألواح العشق، شمس أنيقة تينع من ثنيا أوراق زهور سامقة لها رقة العاشقين، شموس ترقد على ضفاف السحر البهي، ريش بلون البرتقال يهب المتلقي أناقة الفنون التشكيلية التي يوجدها الفنان التونسي في قالب مشوق للغاية.. إنها خليط من الألوان الزاهية التي تزهر بأوراق الربيع القادم، قصائد شعرية لها عنفوان الصبايا، ورقصات حالمة ليست ككل الرقصات.
شاعرية وفلسفة ألوان
إن تجربة الفنان التونسي من جانب آخر، مزهرية مواضيع خصبة وألوان، تلامس ملامح إبداعية لأسلوب واقعي تشخيصي حقيقي هنا، وتبحث عبر رسوها على ضفاف تجريد حالم، وشاعري، بحثا عن التجديد ببصمة مؤثرة للغاية، وفي أحيان أخري، يبدو التشخيص الرمزي عبر تلك الأقواس الطاهرة والدروب، والشرفات، والنوافير الرومانسية، أكثر حرية وشاعرية، حيث فلسفة الألوان تخيط برونق الجمال والشاعرية، قشيب لوحة بهيجة، وليكون الفنان واحدا من المبدعين المغاربة والعرب المجددين، والحالمين بأفق إبداعي يتطور، ولا يخرج من جلباب الآخرين، حيث يرسم وفي رسمه نفحة رسالة كونية تمجد الهوية والحلم، وبحث حثيث عن ذلك المعادل الموضوعي الرفيع الذي يشد المتلقي، تكريم للوجدان والطبيعة والإنسان، بلغة تجريدية رقيقة، وتشخيصية رمزية، وترسيخ لروح المحبة والسلام التي تنشده اللوحة هنا وهناك.