مهرجان فاس للموسيقى العريقة : سفر حضارات

فاس ـ المصطفى الصوفي

تعتبر مدينة فاس المغربية من بين المدن العتيقة، التي تحبل بفيض تاريخ عريق، وثقافة مجيدة متجذرة في أعماق التاريخ، ثقافة خصبة ومتنوعة، رسمت معالمها الإبداعية الكثير من الفنون التراثية الأصيلة، وتجليات صوفية وفكرية، فضلا عن ثقافات مختلفة تعاقبت عليها حضارات مختلفة.
وتشتهر المدينة، وهي العاصمة العلمية للمملكة، بكونها تحضن أقدم جامعة في العالم العربي، وهي جامعة القرويين، التي تخرجت منها شخصيات علمية وأكاديمية مغربية ومن بلدان عربية وغيرها، هذا بالإضافة إلى العديد من المآثر التاريخية والمواقع الحضارية، والمزارات وغيرها.

وبما أن المدينة كانت مهد العلوم وما تزال، كان لابد  لمختلف أشكال الثقافة والفنون العريقة أن تزهر هناك، وتعرف ازدهارا كبيرا، ومنها الموسيقى، ممثلة في الموسيقى الأندلسية والملحون وطرب الآلة، وغيرها، في هذا الصدد، حضيت المدينة العريقة كل عام، بشرف تنظيم مهرجان دولي كبير، أطلق عليه اسم(مهرجان فاس للموسيقى العريقة العالمية)، الذي ينظم بمبادرة من مؤسسة روح فاس، وبدعم من شركاء عدة.
ويعتبر هذا المهرجان، من أبرز التظاهرات الدولية التي تنظمها مؤسسة روح فاس ، فهو يندرج في إطار سعيها إلى جعل الفنون والقيم الروحية في خدمة التنمية البشرية والمجتمعية والتقريب بين الشعوب والثقافات. حيث استطاع منذ انطلاقته ان يضمن لنفسه مكانة متميزة على الصعيد العالمي، كتظاهرة عالمية متخصصة في الموسيقى العريقة والروحية، التي تجمع ثقافات وحضارات عدة، وقد اختير العام 2001  من طرف هيئة الأمم المتحدة، كواحدة من التظاهرات التي ساهمت بشكل ملحوظ في حوار الحضارات والثقافات.
هذه السنة، وقبيل حلول شهر رمضان المبارك، وفي أجواء شهر شعبان المشبعة بأحاسيس ومشاعر مفعمة بقيم روحية، تم تنظيم الدورة ال 20 من هذا المهرجان، وذلك في الفترة الممتدة من 13 الى 21 من شهر يونيو الماضي، وذلك برعاية سامية من العاهل المغربي الملك محمد السادس.

ثراء الكنوز الفنية الصوفية
وقد انطلق فعاليات الدورة، بتنظيم حفل قني ضخم، أقيم بفضاء باب الماكينية التاريخي، وهو الحفل الذي أحياه نحو عشرين فنانا من المغرب، وخارج المغرب، وجسد بكل تفاصيل الإبداع المبتكر على مستوى الإخراج، شعار الدورة، وهو ( منطق الطير… حين تسافر الحضارات).
وقد حلق الفنانون المسافرون الحالمون، بالجمهور، على مدة ساعتين من الزمان، في سماء الانتعاش الروحي والموسيقي، حيث سحر التراث والموسيقى العريقة الكونية، تكشف للعالم مدى ثراء الكنوز الفنية الصوفية، التي ترفرف بقلوب عشاقها بعيدا بعيدا، بحثا عن صفاء السريرة، ونقاء الروح المتلألأة بزهو الضوء، حيث تخفي تلك المقامات، هيروغليفية طيور فردوسية لها أجنحة خفاقة بريش الجنة.
تلك كانت لحظات حفل الافتتاح الذي حضرته عقيلة العاهل المغربي الأميرة لالة سلمى، لحظات مزهوة بعنفوان قصص تاريخية روتها حناجر طيور فردوسية بمواويل ربانية ليس لها مثيل، حيث مضمون القصة العرض، لصاحبه المتصوف فريد الدين العطار، كمصدر الهام للبشرية، تستحضر بكل الرقة الأنيقة روح المغامرة التي يتحلى بها الإنسان، فضلا عن صراعاته وتأثيراته وعلاقاته مع الأشياء والموجودات والآخر، إنها لوحة فنية توثق لسفر الثقافات فيما بينها، وعناقها الابدي، ذلك ما باح به منطق الطير، حين حلق عاليا عاليا، وانشد من حناجر الذهب ترانيم ربانية ليست ككل الترانيم.

