كرة القدم.. الأحلام والحياة وقصص أخرى
قيس قاسم
لا علاقة مباشرة للفيلم الوثائقي “ماتا ماتا.. قصص عن كرة القدم، الأحلام والحياة” ببطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في البرازيل، إلا بحدود ترتيب مواعيد عرضه مع أقترابها لأغراض تجارية بحتة ولتداخل موضوعه، طبعاً، مع الحدث نفسه كونه يتعلق بعالم كرة القدم الذي يدخله هذة المرة المخرج البريطاني جينس هوفمان من زاوية انسانية ذات صلة بحياتنا المعاصرة التي نعيشها وبعالمنا المتشابك الأطراف فيذهب خلاله، بدلاً من عرض تقنيات الكرة ومهارتها أو تناول أجزاءً من تاريخها، الى الحياة في أمريكا اللاتينية، القارة التي أحبت الكرة وصار أحترافها حلم أغلبية شبابها بخاصة الفقراء منهم والذين تمثل لهم آمالاً عظيمة في التخلص من البؤس الذي يعيشونه.

ولهذا شرع الوثائقي بجانب غير مألوف كثيراً يخص وسطاء الأندية الكروية الأوربية ودورهم في أبرام عقود لعب مع الصبيان الموهبين منهم وسط تداخل بين الرغبة القوية في الانتقال من الهواية الى الأحتراف عند اللاعبين وبين تجاذبات مصالح الأندية العملاقة وأستغلالها لأوضاع عوائلهم الصعبة التي لا مناص في التخلص منها إلا بالموافقة على شروطها المجحفة التي يسطرها محاموها فوق صفحات العقود وفقراتها التي تصب في النهاية لصالح أصحاب الأندية، ولهذا نراه يركز كثيراً على هذا الجانب ومن خلاله يرسم صورة بانورامية عن ظروف حياة لاعبي كرة القدم لم نعرفها بهذا الشكل المدهش إلا في بورتريهات وثائقية قليلة حاولت التقرب من العوالم الجوانية للاعبين كبار صُوَرتهم الخارجية كنجوم، يتمتعون بالموهبة والثراء، لا تتطابق مع دواخلهم الممزقة ولا مع ما يعانونه من ضغوطات نفسية ومرارت اجتماعية حاول التقاطها المخرج اليوغسلافي امير كوستوريتسا في فيلمه “مارادونا” والآن يمضي هوفمان أبعد ليسجل بطريقة حاذقة أكثر من نموذج حي وفي أكثر من بلد عبر ملازمة زمنية طويلة تظن أنه من المستحيل التمكن منها إلا إذا كرس السينمائي نفسه بالكامل لأنجاز عمل أراد له أن يأتي مختلفاً ومشبعاً بمادته وقوة حصافته الفكرية ومن هنا ف”ماتا ماتا” (مصطلح رياضي شائع مشتق من البرتغالية ويعني ما معناه: “فز أو عد الى بيتك!” هو بحث بصري، أشكالي، أكثر منه فيلماً عن الكرة وجماليات لعبها.
يتوزع الوثائقي البانورامي على فروع تفصيلية تفرعت من هيكل درامي متين جعل من كرة القدم نقطة أرتكاز وراح من خلالها يسجل تفاصيل الحياة في قارة جمعت بدورها متناقضات العصر كله لكنها تميزت بحبها لكرة القدم وعشقها الأزلي للاعبيها وبهذا المعنى يمكن أن يكون “ماتا ماتا” وثائقياً حياتياً وسيلته الكرة ومعبره للدخول في عوالم اجتماعية ونفسية تتجلى بحجم التفكك الأسري الصارخ وأنتشار الجريمة والعيش في الأحياء الفقيرة المحيطة بالعواصم المكتظة بالبشر والتي تتوحد في حبها للكرة وهذا ما يعرفة وكلاء الأندية الرياضية الذين طاب لهم المقام فيها لمعرفتهم بالكنوز “الكروية” التي تكتنزها، والمثير فعلاً للأستغراب قدرتهم على الأقتراب من الحياة الأسرية والاجتماعية بل معرفتهم الدقيقة وتحرياتهم المكثفة لحياة كل موهبة جديدة يريدون شراءها قبل غيرهم بسعر بخس منطلقين من قدرتهم على اللعب على أوتار حساسة داخل كل صبي مراهق لم يبلغ سن الرشد، بعد.