وقدم حفل الافتتاح، الذي اشرف على تصوره الفني مدير المهرجان الدكتور فوزي الصقلي، وأخرجه المخرج الفني العالمي تيري بوكيث، وأبدع موسيقاه  الفنان الإيراني اراش شاركيشيك، للمتلقي صورة أبهى لمشروع إبداعي وفلسفي وصوفي، سافر بالجمهور إلى القرن ال 13 من خلال مزيج فني بين الموسيقى العريقة والرقص والمسرح، حيث اختزل العرض في مجسم لطائر ضخم، يحلق بشكل بديع في تفاعل مع الموسيقى وإيماءات الجسد، بحثا عن رحاب الحرية والتخلص من ربقة الأنا، بما لها وعليها من هموم وحيرة وانفعالات وتعب مسافات، وصراعات وأحزان.

رحلة خرافية وأسطورية
هكذا كان حفل الافتتاح، الذي جمع بين الغناء والرقص التراثي والمسرح، والمقامات الشعرية والفن والسينما، قصة مبتكرة، ومحاكاة صوفية، يذكر فيها المتصوفة فريد الدين العطار، كيف قرر طائر الهدهد، ان يجمع سربا كبيرا من الطيور، للقيام برحلة خرافية وأسطورية، من خلالها يستطيع السرب لقاء طائر(السيمرغ) سلطان الطيور، وملكها، رحلة طويلة من خلالها يعبر السرب سبعة انهار، وسبعة مقامات روحية، يقدم فيها كل مرة احد الطيور كالببغاء والطاووس، والحجل والعندليب والنسر مرافعة بمنطق مختلف، تقدم للمتلقي سمو المواويل ونبلها، وانعكاساتها  على مختلف مناحي الحياة الإنسانية، أملا في عناق صفاء الروح.
في هذا الإطار قال مدير المهرجان ومؤسسة روح فاس الدكتور فوزي الصقلي، بالمناسبة أن هذه الدورة حاولت ان تجعل من قصة للعطار مصدر إلهام حقيقي، لاستحضار المغامرة الإنسانية للاجتماع، وللتبادلات وللصراعات وللتأثيرات ولسفر الثقافات…إنها مغامرة  لتاريخ البشرية، والسعي من أجل المعنى، وذلك بلغات متعددة تضاء أحيانا ببعض النفحات النورانية الكونية، وفي غالب الأحيان تستضيء بوفرة اللغات البابلية، والتأويلات أو وجهات النظر.

وأضاف أن نداء منطق الطير، هو جوهر مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، خلال كل السنوات العشرين الماضية، وكذا المنتدى، وان حوار الثقافات لا يمكن أن يكون غاية في حد ذاته كما هو الحال بالنسبة لمجلس الطيور في كل مرحلة من مقاماته، إنما هو رحلة نحو نقطة محورية، وهي طائر (السيمرغ). إنها معرفة ديناميكية ـ يوضح الصقلي ـ حيث يتم استدعاء كل ثقافة من أجل التحول، والبحث والتحسن ومواجهة نفسها في المرآة الخاصة بها، و من أجل البحث عن أثمن ما تحمله في طياتها، ومن أجل المسير، والحديث عن سنغور، في ليله للوصول إلى فجر الكونية.

مفكرون ومتصوفة وفلاسفة
واحتفلت الدورة بالمناسبة بمرور عشرين سنة من الرحلة الموسيقية والفنية عبر محطات مختلفة للتراث والثقافات والحضارات العالمية، وبمختلف التعابير الموسيقية والفنية التي أبدعتها ثقافات العالم منذ فجر التاريخ، وذلك من خلال عروض فنية وموسيقية غاية في التشويق والإثارة والمتعة البصرية. عروض انكشفت بعمق التدرج بمناسبة حفل موسيقي او معرض أو فيلم او ندوة فكرية. كما ان مؤسسة روح فاس أبرزت من خلال الدورة استلهاما من ال 20 سنة الماضية الغنية بإبداعاتها ولقاءاتها الثقافية، واستشرافا لمستقبل فنون تراثية تحتفي بها مدينة فاس عبر مهرجانها، الذي ظل على الدوام يشكل مرحلة فاصلة في سفر الروح لعدد كبير من المفكرين والمتصوفة والفلاسفة كابن رشد وابن ميمون وابن الفارض والسهروردي، والحلاج، وابن بطوطة وابن خلدون وغيرهم، وذلك لاكتشاف فيض من الإبداعات الرائعة، تلامس في تجلياتها الضوئية معالم فن صوفي نبيل يقدم البهى والأشهى في هدوء وسكينة ليس لها مثيل.
وتوزعت سهرات المهرجان، الذي شهد أيضا تنظيم أنشطة تربوية بيداغوجية، وبرامج موجهة للشباب، ومعارض، وعروض أفلام، وزيارات ثقافية، بين عدد من الفضاءات التاريخية، التي جمعت بين سحر التراث والفنون والمآثر العريقة، فضلا عن وداعة الطبيعة بحدائقها الأندلسية الغناء وفسحة الهواء الطلق، في موسم الصيف، وهي فضاءات “متحف البطحاء” و”ساحة باب بوجلود” وحدائق “جنان السبيل”،  “باب الماكينة”، ثم “دار عديل” و”دار المقري” و”دار التازي”، التي تعتبر من الدور العتيقة التي تفوح عبق تراث قديم.

مشاركة دولية مكثفة
وكانت مختلف القارات الخمس في هذه الدورة، ممثلة بفنانيها الكبار، وروادها الموسيقيين الوازنين، حيث قدم الفنان (روبرتو أليانا)، الصوت الرنان، إبداعا مبتكرا خاصا للمهرجان، كما تميزت الدورة بمشاركة (توماتيتو) رفقة (باكو دي لوسيا) اسطورتا “القيثارة الفلامنكية” الاسبانية الأوربية، فضلا عن (فرانسواز أطلان) من ارلندا و(لوزميلا كاربيو)، من بوليفيا، و(روبيرطو ألاغنا) من فرنسا، و(بارديك ديفاس) من أسيا الوسطى، ورقية تراوري من مالي، وذاكر حسين الموسيقي الهندي الأكثر شهرة في فن الطبلة وغيرهم.
ومثل أمريكا الشمالية، (ودي غي) أسطورة “شيكاغو بلوز”، الذي حضر للمرة الأولى بالمغرب رفقة أكبر رواد الموسيقى الأسطورية في الثقافة الأفروأمريكية، هذا فضلا عن مشاركات أخرى لفنانين من الصين وفلسطين وهنغارايا وبلغاريا وكازاخستان وأوزبكستان ، الذين احيوا سهرات ليالي المدينة العتيقة والليالي الصوفية بفضاء دار التازي.

ومثل المغرب نخبة من الفنانين والفرق التراثية، بالإضافة الى تنظيم حفل عربي يهودي أندلسي شارك فيه خيرة من  الفنانين المسلمين واليهود، ممثلين غنى وجمالية التراث الثقافي والفني والإنساني الكوني.
وكان من بين ابرز المشاركين في دورة هذا المهرجانان الذي صنفته إحدى المجلات البريطانية ضمن المهرجانات الثلاث الأوائل في العالم، الفنان العراقي كاظم الساهر، الذي شارك هذا العام للمرة الثالثة على التوالي، حيث تم منحه المفتاح الذهبي لمدينة فاس في إحدى دورات المهرجان السباقة، تقديرا لفنه الرفيع، ولمشاركاته العربية والدولية المتميزة، فضلا عن فرق ومجموعات تراثية مغربية وعربية منها مجموعة (عبيدات الرما) المغربية التي غنت أمام ما يقارب من 170 الف متفرج في الهواء الطلق، وهو الحفل الذي كان الأكبر للفرقة على الإطلاق، وقدمت خلاله لوحات فنية وشعبية، ومقامات موسيقية عريقة امتزج فيها التراثي بالشعبي، والروحي بالثقافي والإنساني والوجداني الجميل.