وكلاء شركة “ترافيك” في ريو دي جانيرو مثالاً توقف عنده هوفمان طويلاً كونه يمثل عينة لنشاط دائم ومحموم لبقية الأندية المحلية والأوربية التي تجني من تواجدها هناك الملايين كل عام فيما تنقل بالعقود البسيطة أوضاع عوائل اللاعبين الى مستوى جديد يقترب تحقيقه من الحلم وبهذا كنا قريبين من المعادلة التي يشتغل عليها مدير الوكالة الألماني يخوين لينتش: كلما عرفت أحوال معيشة اللاعب كلما سهل عليك أقناعه بتوقيع العقد وتحقيق الشرط الأقتصادي الأهم لنا “أشتري اللاعب الموهوب بثمن قليل قبل وصول غيرك اليه لأنه حينها سيصبح سعره غالياً وغالياً جداً”. هذة القواعد يسجل تفاصيلها الوثائقي بمهارة وبحصافة سينمائية تعتمد الأنتقالات الحادة والسريعة بين عوائل اللاعبين وجلهم من الفقراء وبين الوكلاء والمدربين وبين الناس العاديين المنشغلين بالكرة ذاتها وغير المكترثين بتفاصيل وصول اللاعب النجم الى الملعب. كل ما يهم الناس هو فوز فريقهم ووجود دائم للاعبين مهرة يحققون ما يحلمون به. وعلى هذا الجانب النفسي يشتغل جيش من العاملين في الأندية والمنتخبات، يغذون هذا الطموح ويبطنون غاياتهم الربحية بأغطية الولاء والأخلاص للنادي والمنتخبات الوطنية، وأغرب ما في الأمر كما يتجلى لنا في متابعة “مايا مايا” أن ثمة تواطؤ ضمني أو رغبة غير معلنة في تجنب الإشارة الى تلك الغايات لأنها ببساطة تفسد “نقاوة” الحب الذي يكنه المشجعون للّعبة الأكثر شعبية في العالم.
يأخذ الانكليزي هوفمان ليشبع “بحثه” دراسة بصرية عدة لاعبين ويظل يلاحق تطور أوضاعهم الكروية والحياتية من بينهم: دانتي بونفيلم الذي يلعب لنادي بايرن ميونيخ وكارلوس جيسوس لاعب باير ليفركوزن ودانيلو باربوسا من نادي ريو سينا البرازيلي وغيرهم. تابع تفاصيل عيشهم وترك مجالاً مفتوحاً يسمح باضافة المتغيرات الطارئة عليها ما أضفى على عمله طابعاً آنياً وديناميكياً تساوق مع ديناميكية اللعبة نفسها والتي أخذت حيزاً لابأس به من وثائقيه دون أن تغلب عليه، لأنه حينها سيسقط في مطب حقيقي يسهل الوقوع فيه لحلاوة المَشاهد المأخوذة من الملاعب والتي تُنسي أحياناً صانع الوثائقي مراقبة توقيتاته بشدة وأحكام ومع هذا ف”مايا مايا” أنتقل الى ملاعب كثيرة من بينها ملاعب دولة الأمارات المتحدة حين أراد وقتها تسليط الضوء على الجوانب النفسية للفريق الخاسر عبر متابعته لتصفيات بطولة العالم لسن دون السابعة عشر التي أقيمت هناك وخرج الفريق البرازيلي فيها خاسراً أمام المكسيك وحينها أعلن له أحد اللاعبين المتأثرين بالهزيمة “أن تتعلم من أخطائك أمر في غاية الأهمية لكنه تعلُم موجع جداً”. أحاديث اللاعبين بسيطة وتعود الى بساطة المستويات التعليمة في القارة نفسها وعن هذا الجانب يقدم لنا هوفمان عالماً واسعاً تنقصه المعرفة وعليها يشتغل الطامعون ومن بين أخطرهم تجار المخدرات الذين أفشلوا الكثير من المواهب الواعدة وأجبروا عوائل كثيرة للعيش في الأحياء التي يسطرون عليها.