تكريم نيلسون مانديلا
وشهدت الدورة تكريما خاصا لإيقونة النضال الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا ضد الميز العنصري ، وكل ما يسيء إلى روح الإنسان، وذلك من خلال عقد عدد من الندوات واللقاءات في إطار منتدى فاس ( روح للعولمة ) والتي تمحورت حول شخصية مانديلا، الذي ناضل ضد الذل والهوان والعنصرية، بالإضافة الى تنظيم سهرة فنية ضخمة إحياء لروح مانديلا، وجمعت الأسطورتين (يوسو ندور) ب(جوني كليك) بفضاء باب الماكينة التاريخي.
كما عرفت الدورة، تنظيم اوراش فنية وندوات تمحورت حول الثقافات والهويات، وذلك في إطار” منتدى فاس “، الذي عقد هذا العام تحت شعار ” ثقافات وهويات في تحول “، (السياسة وفق منظور نيلسون مانديلا) و(المجتمعات متعددة الثقافات و تحديات العيش جنبا الى جنب) و(المغرب و تحديات التنوع)، و(المقاولة والقيم الروحية)، و(هل يمكن إنتاج نموذج من نيلسون مانديلا بالشرق الأوسط)، وذلك بمشاركة نخبة من الباحثين والأكاديميين الدوليين ومن عالم الفكر، مغاربة وأجانب.

روعة الموسيقى الأفرو أمريكية
وكان مسك ختام الدورة تنظيم حفل فني كبير، طابقه روعة الموسيقى الأفروامريكية، اقيم فضاء باب الماكينة التاريخي، وأحياه الفنان (بودي غي) عازف القيتارة، وأسطورة بولز شيكاغو، والذي شارك لأول مرة في هذا المهرجان، رفقة فرقة(هوت ايت براس) من شيكاغو أيضا، والتي كانت ضيف شرف الحفل الفني، وقدمت للجمهور لوحات فنية جسدت بكل تفاصيل الإيقاع الحي أوجاع السود ومآسيهم ومعاناتهم من سموم العنصرية وآهاتها، وتمردهم، للتخلص في عهود العبودية.

وشكل الحفل فني مناسبة حقيقية للجمهور لاكتشاف عالم أخر للموسيقى الأمريكية والإفريقية بكل تنوعها، خاصة تاريخ مدينة شيكاغو التي تميزت بتيارات موسيقية مختلفة، والتي شكلت احد المقومات والمنابع الأساسية للموسيقى الأمريكية المعاصرة.
إلى هنا يمكن التأكيد على أن هذا المهرجان، الذي يكرم الموسيقى العريقة بكل ألوانها المختلفة، التي تروم تقريب الثقافات وترسخ لروح التعايش بين مختلف الحضارت والشعوب، وبالنظر إلى آفاقه الكونية، وقيمه الإنسانية، وصل صداه الى عدد من البلدان، حيث ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية منظمة(روح فاس) التي تنظم كل سنتين مهرجان وملتقى فاس من خلال برنامج يشمل عشرين مدينة أمريكية . وقد نظمت لهذه الغاية جولة في شهري أكتوبر ونونبر 2006 شملت العديد من المدن الأمريكية، قدم خلالها حفل موسيقي في الكيرنيجي هول بنيويورك . وتعميم (روح فاس) من خلال هذه التظاهرات ينطلق الآن من مدينة فاس باتجاه مختلف أرجاء العالم ، فقد عبرت الكثير من المدن كميلانو، وتورينو الايطاليتين ، وبرشلونة، وإشبيلية ، مورسيا، والعاصمة مدريد، ولندن، عن رغبتها في أن تصبح بمثابة محطات تتناوب على بث رسالة المهرجان ولقاءات فاس والتي تتلخص في حوار القيم الروحية من خلال الموسيقى وخلق ثقافة تدعو إلى السلم مدعمة بعولمة متعددة تحترم القيم الأخلاقية والروحية، وتساهم بشكل كبير في زرع مبادئ التسامح والتعايش الكوني عبر نبل وسمو الموسيقى الروحية التي تتكلم كل اللغات.


إعلان