مسألة الأنتقال من أحزمة الفقر الى المدن الكبيرة والى بيوت جيدة واحدة من أكثر دوافع أبناء أمريكا اللاتينية لإحتراف كرة القدم ويعطي الوثائقي عبر النماذج التي أخذها كيف يقبل الصبيان بكل شيء مقابل أسعاد أهاليهم، بما فيها الهجرة والعيش في بلدان أخرى يصبرون على البقاء فيها أرضاءً لطيبتهم والتزاماتهم الأخلاقية وعن هذا الجانب يحفر الوثائقي عميقاً في مسألة “التصادم الثقافي بين الشعوب بخاصة لمواطن أمريكي لاتيني جاء من الطبيعة الساحرة والدفء ليستقر في بلدان باردة جواً وشعباً الى جانب اللغة وتعلمها وتنازع الموروثات الثقافية داخل الملعب وخارجة والتعرف المبكر على المال وطرق التحكم به ولو بعد حين. حزمة قضايا يربطها هوفمان ببعضها ليعطي صورة غير منمطة لكرة القدم ولاعبيها عبر منظور تحليلي يستند على فهم جيد للكرة وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية بالطبع وعن كل جانب من هذة الجوانب يضع أشارة قد يتوقف المشاهد عندها أو قد يعبرها الى غيرها من الأشارات ولعل أكثرها حاجة الى تبسيط هي دور الأمومة في حياة اللاعب الأمريكي اللاتيني. نلاحظ من خلال مصاحبتنا للّاعبين المنتقين ان أغلبيتهم قد حرموا من علاقة سوية بآبائهم وظلوا لصيقي الصلة بأمهاتهم وبدورهن كن أكثر أيجابية في تفهم أحوال أولادهن وطموحاتهم والصعوبات التي تحيط بهم ويعود السبب الى طبيعة المشكلات التي تعاني منها القارة والضاغطة على الرجل بالدرجة الأولى، لأنه وحتى الساعة يظل المعيل الأساس للعائلة يسبب أنخفاض نسبة المشاركة النسوية في الانتاج الأقتصادي ولكنها في نفس الوقت وعلى المستوى العاطفي تلعب دوراً فاعلاً وحاضناً وفي حالة “ماتا ماتا” الكروية يظهر ذلك بسطوع.
ثمة عنصر نفسي في المعادلة الكروية الملتبسة والمعقدة ينشده الجميع ويتعلق مباشرة في الرغبة بالأنضمام الى المنتخب الوطني لأنه وعند هذة النقطة بالذات تنزاح، نسبياً، المنافع الاقتصادية الكروية جانباً أو تؤجل وتحل محلها الرغبة الصادقة في التضامن المجتمعي والتضحية الوطنية والتعبير عن حب الكرة لذاتها لهذا رأينا كيف كان حلم الوصول الى المنتخب وتمثيله في البطولات الدولية يشغل بال أكثر اللاعبين وعنه يخصص هوفمان الربع الساعة الأخيرة من وثائقية الذي طال قرابة ساعة ونصف لكنه مر سريعاً ومسح بصرياً في طريقة عالماً واسعاً ومتشعباً لا يستطيع الأمساك به سوى سينمائي متمكن وباحث ألمعي في كرة القدم وسحرها اللامتناهي.